تعا تفرج
يا ابن المقرودة بيع أمك
خطيب بدلة
في الفولكلور الغنائي الفلسطيني، أهزوجة تحث الشبان على حمل السلاح، لغاية يُفترض أنها نبيلة، وهي تحرير الأرض المحتلة، تقول كلماتها: يا ولد يا ابن المَقرودة، بيع أمك واشتري بارودة، والبارودة خير منْ أمك، يوم الحرب تفرج همك.
وبما أننا، نحن السوريين، نعتبر القضية الفلسطينية قضيتنا المركزية، وأننا والإخوة الفلسطينيين شعب واحد، فقد كنا، في الستينيات والسبعينيات، نسمع هذه الأهزوجة كثيرًا، في الحفلات الغنائية الثورية، أو في الإذاعة والتلفزيون، وفي سنة 2004، سمعناها تغنى كخلفية لأحد مشاهد مسلسل “التغريبة الفلسطينية” الذي أخرجه حاتم علي، بعدما أجرى المؤلف وليد سيف على مطلعها تعديلًا طفيفًا، فأصبحت تبدأ بعبارة: “يا عربي” يا ابن المقرودة بيع أمك واشتري بارودة.
برأيي، وأرجو أن تحتملوا غلاظة رأيي، أن شراء البارودة، لو أدى إلى تحرير الأراضي المحتلة بالفعل، لن يكون عملًا مفرحًا، طالما أن الذوق الفني والأخلاقي لدى مبدعي الأهزوجة هابط إلى هذه الدرجة، فمؤلف الأغنية ينظر إلى أبناء هذا الشعب نظرة ازدراء، لأنه يخاطب الواحد منهم بعبارة توحي بأنه يسبه (يا ابن المقرودة)، أي يا ابن المرأة المتعثرة، المنحوسة، ثم ينتقل إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير، إذ يطلب منه أن يبيع أمه ليشتري بارودة، دون أن يوضح له، أو لنا، الأسباب الموجبة لذلك، بل يؤكد على أن البارودة أغلى من الأم، لأنها في الحرب تفرج الهم!
المشكلة في ثقافتنا، نحن أبناء هذه المنطقة المنكوبة من العالم، أننا نسمع، ونحفظ، ونردد، ونمشي، فلو كنا من أصحاب العقول الشغالة، لطرحنا على أنفسنا سلسلة طويلة من الأسئلة، من قبيل: لماذا يطلب المؤلف من الولد الذكر شراء بارودة، ولا يطلب ذلك من المرأة؟ لماذا يكون النضال الوطني في سبيل تحرير الأوطان شأنًا رجاليًا خالصًا؟ ويا ترى، ألا يستطيع ابن المقرودة، المحترم، أن يشتري بارودة، دون أن يبيع أحدًا من الناس؟ ولماذا تقترحون عليه أن يبيع الإنسانة العظيمة التي حملته، وولدته، وربته، وشطفته، وحفضته، وأفنت شبابها في رعايته؟ يا أخي، إذا كان حضرته يعاني من ضائقة مالية، والقضية الوطنية العظيمة توجب عليه التسلح، لماذا لا يبيع بعض أملاكه المنقولة، أو غير المنقولة، كالفرشة، واللحاف، والبيارة، والدار، ويشتري بثمنها بارودة؟ أمن الضروري أن يبيع إنسانًا ما في سبيل قضية يراها صاحب الخطاب عظيمة؟ وإذا سلمنا، جدلًا، بضرورة بيع إنسان لتحقيق الهدف، لماذا لا يبيع ابن المقرودة أختَه، أو ابنته، أو زوجته، ويحافظ على أمه؟ سيأتيك الجواب هنا، في الحال، أن الزوجة والأخت والابنة من العِرض، والرجل لا يبيع عرضه، والحرة لا تأكل بثديها. طيب، يمكننا هنا أن نلح ونتغالظ، ونسأل: لماذا لا يبيع ابن المقرودة أباه، مثلًا؟ طبعًا لا يمكن، لأن حياتنا كلها موجودة من أجل الرجولة، و”الزلومية”.
ما يؤلمك، ويغيظك، ويفلقك، أن هذا الخطاب الفج، الغوغائي، لا يزال يتحكم بعقولنا، ويحاول مَلأها بمقولات غبية، قاسية، ثم يمنعنا من حقنا في الاستنكار، أو حتى السؤال. فتأمل يا رعاك الله.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :