الصحفيون في بلاط السلطة

tag icon ع ع ع

علي عيد

كيف نتعامل مع الصحفي عندما ينتقل من بلاط صاحبة الجلالة إلى بلاط السلطة وقصورها، فكثير من المنتقلين يستعرضون تفوقهم على الشاشات وفي متون أعمدة الرأي وحتى في المؤتمرات الدولية، ويصرون على الاحتفاظ بصفة “صحفي”.

وأذكر أمثلة على ما أسلفت، مجموعة من سوريا ولبنان من الذين انبروا للدفاع عن السلطة، بدءًا بالرئيس مرورًا بأجهزة الأمن، انتهاء بقوى الأمر الواقع التي تداخلت مصالحها.

ومن ينسى من السوريين ناصر قنديل ورفيق نصر الله وغسان بن جدو، حتى التبست هويتهم على الناس، فلم يعودوا يعرفون ما إذا كان هؤلاء صحفيين أم خبراء سياسيين أم طابور سلطة.

وأسأل إن كان ممكنًا اعتبار لونا الشبل، المستشارة في قصر الرئيس بشار الأسد، صحفية أم شريكة حكم، أم أداة سلطة، ولست أتطرق هنا للمصير الذي آلت إليه، وما إن كانت قد قُتلت في حادث مدبر أم عرضيّ.

ومن ينسى المستشارة الإعلامية الأخرى للرئاسة، بثينة شعبان، حين خرجت لتبرر مجزرة الكيماوي بالغوطة، في 21 من آب 2013، بقولها على قناة “سكاي نيوز” الأمريكية، في 5 من أيلول 2013، “إنهم (المعارضة) خطفوا أطفالًا وبالغين من القرى الساحلية ونقلوهم إلى هناك لقتلهم”.

وهل يختلف ما قالته شعبان في تلك المقابلة عما بثته إذاعة “الألف تلة وتلة” الرواندية من تحريض عرقي تسبب بموت مليون شخص في نيسان 1994.

هل التبس على أحد وقتها بأن بثينة شعبان تريد أن تحول جريمة يشار إلى ضلوع جيش النظام الحاكم في ارتكابها وقتل 1400 مدني بالغازات السامة، من جريمة حرب ترتكبها السلطة إلى صراع مذهبي بكذبتها الكبيرة تلك، فقد أرادت أن تقول إن السنة قتلوا أطفال العلويين بعد أن خطفوهم من قراهم.

ونتج عن كذبة شعبان، وكتيبة من الصحفيين، إلى جانب أمراء حرب وسياسيين ومسؤولين، أن مضى على الحرب في سوريا 13 عامًا، وقُتل مئات الآلاف، ودُمرت وتمزقت البلاد، وشُرد الملايين، ولم تجرِ مراجعة واحدة في هذا الخطاب.

ومثل بثينة ولونا هناك العشرات إن لم يكن المئات من الصحفيين، ممن انخرطوا في خطاب السلطة وعنفها، فمنهم من تقبّل خطاب التحريض وشارك فيه واستخدمه بمقالات مكتوبة ومقابلات على الشاشات والإذاعة.

هناك من هم جزء من السلطة باسم الإعلام كالمستشارة شعبان، وهناك من الصحفيين من باتوا جزءًا من جسم السلطة عمليًا كما حصل مع لونا الشبل القادمة من شاشة التلفزيون، أو آخرين تقلدوا مناصب حزبية، أو جرى تسهيل وصولهم إلى “مجلس الشعب” (البرلمان).

وليس مجهولًا أن السباق على المناصب في مؤسسات الإعلام الرسمية السورية، بطبيعة الحال، محكوم بمدى الولاء للسلطة والانتساب إلى حزب “البعث”، وزد على ذلك أن اتحاد الصحفيين الذي يلبس عباءة النقابة لم يكن من الممكن انتخاب أعضاء مكتبه دون أن تكون للحزبيين “حصة الأسد”، وأن ترضى السلطة عن البقية.

وعلى المقلب الآخر، آخرون ممن أسموا أنفسهم صحفيين خرجوا من أجل الحرية وإنهاء الظلم، لم ينجوا من ورطة تشجيع العنف أو تبني خطاب الكراهية، أو حتى تحولوا إلى ناطقين باسم فصائل ومجموعات مسلحة، وبينهم من كان يقدم مداخلات بصفة صحفيين على الشاشات، ثم تبين أنه منخرط بأعمال إجرامية وحمل السلاح.

هناك مسافة بين الصحفي والسياسي، أو حتى بين الصحفي والثائر، مهما كان الهدف نبيلًا، فمهنة الصحافة تشترط أن يتصف العاملون فيها بالقدرة على الفصل بين أدوارهم المهنية وموقفهم السياسي.

في سوريا كان الأمر صعبًا، وضاقت مساحات الحرية منذ زمن بعيد، لكنها تلاشت في الأعوام الـ13 الأخيرة، واستطاع عنف “الدولة” أن يجرّ الجميع إلى مستنقع آسنٍ من الولاءات، ولم تتوفر جدران وخنادق حماية للصحفيين، فلا قوانين تضمن استقلاليتهم، ولا نقابات قادرة على مواجهة السلطة والقوى المقابلة، ولا أمان في موقع العمل أو مناطق النزوح ودول اللجوء المجاورة.

إذًا، هل تورط جميع الصحفيين السوريين في الفوضى؟ ذلك سؤال المليون، والإجابة عنه ليست مجرد تقييم مهني، بل تتطلب تحليلًا عميقًا لبنية المجتمع وطبيعة الصراع.

أزعم أن معظم الصحفيين السوريين لم يتورطوا، أو أنهم لم يكونوا يرغبون في التورط في هذه المعمعة، لكنهم وجدوا أنفسهم في الأتون، ولا ضوابط تحكم عملهم، ولا مؤسسات عريقة أو مستقلة تستوعبهم، وبينهم من اضطر للعمل في مؤسسات ولدت كالفطر في تربة الحروب والصراعات والاستقطابات الدولية والإقليمية.

لا يعفي ما أقوله هنا أولئك الذين ذهبوا إلى أبعد بكثير مما كانوا مضطرين إليه، فثمة صحفيون استغلوا ظروف الحرب وأظهروا ولاء غير مسبوق لأطرافها وعلى رأسهم السلطة في دمشق، طمعًا بدور أو مكانة، دون وازع مهني أو أخلاقي، بينما فضّل آخرون الصمت على الموت، أو الهروب على أن يشاركوا في حفلة الدم.

وإذا كان لا مفر من العدالة الانتقالية، فليكن للصحفيين ممن ركبوا الحرب ونفخوا في كيرها حصة من المحاكمات، كما حصل في رواندا، إذ وقف صحفيون أمام قوس العدالة إلى جانب سياسيين ومسؤولين ورجال أعمال، بعد مذبحة 1994.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة