الفتنة المصابة بالأرق

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

لم يكن ما حصل في مدينة قيصري التركية بحق اللاجئين السوريين من أعمال حرق وتدمير لممتلكاتهم على أيدي جحافل من الهمج والرعاع الأتراك شيئا طارئًا أو سلوكًا عرضيًا، فلطالما حصل سابقًا ما يشبهه في أنقرة وإزمير واسطنبول، وربما مدن أخرى، تخللتها جرائم قتل للعديد من السوريين، كان آخرها قتل يافع سوري في مدينة أنطاليا بدوافع محض عنصرية ولمجرد إرواء غل أنفس مشبعة بالكراهية والعنصرية تجاه السوريين، دون أن تضع الإجراءات الحكومية والمحاكمات بطيئة الإيقاع حدًا لمثل هذا السلوك البدائي المشين، الذي يدل على أن مثل تلك الفئات لم تصل بعد وربما لن تصل أبدًا إلى العتبات الأولى للتحضر البشري.

ما حصل في قيصري تكرر في غازي عينتاب وهاتاي وأنطاليا، ربما بوتيرة وأثر أقل ضررًا، لكن ذلك يؤشر ليس فقط إلى حجم الاحتقان المجتمعي ضد اللاجئين السوريين بسبب شحن لا ينتهي من خطاب كاره ونابذ للآخر، لطالما شكل بضاعة رائجة ورابحة في الخطاب السياسي والصراعات السياسية والانتخابية لمختلف التيارات والأحزاب التركية ممن هي في السلطة ومن هي خارجها لا فرق، بل ويؤشر أيضًا إلى هذا الفشل الذريع وعقم السياسات المتبعة بشأن ملف اللاجئين طوال أكثر من عقد كامل، لكن يدفع السوريون وحدهم اليوم فاتورته من حياتهم وأموالهم وممتلكاتهم واستقرارهم، الذي هو الهدف الرئيس المأمول من بحثهم عن ملاذ آمن.

ما حصل بحق اللاجئين مسبوق بحملات ترحيل عشوائي لمئات من العوائل والأفراد، ومحمول على غضب مكتوم لدى السوريين في مناطق سيطرة “الجيش الوطني” الذراع العسكرية للسياسات التركية في الشمال السوري، بسبب الاستدارة الكاملة لهذه السياسة باتجاه نظام الأسد، والاستعداد الكامل للتطبيع معه، وهو الشيء الذي سيكون ثمنه استعادة سيطرته على مناطق الشمال بالطبع، ما فجّر غضبًا لدى السوريين تم التعبير عنه بمظاهرات حاشدة ضد تركيا وميليشياتها “السورية”، وسياساتها تجاه مناطقهم وتجاه اللاجئين على أراضيها سرعان ما تمت مواجهتها بالرصاص الحي، ثم محاولة تبريرها بالزعم أن ثمة “فتنة” نائمة عبثت بها أيادٍ خفية وأيقظتها وكان لا بد من التصدي لتلك الفتنة المتخيلة.

والفتنة عادة لا تنام، لأن مهمتها هي إيقاظ الأحقاد أو الاحتقانات وتراكم الأخطاء وتحريضها على فعل شيء ما، فكيف تفعل وتقوم بوظيفتها إن كانت تحتاج إلى من يوقظها من نومها.

والحقيقة أن الفتنة في حالة أرق دائم، ولطالما كانت أسباب وجودها حاضرة في المشهد العام سواء على مستوى مسرح الشمال السوري أو على مستوى ملف اللاجئين على الأراضي التركية، ومع الأسف لمّا يقم أحد بفعل شيء للحؤول دون تفجرها.

فتصريحات السياسيين الأتراك بشأن ملف اللاجئين وأن تركيا أنفقت عليهم عشرات المليارات من الدولارات، رغم أن تلك المليارات لم تكن قط من خزائن الدولة التركية، وليست من الحصيلة الضريبية التي تستوفيها من المواطنين الأتراك، بل من معونات دولية وعربية وأوروبية صُرفت للدولة التركية لإنفاق بعضها على اللاجئين والخدمات التي تقدم لهم، هي فتنة في حالة يقظة دائمة لأنها باقية وحاضرة في أذهان الجمهور الذي يرى دولته تغلّب مصالح اللاجئين السوريين على مصالحهم وعلى حسابهم، وهم المنهكون اقتصاديا، وبالتالي يخلق لهم الحافز الأقوى لرفض وجود هؤلاء اللاجئين الذين يفترضون أنهم يشاركونهم أموالهم وبناهم التحتية وماءهم وهواءهم، هذا الرفض الذي سيعكس نفسه سلوكًا عنفيًا ضد اللاجئين كلما ضاقت بهم الحال أكثر.

كل القرارات والتعليمات والتعميمات والإجراءات التي أحالت حياة اللاجئين جحيمًا، وحالت دون توفير الحدود الدنيا من الاستقرار والشعور باليقين تجاه حياتهم واستقرارهم في تركيا، والتي تأتي دائمًا كاستجابة لسياسات يراد منها التضييق على اللاجئين ودفعهم قسرًا للعودة إلى بلدهم، هي “فتنة” يقظة تقوم بعملها عن كامل وعي وإرادة خلافًا لأي منطق أو قانون.

حملات الترحيل التي لم تنقطع يومًا لمن تجاوزوا القانون، ولمن امتثلوا له، ولمن حاولوا الامتثال لكن العقبات الإدارية وسوء المعاملة التي يلقاها اللاجئ أنّى توجه حالت دون امتثالهم في الوقت المحدد، فضلًا عن تضييق فرص إدخالهم في برامج إعادة التوطين بدول أخرى، كل ذلك أيضًا “فتنة” متيقظة، تعلم ما تفعل لأنها جزء من سياسات معتمدة مكتومة للتخفيف والإعادة القسرية بحق وبغير حق.

إصرار السلطات التركية على إدارة شؤون الشمال السوري بتلك الطريقة المشينة عبر أشخاص وأدوات غارقة في الجريمة والفساد حتى شحمة أذنيها، دون أي اعتبار لآراء الناس ومصالحهم في تلك المناطق وتزامن ذلك مع تصريحات وسياسات، تؤشر إلى إطلاق سنوات عسل جديدة مع نظام الأسد الإبادي، كذلك هو “فتنة” حاضرة جاهزة للانفجار في أي لحظة، وهو تمامًا ما حصل قبل أيام عندما خرج الغضب من حصاره وعبر عن نفسه بطرائق بعضها صحيح تمامًا، وبعضها منفلت عن حدود الضوابط والقوانين.

بطبيعة الحال، يمكن لتركيا أن تصالح الأسد طالما أنها ترى أن مصالحها ستكون معه ومع نظامه وهذا عمل من أعمال السيادة بلا شك، لكن لا يحق لها بالقطع إكراه السوريين على الامتثال لسياستها بهذا الشأن أو إجبارهم على قبول ذلك، لأنهم ما قاموا بثورتهم لتحقيق مصالح تركيا بل للاستجابة لحاجات المستقبل السوري نفسه.

المسألة إذًا لا يمكن تقزيمها بالزعم أن ثمة “فتنة” نائمة يتعين علينا أن نلعن من يوقظها، وأن ثمة من سيستغل هذا الأمر للتحريض على تركيا وسياساتها ودورها.

المسألة أن هناك تراكمًا من الأخطاء والخطايا لا بد من تبين أسبابها والعمل على معالجة تلك الأسباب حتى لا تكون “فتنة” حقًا، ولا تتيح فرصة للمتربصين لإيقادها، وربما أول سبل العلاج هو الإنصات إلى الناس وفهم همومهم ومواجعهم ومعاناتهم والعمل على حلها حتى لو كان الكلام ناقدًا وموجعًا، لأن سلامة الدولة والمجتمع والعيش المشترك أهم بكثير من ألم الإنصات والفهم لتلك المواجع والهواجس.

كتم الصوت العنصري ومواجهته بالسبل القانونية ضرورة لا بد منها للحفاظ على السلام المجتمعي، أما تجاهل نعيق الغربان فلن يستجلب إلا مزيدًا من الإشكالات والنبذ.

مراجعة كل السياسات المتعلقة باللاجئين وأوضاعهم القانونية ضرورة قصوى حتى يتوفر لهم حدًا معقولًا من الشعور باليقين تجاه المستقبل، دون تراخٍ في إعمال القانون بعدل وإنصاف بحق المتجاوزين منهم والمخالفين.

إعادة صياغة العلاقة مع مناطق الشمال بطريقة مغايرة لما هو قائم اليوم، فالسياسة والدور التركيان في الإقليم يحتاجان إلى شركاء حقيقيين وليس إلى عملاء وقطاع طرق ومرتزقة فاسدين، وبذلك يكون دورًا فاعلًا وأكثر نجاعة وقوة، عندها لن تكون هناك “فتنة” نائمة، ولن يكون ثمة من يوقظها أصلًا.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة