“عراة في دمشق”.. ضغوط الحرب تترك أثرها في المجتمع السوري
عنب بلدي – يامن مغربي
وسط دمشق، صوّر هاتف ذكي رجلًا يمشي عاريًا بالقرب من أشهر ساحات العاصمة، “الأمويين”، تحت شمس حارقة ودرجات حرارة تتخطى الـ40، وهو مشهد تكرر ثلاث مرات في مناطق مختلفة من المدينة خلال أسبوع واحد، وانتشرت المشاهد بشكل واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أحدها كان لفتاة تستحم في حديقة عامة.
ردود فهل الجمهور على وسائل التواصل الاجتماعي تراوحت بين الأسف على ما وصلت إليه البلاد، والتذكير بأن حال الناس وصل إلى مستوى لا يطاق من البؤس، فيما ركزت بعض التعليقات على أثر المعتقلات والقبضة الأمنية والظلم الذي تعرضه له مئات الآلاف من السوريين.
تؤدي الحرب إلى ضغوط اقتصادية وأمنية واجتماعية، وتغير في شكل المجتمع وعاداته وسلوكياته، ويمكن ملاحظة هذا الأمر في سوريا ضمن مختلف مناطق السيطرة، بما في ذلك مناطق سيطرة النظام السوري، حيث المشكلات الاقتصادية والقبضة الأمنية، وتراجع الخدمات الأساسية بشكل أعلى من مناطق أخرى.
ويلاحظ انتشار سلوكيات تتمثل بالظهور في أماكن عامة دون ملابس، أو بمخاطبة النفس بصوت عالٍ وسط الناس، وهي مظاهر قد يكون سببها ضغوطات الحرب والأزمات التي لا يبدو أنها ستحل قريبًا، أو ربما تصنف كاضطراب نفسي على صاحبه مراجعة اختصاصيين.
لم تفسر أي جهة رسمية أو متخصصة سبب تكرار ظهور أناس عراة في شوارع دمشق، ولم تنشر أي وسيلة إعلامية تعمل داخل مناطق سيطرة النظام السوري لقاءات خاصة معهم، حتى لحظة نشر هذا التقرير، وبالتالي لا يمكن معرفة إن كان الأمر ناتجًا عن شكل من أشكال الاحتجاج، أو أن أصحاب الحادثة مصابون باضطراب ما، لكن وبكلتا الحالتين، يمكن مناقشة كيف تنعكس ظروف الحرب على السلوكيات الاجتماعية في المجتمع.
ضغوط نفسية
في دمشق، يستقبل مستشفى “ابن النفيس” المختص بالأمراض النفسية ما بين 20 لـ30 مريضًا يوميًا لمختلف الحالات المرضية الناتجة عن الضغط والظروف الاقتصادية الصعبة، وفق تصريحات لمدير المستشفى، أيمن دعبول، نشرتها إذاعة “شام إف إم” المحلية في حزيران 2022، وحينها كان عدد المرضى المقبولين 500 شخص، إلى جانب 400 آخرين في المستشفيات الخارجية.
ليست وحدها الظروف الاقتصادية هي المسبب الرئيس في الاضطرابات، ضغوط الحرب تلعب دورها كذلك، ووفق الطبيب النفسي محمد أبو هلال.
وقال أبو هلال لعنب بلدي، إن الحروب والأزمات تشكل مجموعة من الضغوط الكبيرة على الإنسان، بما في ذلك الضغوط النفسية والعاطفية، والصدمات، كما تؤدي إلى القلق والاكتئاب نتيجة العيش في بيئة غير مستقرة ومخيفة.
كما تبرز ضغوط اجتماعية واقتصادية وأمنية وتعليمية وغيرها، تؤدي بدورها إلى تأثيرات طويلة الأمد على الأفراد والمجتمعات، وتتطلب تدخلات متعددة الأبعاد للتخفيف منها.
ووفق منظمة الصحة العالمية، يعاني 5% من البالغين حول العالم من الاكتئاب الذي يعد اضطرابًا نفسيًا شائعًا.
كما يموت أكثر من 700 ألف شخص منتحرًا كل عام، ويعد الانتحار رابع الأسباب الرئيسة للوفاة بين الأشخاص التي تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عامًا.
وفي سوريا، كانت هناك ثلاثة مستشفيات متخصصة بالصحة النفسية، هي مستشفى “ابن رشد” في دمشق، ومستشفى “ابن سينا” في ريف دمشق، ومستشفى “ابن خلدون” في حلب، في حين يتضمن مستشفى “المواساة” قسمًا للطب النفسي، وعيادة خارجية، كذلك الأمر في وزارة الدفاع التابعة للنظام السوري وفي مستشفى “تشرين العسكري”.
فيما أشار تقرير لمنظمة الصحة العالمية، صدر في 2020، إلى أن 75% من الأشخاص في سوريا ممن يعانون من أمراض نفسية لا يتلقون أي علاج.
انخفاض الحساسية للمجتمع
محمد أبو هلال أشار في حديثه لعنب بلدي، إلى أنه لا يمكن تشخيص الحالة النفسية للأشخاص الظاهرين في التسجيلات التي انتشرت خلال الأسبوع الماضي، لكن الضغوط تؤدي إلى أمراض نفسية وسلوكيات غريبة، ومنها “انخفاض التثبيط الاجتماعي”، أي انخفاض الحساسية للمجتمع ونظرته، وينفذ المصاب سلوكيات لا تراعي هذه التفاصيل، فيمشي عاريًا على سبيل المثال، الأمر غير المقبول اجتماعيًا.
لكنه أشار في الوقت نفسه إلى أنه لا يمكن الجزم بأن هذا السلوك تحديدًا ناتج عن مرض نفسي، باعتبار أنه لا يوجد تشخيص طبي واضح، هذا من جهة، كما أن الظاهرة تحتاج إلى دراسات اجتماعية لهذه الحالات، وفهم المشترك بينها لتفسير الأمر بشكل أعمق.
ووفق المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي، زاهر حجو، في تصريحات نقلها موقع “أثر برس” المحلي، شهدت سوريا 146 حالة انتحار خلال عام 2023، منها 99 حالة للذكور و47 للإناث، وذلك ضمن المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، في انخفاض عن عام 2022 (175 حالة).
وتبلغ نسبة الفقر 90% بين السوريين، و70% من السكان، أي نحو 15 مليون سوري، بحاجة لمساعدات إنسانية، وفق أرقام الأمم المتحدة.
وتبلغ تكلفة النداء الإنساني 11.1 مليار دولار، وهو الأكبر على مستوى العالم، كما أن الأمن المائي غائب، إذ تعد سوريا من أكثر البلاد عرضة للجفاف.
كما تعاني مناطق النظام السوري من ضعف في الخدمات والبنى التحتية، مع انقطاع متكرر للتيار الكهربائي، وضعف القدرة الشرائية للمواطنين، بالإضافة إلى الأزمات الطبية المتمثلة بتردي الخدمات المقدمة في المستشفيات الحكومية، وارتفاع ثمن العلاج في المستشفيات الخاصة، والأزمات المتكررة المتعلقة بالأدوية.
ما بعد الأزمة.. مراحل السلوك
تؤدي الضغوط إلى مجموعة من السلوكيات المكونة بدورها من عدة مراحل:
المرحلة الأولى: ويطلق عليها كذلك المرحلة الفورية، وتتضمن ردود فعل سريعة، كالصدمة والذعر والهروب، أو سلوكيات دفاعية، كالبحث عن ملاذ آمن، والتصرف بحذر شديد.
المرحلة الثانية: هي مرحلة التأقلم قصير المدى، ويعمد الإنسان خلالها لتطوير استراتيجيات التأقلم مع ظرفه الجديد، كالاعتماد على الآخرين والبحث عن الدعم الاجتماعي ومحاولة العودة للروتين الطبيعي.
كذلك قد يعتمد الشخص خلالها على سلوكيات “تجنبية”، كأن يتجنب الأماكن والأشخاص المرتبطين بالأزمة.
المرحلة الثالثة: هي مرحلة التأقلم طويل المدى، وتشمل تغيرات في نمط الحياة، كالانتقال لمناطق جديدة، وتغيير الوظائف وتطوير مهارات جديدة.
كما تتضمن سلوكيات الحماية، كزيادة الانتباه للأمن الشخصي والاعتماد على الموارد الذاتية.
المرحلة الرابعة: ما بعد الأزمة، وتنقسم إلى مرحلة التكيف النفسي، وخلالها يمكن أن يطوّر الإنسان سلوكيات جديدة كالاستقلالية وتحسين المهارات الاجتماعية.
كما يلجأ للاندماج المجتمعي، عبر المشاركة في الأنشطة العامة وإعادة بناء الشبكات الاجتماعية.
المرحلة الخامسة: تأثيرات طويلة الأمد، وتشمل تغييرات دائمة في السلوك، كالحذر الدائم، والوعي الأمني وتغيير الأولويات والقيم الحياتية.
كما تتضمن السلوكيات التعويضية، كتطوير اهتمامات جديدة والمشاركة في الأنشطة الداعمة للصحة النفسية.
هذه المراحل قد تختلف من شخص لآخر بناء على العوامل الفردية مثل الشخصية، والتاريخ الشخصي، والدعم المتاح، ولكن بشكل عام، يمكن أن تؤدي الضغوط الناتجة عن الأزمات إلى تشكيل سلوكيات جديدة في كل مرحلة منها.
*المصدر: محمد أبو هلال – طبيب نفسي
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :