“الفكر الفلسفي المعاصر في سوريا”.. ستة تيارات أساسية
قبل سقوط الدولة العثمانية في عام 1918، وتحديدًا في عام 1902، أعلن عن وفاة المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي، الذي كان أحد أبرز مناهضي الاستبداد في سوريا، وبعد سنوات من دخول البلاد في صراع ضد الانتداب الفرنسي الذي انتهى رسميًا في 1946، بدأت حركات فلسفية وقومية وتحررية وسياسية تظهر في سوريا.
أدت هذه الحركات، بالإضافة للأفكار الجديدة، إلى بروز مفكرين وفلاسفة سوريين، قدموا أفكارًا في ظروف شديدة الحساسية على الصعيد السياسي، وخاصة فيما بعد فترة الخمسينيات وصعود المد القومي، والمعارك ضد الاحتلال الإسرائيلي، و”العدوان الثلاثي” على مصر في 1956، وصولًا إلى ما عُرف بـ”نكسة 1967″، وهزيمة العرب.
وضعت هذه العوامل كلها، بما يضاف إليها من غياب الاستقرار السياسي في سوريا نتيجة الانقلابات المتعاقبة، مفكرين سوريين أمام تحدٍّ لفهم الواقع في تلك الفترة، ومحاولة نقده وتحليله، ضمن التيارات الفلسفية المختلفة المنتمين إليها، سواء كان صادق جلال العظم أم جورج طرابيشي وغيرهما.
كثيرون من الفلاسفة السوريين غير معروفين، نتيجة سيطرة النظام السوري على الإعلام في البلاد بشكل كامل وبقبضة أمنية مشددة ومدروسة، منذ وصول حزب “البعث” إلى سدة الحكم في 1963، لكن مفكرين سوريين قدموا إسهامات كبيرة في مجال الفكر ونقده، وهي بحد ذاتها محاولة لتحدي الأمر الواقع الذي فرضته السياسة والعسكر، إلا أن كتاب “الفكر الفلسفي المعاصر في سوريا” يوضح وباستفاضة هذا الأمر.
الكتاب يمكن اعتباره مرجعًا متكاملًا وأشرف عليه عدد من الباحثين، ضمن سلسلة أطلقها “مركز دراسات الوحدة العربية” في نهاية عام 2020، ويتكون من 700 صفحة تقريبًا، وأعده يوسف سلامة ومشير باسيل عون.
ويعد الكتاب هو الثاني في السلسلة، التي بدأت بـ”الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان”، وصدر في 2017، وإلى جانب استفاضته في شرح ومناقشة الأفكار الفلسفية الصادرة عن كتاب ومفكرين سوريين، يشرح كذلك خلفيتهم وأسبابها، والمذاهب الفلسفية التي ينتمون إليها، وهي ستة تيارات أساسية كتب عنها يوسف سلامة في مقدمة الكتاب.
التيارات هي “الماركسي”، وهو الأغلب في البيئة الثقافية السورية المعاصرة ويتسم بالواقعية الجدلية، ومن أبرز رواده إلياس مرقص وياسين الحافظ وصادق جلال العظم والطيب تيزيني وبوعلي ياسين، وعملوا على ابتكار سبل جديدة في تطبيق التحليل الماركسي على الواقع العربي.
التيار الثاني هو “النقدي التاريخي”، ومن المنتمين إليه نايف بلوز وجورج طرابيشي وبرهان غليون وعزيز العظمة، وعمل على تحليل الواقع العربي تحليلًا علميًا نقديًا موضوعيًا تاريخيًا.
أما الثالث فهو “المذهب التفكيكي السلبي”، وينتمي إليه مطاع الصفدي ويوسف سلامة، والرابع “المذهب الوجودي”، ومن رواده أحمد برقاوي وتيسير شيخ الأرض، والخامس هو “المذهب الإنساني الإيماني”، وفيه تبرز أسماء أنطون مقدسي وعبد الكريم اليافي، وفيه يؤمنون بـ”المسعى الإنساني الذي يرتفع بالإنسان لمصاف الاختبار الروحي الأعمق والأسمى”.
أما المذهب الأخير فهو “العقلاني”، ومن أسمائه جميل صليبا وبديع الكسم، ويعتبر أن العقل مرجع أساسي في تقديم وقائع الوجود وأداة سلطة عليا في الحكم على الأمور.
يرى الكتاب أن التنوع في الانتساب الفلسفي يشير إلى أن الفكر الفلسفي المعاصر هو ثمرة جميع الاجتهادات التي ساقها هؤلاء الفلاسفة، كما يناقش مدى صلاحية أفكارهم لتكون في سياق التفكير النقدي البناء ولا تقارن بـ”فتوحات الفلاسفة العالميين”.
هذا الكتاب ليس للتسلية ولا للقراءة في المواصلات، هو كتاب معرفي بحت، وبقدر ما يبدو في ظاهره أنه يتوجه للمختصين، خاصة مع المواضيع والأفكار التي يقدمها واللغة التي استخدمها، إلا أنه كذلك في غاية الأهمية لأنه يسلط الضوء على إسهامات معرفية، ويمكن اعتباره وثيقة تاريخية لشقّ محدد ومعيّن، وله القدرة على فتح أبواب النقاش والسؤال حول مئات الأفكار والنظريات السياسية والاجتماعية في بلد كسوريا، ارتبط فيه الاستقرار بالقمع والدكتاتورية، ورفع شعارات حق يراد بها باطل كالمقاومة والممانعة والصمود والتصدي.
في الكتاب فرصة لفهم ما حصل وما قد يحصل في سوريا مستقبلًا، وماذا حصل لمجتمعها عبر السنين، وهو كذلك وثيقة للمقاومة بأصعب الطرق، عبر الفكرة التي لا يمكن قمعها وتتناقلها الأجيال، بما في ذلك كتاب “النقد الذاتي بعد الهزيمة” لصادق جلال العظم، الذي قدم فيه نقدًا قاسيًا للمجتمعات العربية عقب هزيمة 1967.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :