“من أجل ثورتنا يجب أن نكمل حياتنا ونتناسى مآسي المعتقل”، رغم مضي حوالي 9 سنوات على خروج “حسنة الحريري” من سجون الأسد، لكن العذابات والذكريات المؤلمة ترافقها حتى اليوم، لتكون واحدة من بين آلاف الناجين الذين عانوا لسنوات بعد خروجهم من معتقلات النظام السوري.
استرجاع ذكريات الناجين مع المعتقلات والعذابات التي تكبدوها، يأتي في وقت يحتفل فيه العالم باليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب، والذي يصادف في 26 من حزيران من كل عام، إذ أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ عام 1997، بهدف القضاء التام على التعذيب وتحقيقًا لفعالية أداء اتفاقية مناهضة التعذيب، التي بدأ نفاذها في 26 من حزيران عام 1987.
“نتناسى مآسي المعتقل لإكمال ثورتنا”
رغم نيل معتقلين سوريين حريتهم إلا أنهم لا يعتبرون أنفسم ناجين، إذ يترك التعذيب آثارًا على عقولهم وأجسادهم لا يمحوها الزمن، كما تظل تداعيات اضطراب ما بعد الصدمة ترافقهم لسنوات وتؤثر على حياتهم اليومية.
“حسنة الحريري” فقدت ثلاثة من أبنائها وزوجها وإخوتها الأربعة وأزواج بناتها على يد النظام السوري، الذي اعتقلها أيضًا لحوالي عام ونصف، ذاقت خلالها الويلات، ثم لجأت إلى الأردن وبعدها رُحلت إلى كندا، ورغم ذلك بقيت متمسكة بمبادئ الثورة السورية.
حسنة (62 عامًا) من بصرى الحرير في درعا، اعتُقلت في 14 من تموز 2012 بتهم “تمويل الإرهاب وخطف ضباط ونقل أسلحة”، حيث تقول، “تنقّلت بين 7 أفرع أمنية تعرّضت داخلها لأشد أنواع التعذيب، وبنفس الوقت كنت شاهدة على مختلف فنون التعذيب التي مارسها النظام بحق المعتقلين، وأصعب لحظة لا تغيب عن بالي أبدًا، حين توفيت أمامي فتاة تبلغ من العمر عشر سنوات، بسبب اغتصابها العنيف من قبل شبيحة الأسد”.
تضيف حسنة لعنب بلدي، “لحظات الاعتقال لا تغيب عن بالي أبدًا، وكل ليلة أشاهد كابوسًا جديدًا رغم مضي أكثر من تسع سنوات على خروجي من المعتقل، مشاهد فظيعة أشاهدها يوميًا في نومي ويقظتي، فلا تغيب عن مخيلتي أصوات الشباب وهم يصرخون من شدة الألم، بينما النظام يقتلع أعينهم بمسدسات الكهرباء، وآخرون تقطّع أوصالهم بمنشار كهربائي”.
“ومن اللحظات القاسية التي لا تغيب عن بالي أيضًا، سيدة متزوجة لديها أطفال، توفيت بين يديّ بعدما تعرضَت لاغتصاب شديد، ورُميت في غرفة مليئة بالجرذان التي نهشت جسدها، علمًا أن النظام اعتقلها فقط لأنها كان ذاهبة لإعطاء طبخة لأخوتها المشاركين في الثورة”، وفق ما ذكرت حسنة.
أكذب إن قلت إني نسيت ما شاهدته في الأفرع الأمنية، لكني مضطرة أنا أتناساها كي أبقى قوية وصامدة لدعم ثورتنا، فالنظام بتعذيبه النفسي والجسدي للمعتقلين، يريد منهم أن يظلوا ضعفاء طوال العمر، لكني لن أعطيه تلك الفرصة.
حسنة الحريري – معتقلة سابقة في سجون النظام السوري
ورغم كل التعذيب الذي ذاقته حسنة أو الذي شاهدته أمامها، لكنها مصرّة على تناسيه حيث قالت، “يجب ألا نضع الحزن بالجرن، ونبقى نتذكر كل مآسي السجون، وأكذب إن قلت إني نسيت ما شاهدته في الأفرع الأمنية، لكني مضطرة أنا أتناساها كي أبقى قوية وصامدة لدعم ثورتنا، فالنظام بتعذيبه النفسي والجسدي للمعتقلين، يريد منهم أن يظلوا ضعفاء طوال العمر، لكني لن أعطيه تلك الفرصة”.
اضطراب ما بعد الصدمة
ينتهج النظام السوري أساليب تدمر شخصية ونفسية المعتقل حتى بعد خروجه، وبالتالي يعيش الناجي ظروفًا نفسية قاسية قد ترافقه لسنوات، وربما تدفع بعضهم للانتحار.
رغم مضي سبع سنوات على خروج “مؤيد جدوع” من فرع فلسطين بدمشق، لكنه حتى اليوم مازال يعيش حياة غير طبيعية، إذ يقول، “كل الظروف التي عشتها في المعتقل مازالت ترافقني حتى اليوم، فأنا أميل للجلوس وحدي في الظلام، وأطالب زوجتي كل يوم بتحضير الشوربة على الغداء والبطاطا المسلوقة على الفطور، ولا استغرق في الاستحمام أكثر من 5 دقائق”.
يضيف مؤيد (37 سنة) الذي يقيم في ولاية بورصة التركية لعنب بلدي، “قد لا يمر أسبوع إلا وأشاهد كابوسًا جديدًا، لم أعد أطيق النوم، حتى في يقظتي ترتسم في مخيلتي أحيانًا لحظات التعذيب، حين كان المحقق يطفئ أعقاب السجائر بظهري وبطني، ويضع حذاءه في فمي، لقد ذقت أشد أنواع التعذيب في فرع فلسطين، ولا أعلم إلى متى سأبقى اتذكر لحظات التعذيب القاسية، ربما ترافقني طوال حياتي”.
وقال الأخصائي النفسي، باسل نمرة، إن “المعتقل يخرج وهو في حالة اضطراب ما بعد الصدمة، بعد غيابه عن المجتمع والبيئة التي كان يعيش فيها، إذ يجد صعوبة في تقبل الأشخاص والأحداث التي تغيرت خلال وجوده في المعتقل، حتى أنه يلاحظ تغيّر تصرفات الناس معه وكأنه بات غريبًا عنهم”.
التأثيرات النفسية التي ترافق المعتقل بسبب اضطراب ما بعد الصدمة، تجعله يدخل في مرحلة الاكتئاب.
باسل نمرة – أخصائي نفسي
وأضاف نمرة لعنب بلدي، أن التأثيرات النفسية التي ترافق المعتقل بسبب اضطراب ما بعد الصدمة، تجعله يدخل في مرحلة الاكتئاب، ويبدأ بالانعزال عن المجتمع وخاصة إذا كانت لديه آثار تعذيب جسدي لم يستطع تجاوز آلامها، كإعاقة جسدية أو تشوه ما، ويظل يفكر ويسأل نفسه: كيف سوف يتقبلني المجتمع من جديد وأنا هكذا، وبعض الناجين يبدأون بالتفكير في الانتحار للتخلص من حياتهم، لأنهم يعتقدون أن لا قيمة لهم بعدما فقدوا مكانتهم وضاعت فترة زمنية من حياتهم لن تعوض.
وأشار نمرة إلى أن الكوابيس ومشاهد التعذيب أثناء النوم، قد تبقى لفترة بعد خروج المعتقل، لأنها آثار جروح في الذاكرة وقد تمتد طويلًا إذا لم يتم علاجها لدى المختص النفسي، الذي قد يضطر لإعطاء بعض أنواع الأدوية النفسية لفترة محدودة، إضافة إلى العلاج النفسي السلوكي الذي يساعد بالتخلص من هذه الكوابيس، ويجعل الشخص الذي كان معتقلًا ينام بعمق.
ويعتبر اضطراب ما بعد الصدمة، حالة نفسية يستثيرها حدث أو ذكرى مخيفة شهدها الشخص، إذ يسترجع الأحداث والخوف والقلق والتفكير الذي لا يمكن السيطرة عليه، كلما مر بباله ما يذكّره بالحدث الذي تسبب له بالألم والعذاب، وهذا يترتب عليه تكرار الكوابيس وكذلك الانفعالات الحادة والتوتر الكبير، لذلك نجد الأشخاص الذين يمرون بهذا الاضطراب يتجنَّبون أيَّ شيء يذكِّرهم بالحدث أو حتى يهربون من الحديث عنه.
كيف نُخرج مآسي المعتقل من داخلنا؟
الظروف القاسية التي عاشها المعتقلون في سجون الأسد، جعلت بعضهم يفقد ذاكرته كليًا أو جزئيًا، ففي شباط الماضي، أفرج النظام عن الشاب “محمود كفرنطوني” من ريف إدلب، بعد اعتقالٍ لـ 7 سنوات ونصف في سجن صيدنايا، لكنه فقد جزءًا من ذاكرته.
ويلجأ الناجون من سجون الأسد إلى الصمت والعزلة وعدم التحدث عن ظروفهم، نتيجة شعورهم بأن محيطهم لا يمكن أن يقدم لهم ما يساعدهم إلا نظرات الشفقة التي قد تشعرهم بالنقص وتزيد معاناتهم، وتذكّرهم للتعذيب الذي تعرضوا له قد يشعرهم بالألم نفسه، أو بألمٍ شبيهٍ بما كانوا يعيشونه خلال فترة تعذيبهم.
وللتخلص من الآثار النفسية للاعتقال، شدّد باسل نمرة، على أنه يجب أن يخضع كل ناجٍ من الاعتقال لجلسات علاج نفسي مدروس، لإجراء تقييم علمي ودقيق للحالة ووضع خطة للاستشفاء النفسي الكامل، وهذه الخطة يضعها مختصون بأسلوب علمي مبرمج تتضمن جلسات فردية وجماعية، وبرامج إعادة بناء للشخصية وإعادة الدمج الصحيح في المجتمع”.
وأوضح نمرة أن أي برنامج علاجي يجب أن لا تقل مدته على نصف المدة الزمنية التي قضاها الشخص في المعتقل، لكي نقول عنه إنه وصل لمرحلة الاستشفاء الكامل، مشيرًا إلى أن دور الأهل هو إعطاء الدعم العاطفي للناجي من المعتقل وتحفيزه على العودة لحياته الطبيعية، لأنهم يكونوا الأقرب له والأقدر على استيعاب أن التعذيب الذي تعرض له قد ترك ندبات وجروح نفسية قد تكون كبيرة.
الأمم المتحدة أكدت أن التعافي من آثار التعذيب، يتطلب برامج دعم نفسي سريعة ومتخصصة، لذا أطلقت عام 1981 صندوقًا للتبرعات لضحايا التعذيب، الذي يديره مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنيف، حيث تقدم من خلاله التمويل من أجل مشاريع تساهم في دعم ضحايا التعذيب وعائلاتهم.
اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب
يصادف اليوم 26 من حزيران من كل عام، اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب، والذي يعد فرصة لدعوة جميع أصحاب المصلحة بما في ذلك الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والمجتمع المدني والأفراد في كل مكان، إلى الاتحاد لدعم مئات الآلاف من الأشخاص في كافة أنحاء العالم ممن كانوا من ضحايا التعذيب، فضلًا عن الذين مازالوا يتعرضون للتعذيب حتى اليوم، وفق ما ذكرت “الأمم المتحدة” عبر موقعها.
والتعذيب جريمة بموجب القانون الدولي، وهو محظور تمامًا وفق جميع الصكوك ذات الصلة، ولا يمكن تبريره في ظل أية ظروف، وهذا يعني أن كل دولة يجب أن تتجنبه مع رعاياها، حتى لو لم توافق على معاهدات محددة تحظر التعذيب.
واعتُمدت اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة في عام 1984، ودخلت حيز التنفيذ في عام 1987، وتتولى تنفيذها بين الدول الأطراف، لجنة من الخبراء المستقلين، وهي لجنة مناهضة التعذيب.
وفي عام 1985، عينت لجنة حقوق الإنسان أول مقرر خاص معني بالتعذيب، وهو خبير مستقل مكلف بالإبلاغ عن حالات التعذيب في العالم.
وبمناسبة اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب، أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان اليوم الأربعاء 26 من حزيران، تقريرها السنوي الثالث عشر عن التعذيب في سوريا.
وأشار التقرير إلى أنَّ حصيلة الذين قُتلوا بسبب التعذيب في سوريا، بلغت 15383 شخصًا بينهم 199 طفلًا و115 سيدة (أنثى بالغة)، في حين كان النظام السوري مسؤولًا عن مقتل 15098 منهم، بينهم 190 طفلًا و95 سيدة، منذ آذار 2011 حتى حزيران 2024.