كثيرة هي أسباب تراجع العرب كمكانة وحضور، سياسيًا وثقافيًا وربما اجتماعيًا، منذ عقود التخلص من الاحتلالات منتصف أربعينيات القرن الـ20 من الدول الأوروبية، لكن الحصول على الاستقلال لم يؤدِ إلى تطور حقيقي في حقول الديمقراطية والعمل المؤسساتي والإداري للدول.
والتطور هنا لا يقصد به فقط التطور العمراني، بقدر ما يتعلق بتلاقي الأفكار الفلسفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ضمن مثلث “السلطة- الشعب- الدولة”.
وطوال سنوات، جرى الترويج بأن العرب ودولهم فشلوا بالمشي في ركب الحداثة ومتابعة الأفكار الجديدة والاستفادة منها، وهو ما دفع مفكرين عربًا لنشر عشرات الكتب والأبحاث حول الأسباب الكامنة وراء هذا الجمود.
في 2023، صدر عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” كتاب “سؤال المصير” للكاتب والمفكر السوري برهان غليون، وهو مكون من 233 صفحة.
عرض غليون في كتابه، وعبر خمسة فصول، العلاقة بين الشرق والغرب، ودور الأخير في عدم الحداثة بالدول العربية، وحاول أن “يعيد قراءة الوقائع التاريخية، ونقد المفاهيم التي تحولت إلى بديهيات بسبب استخدامها كحقائق مطلقة”.
النظرية الأساسية التي ينطلق منها غليون هي أن انسحاب الدين من الحياة العامة في المنطقة العربية لم ينتج مؤسسات عقلانية تستلهم العقلانية الحديثة، ولفهم ما حصل يجب التخلي عن منهج البحث عن سبب التخلف الحضاري، لتفسير الحاضر نفسه ثم الانتقال للبحث في التاريخ مجددًا.
بمعنى آخر، يرى غليون أن فهم الواقع الحالي للدول العربية ضمن جميع المجالات، لم يعد يكفيه أن يُبحث في التاريخ فقط، بل كذلك في الواقع الحالي، لفهمه وتفسيره قبل البحث في التاريخ نفسه.
لا يسعى غليون، الذي صدر له 11 كتابًا في مجالات علم الاجتماع والسياسة الداخلية بين السلطة والناس، أن يهاجم الإسلام، ولا أن يدافع عنه كذلك، بقدر ما يسعى لتفنيد ما هو دوره في هذه الحياة، وارتباطه بالواقع الحالي.
والتفسير كذلك لا يشمل الإسلام كدين فقط، بل يذهب لفهم التيارات الإسلامية السياسية ودورها أيضًا.
الكتاب ليس سهل القراءة، فهو يحتاج إلى جهد وتركيز وتفسير، إلا أنه بلا شك من الأهمية بأن يحظى بمكان مهم لمن دخل في صراع الثورات العربية ضد دكتاتورياتها، ورأى فشلها أمامه دون تفسير واضح للأسباب.
صحيح أن غليون في الكتاب لم يتحدث عن الثورة بعينها، لكن فهم هذه النقاط كلها سيؤدي إلى فهم المجتمع وطريقة تفكيره وإلى أين يتجه، وبالتالي علاقته بنفسه وبالسلطة، وعليه يمكن فهم مكامن الخلل، وإلى أين وصلت المجتمعات العربية وإلى أين ستصل لاحقًا.
كما فسر غليون خلال فصول الكتاب الخمسة دور ما سماها “مفارقات الحداثة”، التي أنتجت إعادة السيطرة الغربية بعد الاستقلال، وكذلك دور المثقفين “شعبًا كسيحًا”، دون هجوم صريح بقدر ما هي محاولة للتفسير أين وصلت الأحوال في العالم العربي، وإمكانية التقدم مجددًا بشروط تتعلق بأن يرتبط هذا التقدم بالكفاية المادية والسياسية والثقافية، معتبرًا أن هذه “معركة تاريخية رئيسة لجميع الشعوب التي لا تريد أن تبقى في الأزمات المزمنة ودوائر العنف والنزاعات”.