يستقصي هذا التحقيق أحوال المحتجزين السوريين في ليبيا خلافاً للقانون الدولي، وانتهاكات حقوق الإنسان داخل مراكز احتجاز المهاجرين، وخاصة تلك التي تتبع “جهاز دعم الاستقرار”.
التحقيق الذي أنجزته سيريا انديكيتور بالتعاون مع عنب بلدي، يدخل بعض المراكز، ويوثق الظروف غير الإنسانية للاحتجاز التعسفي، وتعذيب المحتجزين جسديّاً ونفسيّاً بشتى الوسائل، من دون إحالتهم إلى القضاء، وابتزازهم قبل وأثناء الاحتجاز، وصولاً إلى مساومة ذويهم لإطلاق سراحهم مقابل مبالغ مالية. تكشف خيوط التحقيق عن وجود تنسيق في بعض الحالات بين شبكات الإتجار بالبشر، وبين الأجهزة والميليشيات في شرق وغرب ليبيا.
حين خرج عليّ من سوريا قبل عامين، كان يعلم أن رحلته المنشودة نحو أوروبا تنطوي على مخاطرة عبور البحر تهريباً من ليبيا، لكن الشاب البالغ من العمر 21 عاماً لم يكن يتصوّر أنّه سيذوق الويلات قبل أن تبدأ تلك الرحلة!. احتُجز عليّ في ليبيا، وتعرّض للضرب والتنكيل والإهانات، وأصابته الأمراض، ما فاقم وضعه الصحيّ سوءاً، وهو المصاب بمرضٍ قلبيّ.
“يتعمّد السجانون ضرب المحتجزين على وجوههم، لكي تبقى آثار الكدمات والصفعات رادعاً لمن يفكر في مقاومتهم مرة أخرى”، يقول علي في سياق شهادته حول مراكز احتجاز المهاجرين الليبية التي نجا منها في نهاية المطاف، لكن مُحمّلاً برضوض جسديّة تطلّب شفاؤها وقتاً، وأخرى نفسية ما زالت تُلازمه حتى اليوم.
كان الشاب قد غادر مدينة القنيطرة في الجنوب السوري في شهر آب 2022، آملاً أن يصل إلى أوروبا عبر ليبيا، مقابل 3700 دولار أميركي تشمل تذكرة الطائرة نحو ليبيا، والإقامة المؤقتة فيها، وأجرة عبور البحر، كما نص اتفاقه مع أحد أفراد شبكة التهريب. بعد وصول عليّ بأيام اقتحم عناصر يتبعون “جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية” الليبي مكان الإقامة المؤقت، واقتادوه إلى أحد مراكز الاحتجاز مع 40 مهاجراً من جنسيات مختلفة.
محتجزون بالآلاف
في شباط/فبراير الماضي قالت منظمة “يونيسف” إن عدد المحتجزين في مراكز الاحتجاز الليبية قد وصل إلى 5 آلاف شخص، 30% منهم من الأطفال الذين يعيشون ظروف احتجاز قاسية للغاية مع محدودية الوصول إلى الاحتياجات الأساسية.
يُتهم هؤلاء بالهجرة بطريقة غير شرعية، ما سوّغ لجهاز دعم الاستقرار الليبي، المسؤول المباشر عن مراكز الاحتجاز في حكومة غرب ليبيا احتجاز الآلاف، وتكديس المئات منهم في عنابر صغيرة، بحسب الشهادات التي حصلت عليها “سيريا انديكيتور/ عنب بلدي”.
وبعد نحو 13 عامًا من الصراع، لا تزال انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الجماعات المسلحة والميليشيات متفشية، وتتنافس النخب السياسية ومجموعة متنوعة من الكيانات الشبيهة بالسلطة على الشرعية والسيطرة على الأرض، حسب تقرير المنظمة الدولية لحقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش) الصادر في أيلول 2023.
وفي موضوع الهجرة، وصف الرئيس المستقيل لبعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا، عبد الله باتيلي، ليبيا بأنها “أصبحت بشكل متزايد وكأنها دولة مافيا يهيمن عليها عدد من المجموعات المتورطة في الكثير من عمليات التهريب بما فيها الاتجار بالبشر”.
وتسيطر على ليبيا حاليًا حكومتان واحدة في الغرب، معترف بها دوليا وتعرف باسم حكومة الوحدة الوطنية، والثانية في شرق البلاد، غير معترف بها دوليا، وتوالي اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
وتتنافس الأطراف المتصارعة في ليبيا على “المزيد من السلطة، والمزيد من السيطرة على ثروة البلاد”، بحسب وصف باتيلي.
مكث عليّ مع 400 محتجز داخل عنبر واحد في مركز احتجاز “عين زارة” جنوب العاصمة طرابلس، في ما شبّهه بمستودع ضخم مكتظّ بفُرُش مهترئة متراصة بجوار أربع دورات مياه مهملة، ما دفعه إلى “افتراش الأرض عوضاً عن الفراش بسبب ما يحويه من حشرات وروائح كريهة”.
يعاني الشاب من مرض “تسرع القلب فوق البطيني”، ويتسبب له المرض بنوبات تأتي على شكل ضيق في التنفس، وألم في الصدر، وتسارع لنبضات القلب، وأسهمت ظروف احتجازه في تردي حالته الصحية.
على امتداد احتجازه، تعرّض عليّ ومن معه إلى انتهاكات عديدة، وقال إنه شهد تكرار ممارسة بعينها بواقع مرة أسبوعيًا، إذ تدخل مجموعة من الرجال بزي عسكري، اتضح أنهم من عناصر “جهاز دعم الاستقرار”، لتبدأ أعمال التفتيش والاستيلاء على كل ذي قيمة، من خواتم، وساعات، وهواتف، وشواحن، وغير ذلك.
يجري التفتيش “بطريقة مهينة جداً ولا يمكن وصف ما فيها من انتهاك لحرمة أجساد المحتجزين، وعلى مرأى من الجميع، لا أحد يستطيع أن يخفي شيئًا عنهم، ومن يحاول كانوا يسحبونه خارجاً وينهالون عليه بالضرب، ولا نسمع سوى صوت صراخه”.
عليّ، أحد الناجين من مراكز الاحتجاز الليبية
وفق شهادة علي، يشكل المهاجرون الأفارقة النسبة الأكبر بين المحتجزين، وهؤلاء كانوا يتكتلون في جماعات يحمي بعضها بعضاً، ويمنعون الحراس من تفتيشهم وسلب مقتنياتهم، إلى أن “أتى اليوم الذي حفر في ذاكرة جميع من كانوا في مركز الاحتجاز، إذ أمر السجانون جميع السوريين والمصريين بالخروج إلى الباحة، وبقي نحو 250 مهاجراً أفريقياً في الداخل”، يقول علي، ويضيف: “دخلوا عليهم بالعصي والكلاب المدرّبة”. علت صرخات المحتجزين، وحين فرغ الحرّاس من اعتداءاتهم غادروا العنبر وأمروا بقية المحتجزين بالعودة إليه، وعندها شاهد عليّ “رجالاً على الأرض يتلوون ألماً ويبكون، وآثار الضرب بالعصي صبغت جلودهم السمراء ببقع زرقاء، مع آثار دامية تركتها كلاب السجن، كان هذا درساً لكل من يحاول عصيانهم”.
شبكات عابرة للحدود والانقسامات
يزيد عمر يوسف عن خمسة وعشرين عاماً، هو أحد أبناء مدينة حمص وسط سوريا، وأب لطفلين تركهما خلفه في لبنان وغادر بحثاً عن عمل في تركيا. في حزيران/يونيو 2023، ومع تصاعد حملات ترحيل السوريين من تركيا، انطلق يوسف عبر مطار اسطنبول إلى ليبيا، بعد أن تواصل مع “تاجر بشر” وعده بتأمين رحلة آمنة إلى أوروبا مقابل نحو 1600 دولار أميركي.
تعكس شهادة يوسف اتساع حجم شبكة الإتجار بالبشر التي تعامل معها، ووتوزّع نشاطها على دول عديدة، والقدرة على التنسيق حتى بين القوى المتصارعة داخل ليبيا. تعرّف الشاب عبر أشخاص أردنيين إلى “مندوب” من مدينة حمص يعمل مع المهربين. تولى “ألمندوب” تأمين الفيزا والموافقة الأمنية ليوسف وآخرين رافقهم الرحلة، وفي مطار بنغازي الليبي استقبله “مندوب” آخر، تولّى إنهاء إجراءات الدخول إلى الأراضي الليبية.
وبرغم انقسام السيطرة في ليبيا بين شرق وغرب، تدير كلّ شطرٍ حكومة تتبع لها أجهزة وجماعات، وتنشط فيهما ميليشيات متصارعة، فإن نشاط شبكات الإتجار بالبشر عابر للجغرافيات ببساطة مدهشة. وصل يوسف إلى مطار بنغازي الواقع تحت سيطرة حكومة شرق ليبيا (خليفة حفتر)، ومن هناك تلقّفه “المندوب”، ثم رتّب نقله إلى سرت. كان يوسف يستقل سيارة واحدة مع ثمانية آخرين في مثل وضعه، اعترضهم حاجزٌ على أبواب سرت، ثم سلّمهم إلى “دائرة الهجرة غير الشرعية”، التي احتجزتهم يومين، ثم أخلت سبيلهم.
عاود أفراد المجموعة التواصل مع “المندوب”، الذي وجّههم نحو مدينة مصراته التي تتبع حكومة غرب ليبيا (عبد الحميد الدبيبة)، وهناك استأجروا غرفة في فندق لمدة أسبوع، إلى أن اقترب موعد رحلته الموعودة إلى أوروبا في تموز 2023. أودعَ يوسف رفقة آخرين في أحد المخازن، ونال نصيبه من الضرب والتجويع والإهانات. كان عدد الموجودين في ذلك المخزن 204 أشخاص، من بينهم 32 سوريّاً، بحسب شهادة يوسف، كانوا ينامون على دفعات لأن الغرفة المخصصة لهم لا يتسع لنومهم في الوقت نفسه، للمخزن مرحاض واحد، وسقوف غرفه من التوتياء تحت حرّ ليبيا الشديد. أمضى يوسف ورفاقه 27 يوماً في ذلك المخزن، وأخيراً نُقل رفقةَ 107 أشخاص آخرين في شاحنة مُعدة لنقل الرمال، ثم بواسطة بلم مطاطي نُقلوا بحراً إلى جرّافة متهالكة (قارب لصيد السمك)، وكان نصيب يوسف مع 75 آخرين التزاحم في خزانات تبريد الأسماك ببرودتها، وروائحها الخانقة.
داخل ليبيا كنا مجرّد “بضاعة”، يضعنا المهربون داخل السيارة ولا يُخبروننا إلى أين سنذهب، يغيرون الوجهة حين يشاؤون وإلى حيث يشاؤون. كان المهرّب هزيلاً ضعيف البنية، لكنه يتحكم بنا باستخدام السلاح، وبسطوة مجموعته المدعومة من الحكومة، أما نحن فليس لنا أحد، وإن قُتلنا فقد لا يعلم بنا أي شخص
شهادة يوسف
أحد الناجين من مراكز الاحتجاز الليبية
يشرح يوسف لـ”سيريا انديكيتور/ عنب بلدي” أن الجرّافة كانت متضرّرة بشكل واضح، وتدلف المياه إلى جوفها، وقد زُوّدت بجهاز بدائي لشفط المياه إلى الخارج من جديد، فأحسّ الشاب ومن معه في الخزانات بأنّ خطر الغرق يحوم حولهم منذ البداية.
بعد نحو ساعتين لاحظ الركّاب انسحاب اثنين من تجار البشر هما القبطان ومساعده، اللذان استقلّا قارباً صغيراً كان يسير بمحاذاة الجرافة التي تُركت بلا قائد! وما هو إلا وقت قصير حتى وصلت دوريات تتبع خفر السواحل في حكومة شرق ليبيا، واحتجزت جميع الركاب، الذين أيقنوا أن الأمر بأكمله سار وفق اتفاق بين تُجار البشر وخفر السواحل.
شرق غرب.. وبالعكس!
صادر أفراد الدورية جميع ما وقع تحت أيديهم من ممتلكات طالبي اللجوء من مال وأجهزة إلكترونية وأوراق ثبوتية، ثم نقلوا الجميع إلى مدينة سرت، وسلموهم لمجموعات “الضفادع البشرية” التابعة للقوات البحرية لحكومة شرق ليبيا. شعر يوسف بشيء من الارتياح لأنه احتُجز في سرت (حكومة الشرق)، وليس في طرابلس (حكومة الغرب) التي تُعرف بأن سجونها أشدّ قسوة.
بعد أيام طُلب من يوسف وفاقه الاستعداد، ثم حُشروا في بضعة باصات ونُقلوا في رحلة استمرت تسع ساعات بلا طعام أو شراب أو حتى توقف لدخول الحمّام، وبعد وصولهم اكتشف المحتجزون أنهم نُقلوا إلى طرابلس، وتحديداً منطقة “السكّة” حيث أودعوا “دائرة السكة للهجرة غير الشرعية”. مكثوا هناك مُدة بلا أي تحقيق، ولم يُحالوا للقضاء، بل سُلموا جوازات سفرهم ونُقلوا إلى سجن “عين زارة” التابع لحكومة غرب ليبيا.
السوريون ثانياً
خلال العام 2023 عبَر نحو 60 ألف طالب لجوء طريق وسط البحر الأبيض المتوسط، وقالت الوكالة الأوروبية للحدود وخفر السواحل (فرونتكس) إن 41% من إجمالي عمليات العبور إلى أوروبا حصلت عبر هذا الطريق، ما جعله طريق الهجرة الأكثر نشاطًا ودموية، وتسلك الطريق مراكب تنطلق من الجزائر، ومصر، وليبيا، وتونس، بحسب المجلس الأوروبي للاجئين.
توضح مسؤولة الاتصالات في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ساني بيسمانس/Sanne Biesmans، أن المفوضية “تُجري زيارات إلى مراكز الاحتجاز التابعة لمديرية مكافحة الهجرة غير الشرعية في جميع أنحاء ليبيا بالتنسيق مع السلطات الليبية”. على أن تلك الزيارات لا تشمل المراكز التابعة لـ”جهاز دعم الاستقرار/ SSA” الذي أنشئ في كانون الثاني/يناير 2021، واستحدث مراكز احتجاز عديدة لا تستطيع فرق “المفوضية” أو وكالات الأمم المتحدة الأخرى والمنظمات الدولية الوصول إليها.
تؤكد بيسمانس لـ”سيريا انديكيتور/ عنب بلدي” أن تلك الزيارات أفضت إلى توثيق بيانات 118 محتجزاً سوريّاً، ولكنّ هذه الأرقام ليست نهائية، بل مُتغيرة، إذ قد يُطلق سراح أفرادٍ أو احتجازهم آخرين بين زيارة وأخرى تجريها فرق “المفوضية”.
تواصلت “سيريا انديكيتور/ عنب بلدي” مع “جهاز دعم الاستقرار”، عبر البريد الإلكتروني الخاص بالجهاز، وأيضاً عبر صفحته الرسمية على موقع فيسبوك للسؤال عن أعداد السوريين داخل مراكز الاحتجاز التابعة للجهاز، وعن ظروفهم ومصيرهم المتوقع، لكن لم يحصل فريق التحقيق على أي جواب حتى ساعة نشر هذا التحقيق.
فيما تفيد تقديرات منظمة “بلادي” الليبية المعنية بحقوق الإنسان، بأن عدد السوريين داخل مراكز الاحتجاز الليبية يتجاوز 600، ومن بينهم نساء وأطفال، يتوزع معظم السوريين المحتجزين في القسم الغربي من ليبيا، ونسبة أقل في الشرقي، فضلاً عن احتجاز جزء منهم لدى “حرس الحدود” الليبي، رغم أنه “غير مخوّل باحتجازهم” وفق طارق الملوم، رئيس المنظمة.
يؤكد الملوم لـ”سيريا انديكيتور/ عنب بلدي” أن “الجنسية السورية في العاملين الأخيرين جاءت ثانيةً بعد السودانية في لوائح جنسيات المهاجرين غير الشرعيين في ليبيا، ويراوح المعدل الشهري للسوريين الذين يدخلون مراكز الاحتجاز بين 30-40 في الوضع الطبيعي، وفي بعض الأحيان يزيد ليراوح بين 50-120 شخصاً”.
“ميليشيا” برعاية رئيس الحكومة
أنشئ “جهاز دعم الاستقرار” بموجب قرار حكومي في كانون الثاني/يناير 2021، وترأسه عبد الغني الككلي، الذي كشفت منظمة العفو الدولية أن “له تاريخ حافل من الجرائم المشمولة بالقانون الدولي، إلى جانب انتهاكات خطيرة موثقة لحقوق الإنسان ارتكبتها الميليشيات تحت قيادته”.
يُعد الكللي المعروف بـ”غنيوة” أحد أكثر قادة الميليشيات نفوذاً في طرابلس، بحسب تقرير منظمة العفو الدولية لحقوق الإنسان.
يحصل “دعم الاستقرار” على تمويله من “حكومة الوحدة الوطنية” التي تُدير غرب ليبيا وتتخذ من طرابلس عاصمةً، ويرأسها عبد الحميد الدبيبة، ما “سهّل على الميليشيا الإفلات من العقاب على عمليات قتل، واعتراض طرق المهاجرين واللاجئين واحتجازهم تعسفياً، وممارسة التعذيب وفرض العمل القسري، إلى جانب انتهاكات أخرى مروعة لحقوق الإنسان”، بحسب منظمة العفو الدولية. فيما أكَّدت مصادر في وزارة الداخلية في طرابلس لمنظمة العفو الدولية، أن “عمليات جهاز دعم الاستقرار لا تخضع لإشراف الوزارة، وإنما تتبع إدارياً لرئيس الحكومة، ولا يوجد أساس قانوني يستند عليه الجهاز للانخراط في عمليات اعتراض سبيل الأفراد”.
داخل مراكز الاحتجاز
نُقل يوسف ورفاقه إلى “العنبر ثمانية” في سجن عين زارة بمدينة طرابلس، الذي كان يحوي نحو 600 محتجز من جنسيات شتّى، بتهمة “الهجرة غير الشرعية”.
لا تتوافر في مركز الاحتجاز المكتظ مياه نظيفة، ولا مستلزمات نظافة، وفي العنبر 14 حماماً بلا أبواب، نصفها خارج الخدمة. أما الطعام فقليل وذو نوعية سيئة، ويتناوب 600 محتجز على سبعة صحون فقط، فتأكل مجموعة تلو الأخرى باستخدام الصحون ذاتها، ولا تُغسل سوى مرة واحدة قبل كل وجبة وباستخدام مياه المراحيض بدون أي مواد تنظيف. كما تكاد التهوية تنعدم داخل العنبر، ومع اشتداد الحر في شهور الصيف يغدو الوضع كارثيّاً.
“أغلب من جرى احتجازهم من السوريين عانوا من سوء تغذية وأمراض جلدية مثل الجرب وبعض الحساسيات، بسبب انعدام المياه والتهوية داخل هذا المكان، إضافة إلى الاكتظاظ الكبير جداً في أغلب الأماكن التي احتجزوا فيها، والظروف غير الآدمية للمحتجزين من جميع الجنسيات”
طارق الملوم، رئيس منظمة بلادي
أمام هذه الظروف تنتشر الأمراض الجلدية بكثافة، وتكثر حالات الإغماء والإعياء بسبب نقص التغذية الحاد، بحسب يوسف الذي خسر في أثناء احتجازه نحو 12 كيلوغراماً من وزنه. يقول الشاب: “أصابني الجرب والقمل شأني شأن آخرين، كنت أرى المحتجزين من حولي يهرشون جلودهم إلى أن تسيل دماؤهم”.
“تجويع، اغتصاب، قتل”
تؤكد منظمة “رصد الجرائم في ليبيا“، وهي منظمة حقوقية مستقلة، صعوبةَ إحصاء عدد المهاجرين وطالبي اللجوء في مراكز الاحتجاز، لعدم وجود نظام رسمي لتسجيل المحتجزين، ما يعني أن جهاز الهجرة التابع لوزارة الداخلية وهو الجهة المختصة لا يملك أي إحصائيات لعدد المحتجزين أو جنسياتهم، وفق تصريحات المنظمة لـ”سيريا انديكتور/عنب بلدي“.
يتعرض المهاجرون وطالبو اللجوء من الرجال والنساء والفتيات لمختلف أنواع التعذيب والإهانة وإساءة المعاملة داخل مراكز الاحتجاز والسجون في أنحاء ليبيا.
ووثقت منظمة “رصد الجرائم في ليبيا” انتهاكات عديدة، من بينها التعذيب بشتى أنواعه، بما فيه التحرش الجنسي والاغتصاب للرجال والنساء والفتيات القاصرات على حدّ سواء، والتجويع الممنهج، والإهمال الطبي والحرمان من الدواء والعلاج، والحرمان من استعمال دورات المياه، والحرمان من التواصل مع العالم الخارجي، فضلاً عن توثيق حالات قتل بسبب شدة المرض، وقتل تحت التعذيب.
وفي بعض الحالات سُجل تشغيل قسري للمهاجرين في أعمال البناء والنظافة ونقل أشياء من مكان إلى آخر سواء داخل أو خارج مكان احتجازهم، وفي حالات شائعة جداً تعرض المهاجرون للابتزاز، وطلبت منهم مبالغ مالية ضخمة لا يقدرون على دفعها مقابل إخلاء سبيلهم، بحسب المنظمة.
توزّع مراكز الاحتجاز
في ليبيا 20 مركز احتجاز رسمي، تتوزّع بين شرقها وغربها، ووفق تقديرات منظمة “رصد جرائم ليبيا” يرتفع العدد إلى 29 مركزاً.
تنقسم مراكز الاحتجاز أو كما تسميها السلطات “مراكز الإيواء” الى نوعين: مراكز فرعيّة، وهي مراكز مؤقتة يُحتجز فيها المهاجرون وطالبو اللجوء مُدداً قصيرة، تمهيداً للنقل إلى المراكز الرئيسية التي تشكل النوع الآخر.
يعتبر الوضع في شرق ليبيا “منظماً إلى حد ما” مقارنة بغربها، الذي يضم عدداً أكبر من المراكز.
العدد الأكبر من المهاجرين السوريين يحتجزون في “مركز التجميع والعودة” في منطقة غوط الشعال وسط طرابلس، يُعرف محلياً باسم “مركز المباني”، وهو واحد من أكبر مراكز الهجرة في ليبيا بسعة نحو 1500 مهاجر، ويعتبر من أكثر المراكز التي تشهد انتهاكات لحقوق الإنسان والتعذيب وإساءة المعاملة
منظمة رصد الجرائم في ليبيا
قانون مُنتهك
يقول مجدي شريف الشعباني لـ”سيريا انديكيتور/ عنب بلدي” إنّ “القانون الليبي يُجرّم الهجرة غير الشرعية، ويوجد قانون معني بمكافحتها”. يوضح الشعباني، وهو إداري في الشؤون القانونية لهيئة مكافحة الفساد، وأستاذ في القانون العام في الأكاديمية الليبية للدراسات العليا، أن ذلك القانون “يُطبق على أي مهاجر يجري اعتراضه في البحر أو عند الحدود البرية، أو أثناء محاولته الهجرة بطريقة غير شرعية، أو دخول الأراضي الليبية بطريقة غير شرعية”.
بالعودة إلى القوانين الليبية المعنيّة بالهجرة غير الشرعية، نجد أن القانون رقم 19 للعام 2010 الشرعية، يعُد كل من دخل الأراضي الليبية بلا إذن أو تصريح من الجهات المختصة، أو أقام فيها، أو حاول العبور منها إلى دولة أخرى مهاجراً غير شرعي”.
على أن جميع الأشخاص الذين قابلناهم حصلوا على الموافقة الأمنية ودخلوا ليبيا بشكل نظامي.
يعاقب كل مهاجر غير شرعي بالحبس مع الشغل، أو بغرامة لا تزيد عن ألف دينار، وفي جميع الأحوال “يجب إبعاد الأجنبي المحكوم عليه في إحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون من أراضي الجماهيرية العربية الليبية العظمى بمجرد تنفيذه العقوبة المحكوم بها”.
القانون الليبي رقم 19 للعام 2010
يضيف الشعباني أن “المهاجرين يوقفون لدى مأمورية الضبط القضائي في جهاز الهجرة غير الشرعية التابع لوزارة الداخلية، ثم بعد ذلك يجري عرضهم على وكيل النيابة المعني، ومن ثم فتح محضر تحقيق وأخذ أقوالهم، ليحالوا بعدها إلى المراكز الخاصة بالهجرة غير الشرعية إلى حين صدور قرار بحقهم”.
من جهته يقول عبد السلام صرقن، وهو محامٍ ليبي، يعمل في مكتب مستقل في مدينة الزاوية في ليبيا: “عند الاحتجاز تكون المراحل وفق القانون الليبي، تحقيق وتمديد وإحالة إلى غرف الاتهام، ومن ثم إحالة إلى القضاء لمحاكمة المتهم”. ويضيف قائلاً إن “جميع المهاجرين تصدر قرارات بإعادتهم إلى بلدانهم، ما عدا السوريين بسبب وجود قانون دولي يمنع ترحيلهم”.
يقول صرقن إن جميع القضايا التي اطّلع عليها “أُفرج عن أصحابها إما بضمانة جوازات سفرهم، أو ضمانة محامين، أو بكفالة مالية تكون عبارة عن مبلغ رمزي”. لكنّ عشرة محتجزين سابقين تحدثت إليهم معدة هذا التحقيق أكدوا أنهم لم يعرضوا على القضاء، ولم يستطيعوا توكيل محامين أو الحديث مع ذويهم، وخرج معظمهم إما عن طريق تدخل منظمات أممية، أو دفع رشا بمئات الدولارات.
العملة الصعبة “تتكلّم”
يروي يوسف أن المحتجزين كانوا يستخدمون الهواتف المحمولة للحراس مقابل مبلغ مالي يكون إمّا بالدولار أو اليورو حصراً، كما يشتري بعضهم علب سجائر من الحراس، ويدفعون مقابل العلبة مبالغ تصل إلى 50 يورو.
تواصلت عائلة يوسف مع أحد “تجار البشر” وتساومت معه من أجل إخراج يوسف وشقيقه من مركز الاحتجاز، بمقابل مالي قدره 600 دولار للشخص الواحد، وبالفعل أُطلق سراحهما مقابل المال بعد 27 يوماً.
أما عبير (35 عاماً)، وهي زوجة لأحد المحتجزين السابقين، فتروي أن زوجها سافر من لبنان بعد أن أمضى فيه مع عائلته أكثر من عشر سنوات، في محاولة للبحث عن حياة أفضل لأطفاله الأربعة.
تقول عبير، إن زوجها أحمد (37 عاماً) لم يكن يستطيع العمل في لبنان، ومع اشتداد مخاوفه من الحملات المتصاعدة ضد السوريين هناك “وجد نفسه أمام خيار وحيد وهو التهريب عبر البحر”.
سافر زوج عبير في أواخر شهر أيار/مايو 2023 عبر طيران “أجنحة الشام” من مطار رفيق الحريري في بيروت، وسرعان ما اعتُقل منتصفَ حزيران في سجن “عين زارة” بطرابلس، بعد أن ضُبط قارب الهجرة الذي استقلّه في منطقة سرت، أثناء محاولته الهجرة بطريقة غير شرعية.
تؤكد السيدة أن زوجها لم يخضع لأي تحقيق، ولم يحاكم، أو ينظر أحد في ملفه. بعد عشرة أيام أخلي سبيل الرجل بعد تدخل مفوضية شؤون اللاجئين، و”كان شكله مخيفًا عندما خرج، فقد خسر كيلوغرامات عديدة من وزنه، وبات في حالة صحية سيئة”، تقول.
في منتصف شهر تموز ومع ارتفاع درجات الحرارة قررنا فتح النوافذ التي تقع في سقف العنبر ليدخل الهواء، وصعد سبعة شبان وفتحوا النوافذ، وما هي إلا لحظات حتى دخل الحراس وأخرجوا الشبان السبعة وأبرحوهم ضرباً حتى تورمت أجسادهم
يوسف، أحد السوريين الناجين من مراكز الاحتجاز
مكث أحمد مُدة في ليبيا، ثم حاول الهجرة مرة ثانية، فاحتُجز من جديد. نُقل هذه المرة إلى مركز احتجاز “مليتا الزاوية”، وسُلب منه جميع ما يملك، علاوة على سحب أوراقه الثبوتية. جرى ترحيل كل من كان معه من الجنسيات الأخرى إلى بلدانهم، أما هو فظل محتجزاً إذ لا يوجد قانون يبيح ترحيله، ولا قانون يستطيع إخراجه.
أمضى أحمد شهوراً في مركز الاحتجاز، ثم أحيل أخيراً إلى النيابة العامة، وأُفرج عنه بعد أن دفع له أحد أصدقائه المحتجزين السابقين كفالة في النيابة العامة درها نحو 20 دولاراً، وفق ما ترويه الزوجة.
“المحاكم أمام معضلة”
يشرح مدير منظمة “بلادي” لحقوق الإنسان الليبية، طارق الملوم، لـ”سيريا انديكيتور/ عنب بلدي” انعدام السبل التي تمكن المحتجزين من الخروج، باستثناء تقديم شكاوى في بعض الحالات الاستثنائية لظروف صحية، أو ما شابه. ويعلل ذلك بأن “معظمهم يُحتجز في الغرب الليبي الذي لا تعترف سلطاته بإجراءات الدخول المعتمدة في شرق ليبيا”
ويوضح أن “الغرب يعمل وفق إجراءات خاصة، وقانون محلي ينص على أن كل من دخل بدون أوراق ثبوتية، أو حاول الخروج منها فهو مهاجر غير شرعي، يُعتقل وتكون عقوبته غرامة مالية، والإبعاد عن ليبيا”.
يؤكد الملوم أن مراكز الاحتجاز التابعة لجهاز الهجرة في وزارة الداخلية، ومراكز الاحتجاز التابعة لحرس الحدود الليبي، لا تعلن عن الأعداد، وتسمح فقط بزيارة بعض المنظمات الحكومية، مثل “المجلس الوطني للحريات” الذي لم يشخص حالة مراكز الاحتجاز بشكل جيد ولم يتطرق إلى أعداد المحتجزين.
كثر من السوريين الذين أطلق سراحهم من مراكز الاحتجاز عاودوا محاولة الهجرة مرة ثانية، وثالثة واعتقلوا، وقد رصدت منظمة “بلادي” حالات لسوريين اعتقلوا ثلاث مرات.
وفق الملوم، وجدت المحاكم نفسها أمام معضلة، فهي لا تستطيع إعادة السوريين إلى بلادهم، لأنهم مشمولون بالحماية الدولية، ولا توجد سفارة، أو أي سبل قانونية لإخراجهم من السجن، “لأن إدخالهم السجن في الأساس غير قانوني”، يقول.
ويضيف: “هناك فوضى في السلك القضائي الليبي، فاحتجاز السوريين مخالف للقانون لأنهم أتوا من بلد نزاع وحرب، وهم من الجنسيات المشمولة بالحماية الدولية. القضاة بعيدون عن الفهم الحقيقي لالتزامات دولة ليبيا، والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها، إلى جانب عدم فهم الفارق بين طالبي الحماية والمهاجرين”.
انتهاك للقانون الدولي
يسري القانون الدولي لحقوق الإنسان على جميع الشعوب وفي كل الأوقات، ولا يشمل ذلك مواطني الدولة فحسب، بل كل فرد يخضع لولاية الدولة أو سيطرتها الفعلية. و”يعني ذلك أنه يحق لجميع المهاجرين، بصرف النظر عن وضعهم، التمتع بحقوق الإنسان الدولية نفسها مثل أي فرد آخر، وفقاً لمفوضية شؤون اللاجئين.
وتُلزم الدول بموجب هذا القانون بـ”احترام وحماية وإعمال حقوق الإنسان للمهاجرين”، وهذا ينطوي على الامتناع عن الاحتجاز التعسفي أو التعذيب أو الطرد الجماعي للمهاجرين.
في 11 كانون الثاني/يناير الماضي، قال تقرير صادر عن منظمة “هيومان رايتس ووتش”، إن “حقوق الإنسان في ليبيا تمر بعام مضطرب وسط قمع السلطتين المنقسمتين في شرق البلاد وغربها، وما زالت الجماعات المسلحة والميليشيات ترتكب انتهاكات ضد الليبيين والمهاجرين بدون محاسبة”.
وفق التقرير عانى المهاجرون وطالبو اللجوء من ظروف غير إنسانية، وتعرضوا للتعذيب والعمل القسري والاعتداء الجنسي أثناء الاعتقال التعسفي في وزارتي الداخلية في حكومتي شرق ليبيا وغربها، على حدّ سواء.
وأكدت المنظمة أن “وزارة العدل احتجزت آلاف الأشخاص لفترات طويلة دون محاكمة، في سجون تديرها السلطات “بالاسم فقط ولكن السيطرة الفعلية هي للميليشيات”.
وفي 14 أيار/مايو الماضي، أفاد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، بأن فريق الأمم المتحدة الموحد في ليبيا خلال الأشهر الأخيرة، “حقق تقدماً قوياً في التحقيقات التي يقوم بها للجرائم المزعومة في مراكز الاحتجاز الليبية في الفترة بين 2014- 2020”. وأضاف في الإحاطة السادسة التي قدمها أمام مجلس الأمن الدولي، أن الفريق نفذ 18 مهمة في ثلاث مناطق جغرافيّة ليبيا، وجمع أكثر من 800 دليل من مواد مرئية وصوتية، إلى جانب أكثر من 30 إفادة ومنها إفادات عبر المقابلات.
الاتفاقية الأفريقية للاجئين
لم تصادق ليبيا على اتفاقية اللاجئين للعام 1951، ولا على بروتوكولها للعام 1967، ولكنها من ضمن الدول الموقعة على اتفاقية منظمة الوحدة الأفريقية في العام 1969 التي تختص بمشكلات اللاجئين في أفريقيا.
تعرف الاتفاقية اللاجئ بأنه “كل شخص يجد نفسه خارج البلد الذي يحمل جنسيته، نتيجة لوجود خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب عرقه، أو دينه، أو جنسيته، أو انتمائه إلى فئة اجتماعية معينة، أو لآرائه السياسية”.
وتنص الاتفاقية على أنه “لا يجوز للدول الأعضاء أن تُخضع أي شخص لإجراءات كالمنع من عبور الحدود أو الطرد أو الإبعاد، وتعرض هذه الإجراءات طالبي اللجوء من العودة أو البقاء في بلد تتعرض فيه حياته وسلامته الشخصية أو حريته للخطر.
وأكدت المفوضية السامية للأمم المتحدة أن ليبيا لم تنفذ بعد اتفاقية منظمة الوحدة الأفريقية من خلال اعتماد التشريعات أو الإجراءات المتعلقة باللجوء.
صادقت ليبيا على اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، في عام 1989، فضلاً عن مصادقتها على اتفاقية حقوق الطفل في عام 1993، إلى جانب اتفاقيات في البحث والإنقاذ البحري.
تحقيق: فاطمة المحمد
تحرير وصياغة: صهيب عنجريني
فيديو وانفوجرافيك: عبد المعين حمص
إشراف: علي عيد
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :