علي عيد
يبدو أن الجمهور في طريقه إلى التخلي عن الأخبار، والدليل نتائج دراسة معهد “رويترز لدراسات الصحافة” (Reuters Institute for the Study of Journalism) التي تشير إلى أن 39% من الناس (نحو 4 من بين كل 10 أشخاص) يتجنبون مواد الأخبار ووسائل نقلها، مقارنة بنسبة 29% (نحو 3 من كل 10 أشخاص) في عام 2017.
حسب الدراسة التي استطلعت مواقف 94.943 شخصًا بالغًا من 47 دولة خلال شهري كانون الثاني وشباط 2024، برر المنصرفون عن الأخبار ابتعادهم عنها لكونها محبطة ومزعجة ومملة، وأن الحروب في أوكرانيا ومنطقة الشرق الأوسط عززت تجنب الأخبار بمستويات قياسية.
ومقابل نسبة 63% من المهتمين بالأخبار حسب أرقام 2017، انحسرت النسبة إلى 46% في العام الحالي، حسب الدراسة.
وشكلت النساء والشباب أكثر الفئات التي تراجع اهتمامها بالأخبار.
وترافق هذا التراجع بتراجع آخر في الاهتمام بوسائل ومصادر نقل الأخبار التقليدية مثل التلفزيون والمطبوعات، إذ بات الجيل الصاعد يفضل الإنترنت أو وسائل التواصل الاجتماعي، كما هو الحال في المملكة المتحدة، إذ إن ما يقرب من ثلاثة أرباع السكان (73%) يحصلون على الأخبار من الإنترنت، و50% من التلفزيون، وتراجعت المطبوعات لتكون مصدرًا للأخبار لـ14% فقط من الجمهور.
أما البدائل فهي “فيس بوك” أولًا، ثم “يوتيوب” و”واتساب”، ويتفوق “تيك توك” على منصة “إكس” خصوصًا بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا، إذ يشكل “تيك توك” مصدرًا للأخبار لما نسبته 23% من الأشخاص في العالم مقابل 10% لـ”إكس”.
تعطي الدراسة، بشكل عام، انطباعًا يفيد بأن الوسائل التقليدية لم تعد مجدية مقابل عالم “السوشيال ميديا” المتنوع والحديث وسهل الاستخدام.
لا يبدو أن التحديات أمام الإعلام التقليدي مرتبطة بالمحتوى فقط، بل بطريقة العرض ومواكبة التكنولوجيا، والسرعة في نقل الأحداث، وكذلك في الاقتراب من طبيعة الجمهور وتلمس المتغيرات المتسارعة لدى الجيل الجديد.
معهد “رويترز” نفسه كان قدم خمس نصائح مستمدة من كتاب “تجنب الأخبار” (Avoiding the News)، الذي صدر عام 2023، وركز على ارتباط الأخبار بالمجتمعات التي ينتمي إليها الجمهور بشكل وثيق.
قرأت هذه النصائح وأعدت صياغتها بشكل قريب دون المساس بها وهي:
- الاستجابة لما يشعر به الجمهور حيال الأخبار، وذلك بالاقتراب إلى ما يبديه ملايين البشر من شعور بشأنها، وتقديم ما يقترب منهم ومن تجربتهم المعيشية، والابتعاد عن الروتين والمنهجية نحو الحلول في ما يتم تقديمه.
- احترام الهويات والمجتمعات وتمثيلهما، مثل الشباب والنساء والأجزاء الأقل حظًا من الجمهور، وجعل استهلاك الأخبار تجربة أكثر اجتماعية.
- إعادة تشكيل الأخبار بطريقة مختلفة، كتقطيعها إلى أجزاء بسيطة قابلة للهضم، وعدم افتراض أن الجمهور يتمتع بسوية عالية من المعرفة أو التأهيل لفهم ما يتم تقديمة من موضوعات، وذهاب وسائل الإعلام التقليدية إلى التطبيقات والبرامج التي يستخدمها الجمهور، بمعنى الذهاب إلى الجمهور عبر تطوير أدوات الوصول.
- التثقيف الإعلامي الإخباري (محو الأمية)، وشرح أهمية الصحافة ودورها في الديمقراطية، والتعاون مع المدارس من أجل هذا الهدف في مراحل التعليم المبكرة، والاهتمام بمعالجة الثقافة السائدة حول الصحافة، كتلك المقولات الشعبية التي يطلقها العامة “حكي جرايد”، إذ لا بد من توضيح الفرق بين الصحافة الجادة والأخرى المضللة.
- إعادة تأكيد القيم التحريرية والدفاع عن المعايير المهنية، بمواجهة محاولات التشويه التي تشيعها جهات ذات مصالح سياسية أو اقتصادية، وتنظيم حملة علاقات عامة واسعة النطاق لتغيير مفاهيم الناس حول ما يفعله الصحفيون، وبناء تحالف بين وسائل الإعلام والمنظمات الأكاديمية وغير الربحية المعنية بالصحافة، لإعادة تأكيد القيم التحريرية والدفاع عن المعايير المهنية أمام الجمهور.
ستبقى الأخبار مهمة للجمهور، بصرف النظر عن رأيه بها، وسيبقى الصحفيون الجادون ووسائل الإعلام المستقلة مسؤولين أمام الرأي العام، إذ لا يمكن الاستسلام للرأي السائد، لكن هذا لا يستدعي مواجهة الجمهور أو العناد، بل تطوير الأدوات، وفهم السلوك الاستهلاكي.
كيف يمكن تعزيز الديمقراطية، وكشف الفساد، ولفت أنظار الجمهور إلى المصلحة العامة، ومن سيقوم بهذه المهمة إذا تخلت الصحافة عنها؟
في سوريا مثلًا، يتناقل الناس مقاطع فيديو أو أخبارًا من “تيك توك” أو “فيس بوك” تحتوي معلومات لا جذور لها، وقد تسهم في اتخاذ قرارات لدى الجمهور بناء على معطيات مضللة، كما يتنافس مؤثرون في تقديم السياسة والأخبار بقالب فكاهي، أو عبر فيديوهات استعراضية محشوّة بالشتائم والافتراضات ولغة الكراهية، ونظرًا إلى أنهم يستخدمون الوسيلة الأقرب والأسهل وصولًا إلى الجمهور، ارتفع عدد متابعيهم، وباتت قوى سياسية أو قوى أمر واقع تخطب ودهم لتجنب الأذى أو للاستثمار في وصولهم.
بات مستوى الوصول وطريقته جزءًا في صناعة الخبر، وغالبًا ما يسهم هذا في انتشار الأخبار الكاذبة والمضللة، وإذا أرادت الصحافة أن تلعب دورها المهني والأخلاقي فعليها ألا تترفع عن الذهاب إلى الجمهور، وابتكار أدوات تضمن حق الجمهور بالمعرفة، دون أن تفرض طريقتها أو تفترض أنه يجب أن يتمتع بمستوى معين من الثقافة والاطلاع.. وللحديث بقية.