خالد الجرعتلي | جنى العيسى | حسام المحمود | حسن إبراهيم
تنقسم القبائل والعشائر السورية في الولاء بين السلطات باختلاف مناطق السيطرة والنفوذ، وتمتد هذه الانقسامات شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا أيضًا، إذ يمكن رؤية شيوخ بارزين من أبناء القبيلة الواحدة يتخذون اصطفافات مختلفة، فيميل بعضهم للنظام، ويديرون فصائل عسكرية بقدرات بشرية تجمع آلاف المقاتلين، وهم من أبناء القبيلة نفسها.
وفي الوقت نفسه، يوالي شيوخ آخرون “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ويشكلون تجمعًا عسكريًا مشابهًا لديها، في حين يقف بعضهم على الحياد من الجانبين، يحاول موازنة مصالحه بين الأطراف، وهو ما لا يختلف كثيرًا بالنسبة لشمال غربي سوريا، إذ تملك القبيلة نفسها المنقسمة شرقًا، فصائل عسكرية معارضة للنظام و”قسد” على حد سواء غربًا، وترفع شعارات الثورة السورية.
الانقسامات القبلية نفسها على امتداد الجغرافيا السورية ينظر إليها مراقبون على أنها نتاج استقطاب سلطات أمر واقع استمر لسنوات، في حين يعتقد آخرون أن الانقسام جاء نتيجة حاجة المكونات القبلية نفسها، للحماية والتمثيل.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف مع خبراء وباحثين الأدوار التي مارستها العشائر السورية في إدارة محافظات سورية، وموقع العشائر في مناطق السيطرة الأربع، التي حاولت سلطاتها، ولا تزال، استمالة العشائر.
العشائر عبر الجغرافيا
في ظل الظروف العسكرية والسياسية التي أفضت إليها سنوات من الحرب والقتال في سوريا، خلّفت أربع مناطق سيطرة، تعتبر كل واحدة منها منطقة نفوذ لدولة أجنبية أو أكثر، شهدت التركيبة القبلية والعشائرية السورية تغييرات إثر حركات النزوح، واللجوء، والخسائر البشرية التي مُنيت بها التركيبة السكانية السورية.
وفي الوقت الذي لا توفر فيه حكومة النظام السوري أي إحصائيات أو خرائط لانتشار هذه القبائل في سوريا، واجهت الجهات المتخصصة بالأبحاث صعوبة في إحصائية التركيبة القبلية، وهو ما نوّه إليه مركز “جسور للدراسات” في دراسة حاولت إحصاء انتشار هذه التركيبة عام 2021.
أيضًا اعتمدت دراسات أخرى، كتلك التي أعدها مركز “حرمون للدراسات المعاصرة“، على مراجع تاريخية، ومقابلات مع ناشطين من أبناء المنطقة في محاولة لإحصاء انتشار قبائل وعشائر المنطقة.
أحصت دراسة “جسور” 23 قبيلة عربية على الأقل منتشرة في سوريا بشكل رئيس، يتركز معظمها في شرقي ووسط وشمالي سوريا.
ومن المتعارف عليه أن للمكونات القبيلة تسلسلًا في النسب يتشعب بدءًا من اسم القبيلة، ثم تضم تحتها عشيرة، ثم بطن، وفخذ، وفصيلة، وأسرة.
في سوريا كان الوضع مختلفًا وفق مركز “جسور”، إذ يختلف هذا التسلسل على نحو واضح، فتظهر القبيلة وتليها العشيرة ومن ثم الفخذ والعائلة والقوم، ويتحدد تسلسل النسب في القبائل نتيجة الضرورة القائمة على رابطة النسب، وأحيانًا على تحالف نشأ عن مصلحة أو ضرورة.
مكانة اجتماعية.. بوابة للسياسة
لطالما كان للعشيرة تأثير على حياة الأفراد في سوريا، ومن هذا المنظور عمل النظام السوري على استمالة وجهاء العشائر، وكسب ولائهم، بهدف التأثير على أبناء العشيرة نفسها الذين قد يصل عددهم لعشرات الآلاف في بعض المكونات القبلية.
ومع تطور المظاهرات السلمية إلى العمل المسلح نتيجة تعامل النظام بالحديد والنار مع مطالب السوريين، اعتمد النظام على فصائل عشائرية وشيوخ عشائر، ومناطق وجودهم لتأمين مؤسساته، كما دعم عشائر معينة على حساب أخرى، ما تسبب بتعزيز النزاعات العشائرية في مناطق معينة.
مظلة اجتماعية شرقًا
برز دور العشيرة مجددًا على السطح، وزاد الاهتمام به بعد الثورة السورية في ظل غياب القانون والسلطة وتراجع القبضة الأمنية، وفق ما يراه الباحث في التاريخ الاجتماعي والسياسي مهند الكاطع.
الكاطع قال لعنب بلدي، إن غياب السلطة في بعض المحافظات السورية خلّف حاجة ملحة للبحث عن مظلة اجتماعية بديلة تؤمّن الحد الأدنى من الطمأنينة ويدافع عن مصالح أبنائها، ما عزز دور العشيرة.
وبالرغم من ذلك كان لعب العشائر لأدوار سياسية أو عسكرية متفاوتًا ومحدودًا بنفس الوقت، إذ لعبت قبيلة “شمر”، على سبيل المثال لا الحصر، أدوارًا سياسية وعسكرية مختلفة في محافظة الحسكة بعد الثورة، علمًا أنها من أصغر القبائل من حيث عدد أبنائها في المنطقة، رغم امتداداتها “الضخمة” في العراق والخليج.
ومثلت “شمّر” الدور الرئيس في تحالف سياسي وعسكري مع سلطات الأمر الواقع، في إشارة إلى “الإدارة الذاتية”.
واستفادت القبيلة من الدعم الأمريكي لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وعاد هذا الدعم على زعمائها بمنافع مادية، كما أسهم في الوقت نفسه بتجنيب القبيلة أي تعديات وتجاوزات من قبل سلطات المنطقة، قياسًا لما حدث مع قبائل وعشائر أخرى لم تتخذ موقفًا جماعيًا أو على مستوى زعمائها الحقيقيين بالوقوف مع “قسد”.
الكاطع أضاف أن زعماء قبيلة “طيء” في محافظة الحسكة وقفوا على ضفة أخرى كحال معظم زعماء وشيوخ القبائل، مع النظام السوري، مرددين الشعارات التي يرددها النظام.
وأسهمت “طيء”، وفق الكاطع، بتشكيل القوات الرئيسة لـ”الدفاع الوطني” في القامشلي، قبل أن يجبرهم النظام منتصف العام الماضي على تسليم جميع مقارهم في المدينة لـ”قسد” بعد أن قطع عنهم الدعم عسكري.
ووفق الباحث الذي ينحدر من المنطقة الشرقية ذات التركيبة القبلية، يمكن ملاحظة أدوار مختلفة لعبتها قبيلة “العقيدات” في دير الزور، إذ شاركت في الثورة بقوة، ونظمت نفسها كجماعات مسلحة ضد النظام، وأسهمت في طرد الأخير من المحافظة، وسيطرت على حقول النفط.
ومع مرور الوقت تسببت الفوضى بخلافات بين أبناء العمومة خاصة مع دخول تنظيم “الدولة الإسلامية” على الخط، واستغلال النظام لهذه الخلافات، فاستخدم قسمًا منهم في معاركه، كما استخدمت “قسد” جزءًا منهم للغرض نفسه لاحقًا.
حماية الفرد وانقسامات المرحلة
في الأشهر الأولى من عمر الثورة السورية، حاول النظام السوري تقليص دور العشيرة واللعب على امتيازات بين أفراد العشيرة وأفراد بيت العشيرة (المشيخة)، فانقسمت العشيرة، كأي مكون اجتماعي، وذهب أفراد وقيادات منها مع الثورة، وغيرهم مع النظام، وفق ما قاله الباحث السياسي فراس علاوي، لعنب بلدي.
وبيّن علاوي أن دورًا كبيرًا لعبته العشيرة في مناطق شمال شرقي سوريا التي تشكل الحاضنة الشعبية لها، عبر حماية الأفراد في أثناء المظاهرات، من قمع قوات الأمن، التي كانت تقيم اعتبارًا لهذه الحالة الاجتماعية قبل تطور الأمور إلى صراع مسلح، وأصبح تكوين الفصائل أقرب إلى التكوين العشائري، لتشكل كل عشيرة فصيلها العسكري وقيادتها الاجتماعية، على حساب شيوخ العشائر الذين انقسموا، فمعظم الشيوخ الأساسيين كانوا محايدين أو أقرب إلى النظام، وباقي الشيوخ تقريبًا كانوا منقسمين.
انقسام شيوخ العشيرة خلق قيادات أخرى معظمها عشائرية، سواء من الضباط المنشقين أو المدنيين الذين صاروا قياديين في فصائل عسكرية، وبقي الوضع على هذا المنوال حتى دخول الفصائل الإسلامية و”جبهة النصرة” ثم تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى المنطقة الشرقية.
وقبل دخول هذه الفصائل كان التعامل مع العشائر يجري بشكل جيد، وكان هناك تنسيق واضح لأن لكل عشيرة جسمًا عسكريًا غير واضح، وغير مخصص للعشيرة فقط، لكن غالبية هذه الأجسام العسكرية تكونت من أبناء العشيرة نفسها، بحكم المناطقية.
وحين دخلت “النصرة” حاولت اللعب على هذا الوتر، وتقريب عشائر منها على حساب عشائر أخرى، وبايعتها عشائر دون عشائر أخرى، ما ولّد خلافات عشائرية داخل المنطقة، وفق الباحث.
من جانبه، استثمر تنظيم “الدولة الإسلامية” في الملف نفسه بالسنوات الأولى من عمره، وأنشأ “ديوان العشائر” لمحاولة احتواء هذا المكون الاجتماعي، فهناك عشائر حاربته، كـ”الشعيطات”، لمنع سيطرته على مناطقهم الغنية بالنفط، إلى جانب الصراع القبائلي بين عشائر بايعت التنظيم، وأخرى بايعت “النصرة”، أو “الجيش الحر”.
دور العشيرة خلال هذه الفترة كان الحماية المجتمعية لأبنائها، لكن دخول التنظيمات إلى هذه العشائر أدى إلى انقسام داخل العشيرة نفسها، مع محاولة التنظيم ضرب العشائر ببعضها لاستغلال الموقف.
فراس علاوي
باحث سياسي
دور العشيرة خلال هذه الفترة كان الحماية المجتمعية لأبنائها، لكن دخول التنظيمات إلى هذه العشائر أدى إلى انقسام داخل العشيرة نفسها، مع محاولة التنظيم ضرب العشائر ببعضها لاستغلال الموقف، وفيما بعد استفادت أيضًا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) من هذا الأمر، وبدا الانقسام أكبر بعد سيطرة “قسد” في المنطقة، ما جعل بعض الناس في صف النظام، وغيرهم ضمن سيطرة “قسد” وغير راضين عنها، ما سبب نزاعات وعدم استقرار مستمرًا في المنطقة، وفق الباحث.
وبالنسبة للزعامات العشائرية فهي موجودة ومتوزعة ويتجلى حضورها بـ”مجلس القبائل” الموالي للنظام، وآخر مقرب من “قسد”، وثالث يوالي فصائل المعارضة، تدعمه تركيا، وفي كل مجلس ممثل عن كل قبيلة، لكن هذه المجالس لم تكن بمستوى الفاعلية المأمولة نوعًا ما، فتفريغ المجتمع من نخبه السياسية والثقافية أثّر في العشيرة، كما تأثر المجتمع السوري ككل، بسبب عدم إفراز تجمعات سياسية حقيقية خلال الثورة، واقتصار الأمر على الدواوين العشائرية، وهي حالة اجتماعية تحاول تحقيق الحد الأدنى من عملية العقد الاجتماعي المحلي، أو القانوني المحلي، عبر حل بعض المشكلات البسيطة باللجوء إلى الأعراف أو حتى الدين، بحسب علاوي.
استغلال على طول الجغرافيا
مع انقسام الخارطة السورية بين مناطق نفوذ أجنبي، وسيطرة جهات محلية، صارت العشائر بتأثيرها الاجتماعي، وامتداداتها بين مناطق السيطرة، محط استغلال ومحاولات للاستمالة من قبل سلطات الأمر الواقع فيها.
من الأمثلة، دعم النظام السوري لعائلة آل بري التي تنحدر من حي باب النيرب في حلب، واشتهرت بتحالفها مع النظام ودعمها لعناصر يقاتلون إلى جانب قواته، وكان لهم دور في قمع المظاهرات بداية الثورة، وتتهم بتقاسم المخدرات والممنوعات مع شخصيات من النظام.
في عام 2016، هدد “شبيحة” النائب في “مجلس الشعب” حسن شعبان بري، أهالي حلب بـ”الذبح بالسكاكين” لمن لا ينتخبه في الانتخابات التي جرت في العام نفسه، كما هاجموا بالسكاكين محلًا (سوبر ماركت) في شارع كلية الهندسة بحلب، بسبب رفض صاحبه تعليق صورة المرشح حينها على واجهة المحل.
ونجح حسن بري حينها بالفوز بمقعد في “مجلس الشعب”، ضمن الدورة التشريعية 2016-2020، وبات اسمه حاضرًا في المجلس حتى اليوم، ولا تخلو دورة لـ”مجلس الشعب” إلا ويكون لآل بري نصيب منها، على اعتبار أن وجهاء العائلة ينتمون لحزب “البعث” ويدخلون المجلس بمقاعده.
ودعم النظام السوري آل قاطرجي (من قبيلة النعيم)، وبرز منهم أشخاص تحولوا إلى “تجار وأمراء حرب”، في مقدمتهم “الشيخ حسام قاطرجي”، كما يطلق عليه عناصره، وبرز بشكل كبير على الصعيدين العسكري والاقتصادي، من خلال تنظيم صفقات النفط بين النظام السوري و”الإدارة الذاتية” (المظلة السياسية لـ”قسد”)، بالإضافة إلى امتلاكه معملًا ضخمًا للحديد ضمن المدينة الصناعية بحلب، وآخر للأسمنت، كما يرسل عناصره باستمرار لتمشيط أجزاء البادية السورية، وتأمين الطرق التي يعترضها تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وعلى امتداد حكم الأسدين، عمل النظام السوري على استمالة وكسب ولاء العشائر مع الحفاظ على سقف محدد لأدوارهم في مفاصل الدولة، وعدم ترك مساحات واسعة أمام الزعامات التقليدية في العشيرة.
وشغل أشخاص من العشيرة مناصب في مؤسسات أمنية ومدنية مثل وزارة الداخلية والزراعة، ومكاتب تابعة للرئاسة، وارتفع التمثيل القبلي في “مجلس الشعب” ليصل إلى 12% في عام 2012، وكان عددهم 30 من أصل 250 شخصًا حينها، بينما لا توجد إحصائية عن نسبتهم حاليًا مع وجود 252 شخصًا في المجلس.
تابع بشار الأسد النهج الذي سار عليه أبيه منذ توليه الحكم عام 2000 حتى بدء الثورة السورية عام 2011، لتتحول استمالة العشائر إلى استعانة بهم لمنع انفجار الشارع، وضمان عدم انخراطهم بالمظاهرات السلمية في سوريا.
الشمال.. محاولات تشبيك
في الشمال السوري تنقسم مناطق السيطرة، حيث تسيطر “الحكومة السورية المؤقتة” على ريفي حلب الشمالي والشرقي ومدينتي تل أبيض ورأس العين، وجناحها العسكري هو “الجيش الوطني السوري”.
وتسيطر أيضًا حكومة “الإنقاذ” على إدلب وأجزاء من ريف حلب الغربي وأجزاء من ريف اللاذقية وسهل الغاب شمال غربي حماة، وهي مظلة سياسية لـ”هيئة تحرير الشام”.
وعملت “الحكومة المؤقتة” على عقد اجتماعات دورية مع شيوخ العشائر في المنطقة، أبرزها كان المؤتمر العام للمجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية في 2018، وشهد مشاركة نحو ألف شخصية يمثلون نحو 150 قبيلة وعشيرة سورية، عُقد في بلدة سجو القريبة من مدينة اعزاز بريف حلب الشمالي.
رئيس “الائتلاف السوري المعارض”، هادي البحرة، حمل منذ تسلمه المنصب، في أيلول 2023، خطة التوجه إلى الداخل السوري والنهوض بالاستثمار، وبرزت زياراته إلى الشمال ولقاؤه بمختلف الشخصيات المحلية، ومن بينها مجلس العشائر، والحديث معهم عن المشكلات في المنطقة.
كما يشكل المقاتلون المنحدرون من خلفية عشائرية نسبة غير معلن عنها، لكنها ليست قليلة، من مقاتلي “الجيش الوطني”، ومن أبرز الفصائل ذات الطابع العشائري “حركة التحرير والبناء“، وينحدر معظم مقاتليها من المنطقة الشرقية في سورية (دير الزور، الرقة، الحسكة).
وفي إدلب حيث تسيطر “تحرير الشام”، كان اهتمام “الهيئة” وقائدها “أبو محمد الجولاني” بالعشائر ظاهرًا، عبر اجتماعات معهم أو إنشاء تشكيلات عسكرية رديفة من أبنائهم، بالإضافة إلى وجود “كتلة الشرقية” (ينحدر مقاتلوها من عشائر المنطقة الشرقية) في صفوف “الهيئة”.
في أيار 2019، أعلن “مجلس الشورى العام” في إدلب عن تشكيل “سرايا المقاومة الشعبية”، ومعظمه من أبناء العشائر، مهمته دعم الفصائل العسكرية في معارك الصد والهجوم ودعم نقاط “الرباط والتدشيم والتحصين”.
ويعد خلدون الأحمد، وهو أحد وجهاء العشائر المقربين من “تحرير الشام”، مسؤولًا عامًا عن اللجنة العليا لها، وفي كانون الثاني 2023، قدّم “مجلس القبائل والعشائر السورية” في مدينة إدلب 250 بندقية من طراز “كلاشينكوف” إلى “سرايا المقاومة الشعبية”، خلال فعالية أقامها.
وظهر “الجولاني” أكثر من مرة مع مجموعة من شيوخ العشائر، تحدث معهم عن بناء المؤسسات في المنطقة، وإعادة إحياء دور العشائر، كما حاول السيطرة وتوسعة نفوذه في أرياف حلب حيث تسيطر “المؤقتة” من خلال علاقات القيادي المنشق عن الفصيل جهاد عيسى الشيخ (أبو أحمد زكور)، وذلك قبل انشقاق الأخير.
وقبل انشقاقه عن “الهيئة” في كانون الأول 2023، فتح “أبو أحمد زكور” باب العلاقات أمام “أبو محمد الجولاني” مع شيوخ العشائر، وكان خلال العامين الماضيين يدير ملف التنسيق مع فصائل “الجيش الوطني”، وذلك لأنه يحظى بحاضنة شعبية في قبيلة “البكارة”، إحدى أكبر القبائل العربية في المنطقة، وكان من أبرز الشخصيات التي مهّدت لـ”تحرير الشام” سيطرتها على المنطقة.
وبرز دور العشائر كرديف وغطاء على سلوكيات سلبية لـ”تحرير الشام” في حادثة اعتقال رئيس مجلس شورى قبيلة “البكارة” في إدلب، الشيخ يوسف عربش (أبو الحسن)، لأن عربش نفى لعنب بلدي وجود كفالة من قبل “مجلس القبائل والعشائر السورية” للإفراج عنه، لافتًا إلى أن الكفالة “قصة واختراع” من قبل المجلس.
“الإدارة الذاتية”.. تهميش باستراتيجية
في 25 من أيار الماضي، انطلقت فعاليات النسخة الثانية من ملتقى تحت عنوان “الوحدة الوطنية” للعشائر والمكونات السورية، بتنظيم مجلس “سوريا الديمقراطية” و”الإدارة الذاتية”، تحت شعار “حوار، أمان، بناء، من أجل سوريا موحدة لا مركزية”، في ملعب المدينة الرياضية بالحسكة، بمشاركة نحو خمسة آلاف شخصية من المؤسسات الرسمية والمكونات والأطياف والعشائر السورية، ومنهم شيوخ ووجهاء عشائر وشخصيات اعتبارية ودينية.
وقدم قائد “قسد“، مظلوم عبدي، خلال المؤتمر نفسه، وعودًا بتحقيق تطلعات عشائر المنطقة، التي لطالما ناقشها مع وجهاء المنطقة سابقًا، والعالقة عند نقطة الوعود منذ سنوات.
مناطق شمال شرقي سوريا حيث تسيطر “الإدارة الذاتية” وجناحها العسكري “قسد”، تحمل طابعًا عشائريًا، لكن رغم ذلك، يشهد المكوّن العشائري تهميشًا، خاصة بعد أن اختارت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، “وحدات حماية الشعب” (الكردية) شريكًا أساسيًا لواشنطن في سوريا لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”.
الدعم الأمريكي للقوات الكردية همّش دور العشائر العربية دون أن يقصيها، لأن قياديين أمريكيين يلتقون باستمرار مع وجهاء وشيوخ هذه العشائر، كما تبدي واشنطن توجهًا لاستمالة المكوّن العشائري في المنطقة، وهو ما يسعى له النظام السوري وحليفتاه، روسيا وإيران.
التهميش من “قسد” لا يمكن إنكاره، وأقرت به واشنطن حين أصدرت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، في آذار 2020، تقريرًا انتقد إقصاء المكوّن العربي عن مفاصل اتخاذ القرارات، داخل المؤسسات العسكرية والمدنية التابعة لـ”مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد)، المظلة السياسية لـ”قسد” و”الإدارة الذاتية”، وفق ما يعرّف نفسه.
وتحرص “قسد” بشكل دائم على إظهار تواصلها مع وجهاء وشيوخ قبائل وعشائر المناطق التي تسيطر عليها، كما يجري مظلوم عبدي لقاء دوريًا سنويًا مع الوجهاء والشيوخ، لكن علاقتها الحقيقية مع هذه القبائل والعشائر تتم عبر استراتيجية محددة وتظهر على شكل “استغلال واستثمار وتحالف وتفكيك مراكز القوة في القبيلة”.
وانعكست إشكالية التمثيل بالنسبة لعشائر شمال شرقي سوريا، عندما نشبت مواجهات مسلحة بين أبناء المنطقة و”قسد” منتصف العام الماضي، بقيادة إبراهيم الهفل، وهو أحد شيوخ قبيلة “العكيدات”، المتهم بالتبعية للنظام السوري.
ورغم انتهاء المواجهات المسلحة فعليًا، لا تزال تداعياتها تخيم على المنطقة، إذ يستهدف مسلحون من العشائر حواجز وأفرادًا ونقاطًا عسكرية لـ”قسد” بشكل شبه يومي في دير الزور.
درعا.. الوجهاء يلعبون الدور
يمكن النظر إلى محافظة درعا، التي يطغى على تركيبتها الاجتماعية الطابع العشائري، كنموذج عن ثقل اجتماعي يمثله هذا الطابع، فرغم سيطرة النظام على المنطقة منذ تموز 2018، تدار بمؤسساتها الخدمية وحتى القضائية عن طريق وجهاء عشائر، وآخرين يمثلون قرى وبلدات في ريف المحافظة.
ورغم مرور حوالي ست سنوات على فرض النظام سيطرته على المنطقة، لم يترك وجوده أثرًا على الصعيد الخدمي، أو القضائي، واقتصر جهده فقط على الصعيد الأمني الذي لم يبدُ ملحوظًا مع استمرار عمليات الاغتيال والاستهداف بالمنطقة بشكل يومي.
وفي ظل غياب آثار النظام، عمل وجهاء درعا على جمع التبرعات لترميم المدارس، والمستشفيات، وحفر الآبار، بناء على روابط قبلية مع مغتربين من المحافظة يعيشون خارج سوريا.
ويدير الوجهاء أيضًا ما يشبه مؤسسة قضائية يطلق عليها تسمية “لجنة التحكيم” وتعني بحل الخلافات، واسترداد الحقوق، في ظل غياب جهات رسمية تقوم بهذه المهام، وفق ما عرفت به نفسها عبر معرّفها الرسمي في تطبيق “تلجرام” (شائع الاستخدام في سوريا).
ويتبع لـ”لجنة التحكيم” مجلس شورى خاص، تُطرح عليه جميع الأحكام المأخوذة من قبل “اللجنة” بكل قضية على حدة، ويتم التشاور على الحكم فيها ومدى أحقيته وإنصافه.
وتنشط “لجنة التحكيم” بأغلب قضايا أبناء المحافظة ذات الطابع القضائي، من استرداد للمظالم سواء كانت مالية أو معنوية، والقضايا الأخلاقية، وقضايا النصب والاحتيال، وعلى رأس أعمالها قضايا القتل والثأر.
وتقول “اللجنة” أيضًا إنها لا تتبع نهائيًا لأي جهة سواء كانت رسمية أو عسكرية، ولا تتعرض لأي ضغوط من أي جهة كانت، إنما “تعمل منفردة بعيدًا عن الوصاية”.
آلية عمل “اللجنة” نفسها تجلّت لاحقًا بأدوار لعبتها في قضايا خلاف بينية في درعا، إذ تعتبر اليوم وصيّة على قرى وبلدات عديدة في شؤون حل الخلافات، فسبق وتلقت تفويضًا من وجهاء بلدات تل شهاب، زيزون، العجمي، خربة قيس، الطبريات، الفوار، نهج، خراب الشحم، عموريا، يقضي بتكليفها بإدارة المنطقة قضائيًا.
وفي 31 من آذار الماضي، قالت “لجنة التحكيم” إنها منذ مطلع 2024، تلقت 45 قضية جنائية، إلى جانب 19 قضية متعلقة بجرائم قتل، وسرقة، وأصدرت حكمًا في 26 قضية منها.
وجهاء استمالهم النظام
بالتوازي مع مبادرات اتخذتها المكونات العشائرية في درعا، لتعويض غياب أثر المؤسسات الحكومية عن المحافظة، يوجد وجهاء عشائر استمالهم النظام السوري، وعمل على زيادة تأثيرهم في المكون العشائري، وفق ما قاله وجهاء من المنطقة لعنب بلدي.
“أبو علي محاميد”، وهو من وجهاء درعا البلد، وأحد أبرز وجوه المدينة، قال لعنب بلدي، إنه لا شيوخ عشائر في درعا بالشكل التقليدي المعروف، إنما هناك “أفراد يملكون المال” ظهروا بسبب وضعهم المالي وتقربوا من النظام عبر الرشى باحثين عن مكانة لدى النظام وفي المجتمع المحلي.
وأضاف أن من صاروا يعرفون اليوم بـ”وجهاء” أو شيوخ يحققون مصالحهم الشخصية عبر علاقاتهم مع النظام، فيلجأ الناس إليهم لحل مشكلة ما، خصوصًا إذا كانت تلك المشكلة أمنية، وهو ما يلبيه النظام لاحقًا ليحقق مكانة لهؤلاء “الوجهاء”، وفق محاميد.
ويعتقد “أبو علي محاميد” أن النظام لا يرغب بالشخصيات الجريئة التي تحاججه، إنما يبحث عن “المهادنين” من أبناء المحافظة، إذ لا يريد أي صوت معارض، ويرمي لبعض وجهاء المحافظة بـ”الفتات” ليكسب تأييدهم بهدف الترويج لسرديته في المجتمع المحلي.
سياسة حزب “البعث” الحاكم في سوريا هدفت على مر العقود لتفتيت العشائر واستغلال أسمائها لإظهارها على أنها موالية له عبر منح وجهائها مقاعد في مجلس الشعب مثلًا أو في المجالس المحلية للقرى والمدن، وفق محاميد.
وأضاف أن للنظام سياسة تهدف لإبراز أشخاص من عشيرة معينة على حساب آخرين بارزين قد لا يتفق مع توجهاتهم، أو من المعارضين له.
أحد وجهاء ريف درعا الغربي، وعضو في “اللجنة المركزية” التي تدير المنطقة، قال لعنب بلدي، إن علاقة النظام بوجهاء وشيوخ عشائر من المنطقة كانت قائمة حتى خلال سيطرة المعارضة على الجنوب السوري.
وأضاف المصدر الذي تحفظ على اسمه لأسباب أمنية، أن بعض الوجهاء كانوا يترددون بين مناطق سيطرة المعارضة والنظام سرًا قبل عام 2018، ومنهم من رفض فكرة سيطرة معارضة النظام على المنطقة، فانتقلوا للعيش بمدينة إزرع التي لم تخرج عن سيطرة النظام أبدًا.
مستقبل مرهون بحل سياسي
تعرّض المكون القبلي خلال سنوات الحرب لهزات عنيفة، أفقدته جزءًا أساسيًا من مصادر قوته أبرزها العنصر البشري، إذ خسرت المناطق عددًا من أبنائها نتيجة القتل أو الاعتقال أو التهجير أو الاختفاء القسري، ما أدى إلى تفتت المكون العشائري وتشظيه، وفق دراسة صادرة في شباط 2022، حملت هنوان “عشائر الجزيرة والفرات في سوريا: التحالفات الهشّة من البعث إلى الثورة”، نشرها “المركز العربي للأبحاث”.
وأوضحت الدراسة، أن بيوت المشيخة انقسمت تبعًا للتوجه السياسي الذي فرضته ظروف الحرب.
ورغم المعطيات الحالية، بقي للمكون العشائري ثقله ووزنه الذي يمتاز به تاريخيًا، ما يفسر رغبة أطراف كثيرة، محلية ودولية، في استمالته، نظرًا إلى السلطة التي ما زال يتمتع بها شيوخ العشائر وقدرتهم على التأثير في مجتمعاتهم المحلية، إلا أن هذه المكونات العشائرية تفتقد رؤية سياسية جامعة.
ووفق الدراسة، تؤكد أدبيات النزاع أن الحروب الأهلية والصراعات المسلحة تعزز الهويات الفرعية بسبب غياب الدولة الوطنية الجامعة، لذا يمكن القول إن ما يجب العمل عليه مستقبلًا هو ضرورة وجود عقد اجتماعي متماسك يؤسس لهوية وطنية تستوعب الهويات الفرعية وتتفاعل معها بغرض تهذيبها.
الباحث في شؤون إدارة النزاع، محمود الحسين، قال لعنب بلدي، إن مستقبل العشائر في سوريا يعتمد على شكل التسوية السياسية التي من الممكن أن تحدث مستقبلًا.
ويرى الحسين أن دور العشيرة في الفترة المقبلة سيبقى مؤثرًا في التوازنات المتعلقة بالقوى المحلية.
طالما لا يوجد شكل عام لمؤسسات الدولة الحقيقية التي تمثل شريحة واسعة من الناس وتعمل على حل مشكلاتهم اليومية، سيبقى للعشيرة دور واضح ومؤثر في سوريا.
محمود الحسين
باحث في إدارة النزاع
الباحث في التاريخ الاجتماعي والسياسي مهند الكاطع، قال لعنب بلدي، إنه لا يوجد موقف سياسي ثابت واحد للعشائر السورية، ولا يمكن أخذها ككتلة واحدة.
واعتبر الكاطع أنه لا يمكن رؤية أي مستقبل سياسي للعشائر في سوريا ما لم تنخرط بحراك سياسي حقيقي بعيد عن العصبية العشائرية، فالعصبيات العشائرية أسهمت خلال العشر سنوات الأخيرة بصورة سلبية وزادت من الاحتكاكات الساخنة بين العشائر ونتج عنها في كثير من الأحيان ضحايا.
على الصعيد الإقليمي والدولي، فشلت العشائر بلعب دور سياسي حقيقي يعبر عن كيانها ومصالحها ووجودها، وبقيت أدوارها في سوريا مهمشة ومتفرقة بين قوات وسلطات الأمر الواقع تستخدمها كيفما تشاء مقابل اختيار كل سلطة بعض الوجهاء وتسويقهم على أنهم بمنزلة شيوخ جدد وممثلين للعشائر.
مهند الكاطع
باحث في التاريخ الاجتماعي والسياسي
ووسط هذه المعطيات يتساءل الباحث عن كيفية لعب هذه العشائر أدوارًا سياسية دون أن تقوم بتشكيل تنظيمات توحد جهودها وتدمجها وتستفيد من طاقاتها، بعيدًا عن المصالح الفئوية الضيقة والنعرات العشائرية.