غزوان قرنفل
عندما يعجز شخصان أو فريقان متصارعان عن حسم الصراع بينهما يتحولان إلى أصدقاء، وينكفئ كلاهما على الاكتفاء بإدارة الصراع والاستثمار فيه لا أكثر. حينها يسعى الفريقان للبحث عن مساحات وسياقات لتبادل الخدمات والمصالح، فيما يمكن تسميته سياسة التخادم المتبادل، التي يمكن أن تستمر لسنوات طوال وربما عقود إلى أن يعتقد أحد الأطراف أنه بات يملك القدرة العسكرية أو الدبلوماسية والسياسية على حسم هذا الصراع، حينها تطوى تلك الصفحة لتنطلق مرحلة الحسم النهائي وفرض الحلول لهذا الصراع.
هذا هو تمامًا واقع الصراع اليوم في سوريا، حيث عجز الفريقان لأسباب ذاتية ودولية مختلفة عن حسم الصراع، فتحولا إلى مجرد قوى سيطرة أوجبت الظروف أن يعمل كل منهما على خلق أطر ومساحة للتخادم بينهما مؤقتًا، والانكفاء على الاستثمار في هذا الصراع بعد أن خلقت هياكل اقتصاد الحرب.
لعل أبرز أوجه التعبير عن هذه الحال هي المعابر الخارجية التي تربط سوريا بتركيا، وكذلك المعابر الداخلية البينية التي تربط بين مناطق السيطرة المختلفة للقوى المتنازعة، والتي تعتبر شيئًا مهمًا لمختلف تلك القوى، باعتبارها مصدرًا للتغذية المالية الضخمة المتأتية عن الرسوم القسرية، التي تفرضها أدوات السيطرة على الحركة التجارية والتنقل بين مختلف المناطق والتي تقدر بعدة ملايين من الدولارات شهريًا، الأمر الذي يحفّز بعض القوى غير المستفيدة على تفجير مواجهات عسكرية مع القوى المسيطرة على أحد تلك المعابر لكي تفرض لنفسها حصة في تلك الكعكة، ولم تعد مسألة مواجهة النظام وأدواته ضمن أجندة الميليشيات المسيطرة، فقد توارى هذا الهدف كثيرًا عن أن يكون ضمن أولويات مختلف القوى، بعد أن تم تخميد الصراع العسكري من خلال مقررات “أستانة”، التي فرضت على مختلف الأطراف حدودًا للأدوار ولمناطق السيطرة، بانتظار رسم ملامح حل سياسي يعيد إنتاج نموذج جديد للنظام ويسلم بوجوده ويحيل بقية القوى إلى مجرد أدوات ملحقة به لا أكثر.
وبينما تسيطر “هيئة تحرير الشام” على معبر دولي وحيد مع تركيا، هو معبر “باب الهوى”، المعبر المعتمد دوليًا لإدخال المساعدات الأممية إلى شمال غربي سوريا، والذي تكمن أهميته في أنه يدر دخلًا شهريًا يقدر بعشرة ملايين دولار على الأقل، فإن بقية الميليشيات في مناطق غربي سوريا تسيطر على ستة معابر مع تركيا، هي “جرابلس” و”الراعي” و”باب السلامة” و”الحمام” و”رأس العين” و”تل أبيض”، وهي أيضًا تدر دخلًا شهريًا غير معلوم، لكنه يقدّر ببضعة ملايين من الدولارات، تحصل على 50% منها ميليشيات “الجيش الوطني”، و25% منها للمجالس المحلية في منطقتي “درع الفرات” و”نبع السلام”، بينما يرمى 15% منها لـ”الحكومة المؤقتة”، ويقال إن الـ10% المتبقية مخصصة لأهالي عناصر الميليشيات الذين يقتلون في المعارك، وهو زعم لا تسعفه معلومات شفافة ومعلنة أو حتى شهادات من هؤلاء الأهالي المفترضين.
أما ما يتعلق بالمعابر البينية الداخلية، سواء داخل منطقة السيطرة الواحدة أو بين عدة مناطق مختلفة القوى المسيطرة، فلطالما شكلت فتيلًا للاقتتال والتنازع بالنظر إلى مردوديتها الاقتصادية العالية، كمعبر “الحمران” الاستراتيجي، الذي يربط بين مناطق سيطرة “قسد” ومناطق سيطرة “الجيش الوطني”، والذي يعكس النزاع حوله حجم أهمية ما يدره من موارد مالية لكونه معبرًا للقوافل النفطية ولمختلف السلع المهمة، والذي لم تحسم مسألة السيطرة عليه إلا قبل بضعة أشهر لا أكثر، ليكون تحت إدارة وزارة الدفاع بـ”الحكومة المؤقتة”، دون أن يلغي حصة “هيئة تحرير الشام” المقدّرة بمئة ألف دولار من الموارد الشهرية الكلية للمعبر.
قبيل الانتهاء من كتابة هذا المقال، تواردت أنباء عن بدء المجلس المحلي لمدينة اعزاز بالتحضيرات اللوجستية لفتح طريق غازي عينتاب– حلب الدولي، بالتزامن مع إصدار المجلس المحلي لمدينة الباب قرارًا يقضي بفتح معبر “أبو الزندين” باتجاه مناطق سيطرة النظام، واعتماده كمعبر تجاري رسمي لتنشيط الحركة التجارية وزيادة موارد المجلس المحلي، بحسب ماجاء في بيان صادر عن مجلس مدينة الباب. والحقيقة أن القرار نفسه لا يعكس فقط سياسة التخادم بين النظام ومعارضيه المفترضين بوصف ذلك جزءًا من الاستثمار في اقتصاد الحرب والذي صار شرطًا لازمًا لديمومة القوى المسيطرة والمستفيدة منه، بل هو قبل كل ذلك وبعده يؤشر إلى ضوء أخضر تركي بعد حدوث اختراق كبير ومهم في مسارات الحوار بين النظام وتركيا صاحبة القرار الفصل في مناطق شمال غربي سوريا بشأن مصير تلك المناطق، والترتيبات الأمنية والسياسية واللوجستية اللازمة للاستجابة لموجبات عدة ملفات، منها ما يتعلق بعودة اللاجئين ومنها ما يخص محاربة الإرهاب وبسط سلطة “الدولة” السورية على أراضيها، بما يحول دون نشوء كيان كردي تراه تركيا تهديدًا خطيرًا لأمنها القومي، بالإضافة، بطبيعة الحال، إلى ملف التسوية السياسية النهائية التي قوامها شراكة بين النظام والمعارضة لا يعلم أحد حدودها ولا محدداتها.
ربما صار الكلام عن عجز وفشل المعارضة السورية المريع، والاعتراف بانكسار وهزيمة ثورتنا مذ سكتنا على امتطائها من قوى وأدوات غاية في الرخص والضعة وأحنينا الرؤوس أمامها، كلامًا من قبيل التزيد، لكن للمرة الأولى، ربما، نجد خصمًا عجز عن حسم معركته معنا، ومع ذلك يكتب بنود التسوية لوحده ومع نفسه دون أي اعتبار لوجودنا ولما فعله بنا، وهو شيء طبيعي في ظل المآل الذي انحدرنا إليه، فعندما تكون مخصيًا لا يجوز منطقيًا أن تنتظر مولودًا ثم تتوهم أنك أب له فعلًا، وحده القوّاد من يفعل، ونحن فعلنا.