عنب بلدي – حسن إبراهيم
من خلال فتحة ضيقة لا تتجاوز 50 سنتمترًا، ودون توفر أدنى معدات السلامة، يدخل حسين إلى قلب محطات تكرير الوقود البدائية (الحراقات) كل يوم، مستنشقًا غازاتها السامة، وروائحها الكيماوية المنبعثة، يقاومها بكوفية (جمدانة) لم تشفع له من الإصابة بالتهاب حاد في القصبات الهوائية.
داخل خزان حديدي، يتعرض الشاب لدرجات حرارة تصل إلى حوالي 50 درجة مئوية، وتكون الغازات كثيفة داخل الخزان، للحصول على نحو 35 دولارًا أمريكيًا، مقابل تنظيف “الحراقة” ومعه اثنان لكل منهما الأجر نفسه.
يعيش حسين مع مرضه منذ سنتين نتيجة تعرضه للروائح والغازات في “حراقات” قرية ترحين بريف حلب الشرقي، إثر عمله في تنظيفها بشكل يومي، ويصر على العمل رغم معرفته بمخاطره التي قد تودي بحياته.
ويقتصر عمل الشاب على تنظيف وتجريف الرواسب الصلبة داخل “الحراقة” بعد تكرير النفط فيها، قائلًا إنه أجبر نفسه على مواصلة عمله منذ أربع سنوات، وإنه مدرك للآثار السلبية على صحته وجسمه، لكنه يريد إعالة أطفاله الثلاثة، وتأمين احتياجاتهم.
إلى جانب مرضه، تدهورت حالة أطفاله الصحية، بسبب انتشار الروائح الضارة والدخان في سماء المنطقة، وقرب منزله من منطقة “الحراقات”، وبات الأطفال بحاجة لاستخدام أدوية لعلاج الالتهابات الجلدية التي زادت حدتها بفعل هذه البيئة الضارة.
وقال حسين لعنب بلدي، إن التهاب القصبات المصاب به أجبره على ترك “الحراقات” مدة أربعة أشهر، رغم حاجته الماسة للعمل، نظرًا إلى تدهور حالته الصحية، وذهابه إلى مدينة الباب لتلقي علاجه بشكل شبه يومي.
وخلال فترة جلوسه دون عمل، ازدادت الأعباء المالية عليه، بين تنقلات إلى المستشفى وأدوية واحتياجات المنزل، مشيرًا إلى أن التكلفة الشهرية للأدوية الطبية تصل إلى 70 دولارًا أمريكيًا شهريًا، ما دفعه لاستئناف العمل، لعدم إيجاده بديلًا إلا داخل هذه “الحراقات”.
حالة حسين واحدة من مئات الحالات في قرية ترحين المكتظة بـ”الحراقات”، يستنشقون يوميًا الغازات السامة والمسرطنة.
من غطاء أخضر إلى “حراقات”
من على بعد سبعة كيلومترات، يمكن مشاهدة أعمدة الدخان الأسود الكثيف وهي تشق عنان السماء، ومن تحتها ألسنة اللهب التي لا تخمد على مدار الـ24 ساعة في قرية ترحين التابعة لمدينة الباب بريف حلب الشرقي.
دخان أسود كثيف، وروائح سامة منبعثة من محطات تكرير الوقود البدائية (الحراقات)، التي تضخ سمومها بلا هوادة ولا انقطاع في هواء المنطقة، وفي تربتها، فمخلفات النفط الخام حولت أرضها الحمراء إلى سوداء على مدار السنوات السبع.
وتحولت ترحين من قرية صغيرة مهمشة بريف حلب إلى مركز ونقطة فارقة لعمل “الحراقات” البدائية على مستوى الشمال وحتى على مستوى سوريا، مصدرة المحروقات إلى المنطقة.
حرش وغطاء أخضر تحول إلى أرض قاحلة وبؤرة للغازات والمواد الكيماوية والمسرطنة، حيث تعمل 1200 “حراقة” بدائية، تضخ سمومها ومخلفاتها، مخلفة كوارث بيئية في هواء المنطقة وأرضها وفي صحة العاملين والسكان، وتترك آثارًا مدمرة تحتاج عملية الاستشفاء منها إلى سنوات.
60% من مساحة ترحين تتحول إلى “حراقات”
لا توجد إحصائية لمساحة الأراضي التي تعمل فوقها “الحراقات”، إذ لا ينحصر وجودها ضمن الحرش الذي تحول إلى أرض قاحلة فقط، إنما ينتشر بعضها قرب الطرقات، وعلى تخوم بعض الأراضي الزراعية في قرية ترحين.
وتشغل كل “حراقة” مساحة دونم من الأرض، بالإضافة إلى نحو دونم حولها لتسهيل عملية الحرق، وإخراج المواد، وبحساب تقديري فإنها تشغل مساحة نحو 2400 دونم في حال حساب 1200 “حراقة” على مساحة دونمين لكل واحدة، أي 240 هكتارًا من أصل مساحة القرية البالغة 400 هكتار.
أرض جرداء
تظهر صور الأقمار الاصطناعية منذ 2011 كيف تحولت منطقة “الحراقات” تدريجيًا من أراضٍ زراعية كانت مزروعة بأشجار السرو والزيتون إلى أراضٍ قاحلة جرداء، حيث قطعت مئات الأشجار وحلت مكانها “الحراقات” البدائية.
خلال جولة عنب بلدي في “حراقات” ترحين، كان واضحًا تأثير مخلفاتها على التربة، فالانسكابات النفطية حولت أرضها إلى اللون الأسود، بالإضافة إلى أكوام الفحم والمخلفات الناتجة عن عملية الحرق.
كيف تعمل “الحراقات”؟
أجرت عنب بلدي جولة في “حراقات” ترحين، والتقت عددًا من أصحاب “الحراقات” والعمال فيها، وتتبعت مسار عملها بدءًا من جلب النفط الخام حتى بيع مشتقاتها.
تنتشر محطات تكرير الوقود البدائية (الحراقات) في حرش قرب ترحين يتبع لملكية الدولة سابقًا، ويبلغ عددها 1200 “حراقة”، تحتل كل منها مساحة تقدّر بما يقارب الدونم، وتعتمد على النفط الخام بشكل أساسي، إذ يتم وضع طن واحد من مادة النفط في خزان معدني (أسطوانة)، وتوقد النار تحته لتصل إلى درجة الغليان.
ويتراوح سعر الطن الواحد من مادة النفط الخام بين 320 و360 دولارًا أمريكيًا.
بعد ذلك يتبخر النفط الخام ويمر عبر أنابيب حديدية محاطة بالمياه، لتكثيفه وتحويله إلى مشتقات نفطية، ويمكن استخراج مادة البنزين بدرجة حرارة من 80 إلى 110 درجات، والكاز بدرجة حرارة من 120 إلى 320 درجة، ومن 320 فما فوق مادة المازوت، وتنتج كل 70 طنًا من النفط الخام ما يقارب 270 برميلًا، وسعة البرميل 220 ليترًا، وتزداد الكمية بحسب حجم “الحراقة”.
ولا تنتج “الحراقات” البنزين والكاز، لأن شركة “الأنوار” المتحكمة بعملية الشراء لا تشتري إلا المازوت، ما يدفع أصحاب “الحراقات” إلى إنتاجه فقط.
وتتطلب كل عملية حرق (الطبخة) من 24 إلى 30 ساعة، ومشاركة أربعة عمال على ورديتين، يتقاضى كل عامل 75 دولارًا مقابل كل “طبخة”، بينما تختلف أجور عمال التنظيف، إذ تحتاج عملية التنظيف إلى ثلاثة عمال يتقاضون مجتمعين 100 دولار.
بعد انتهاء عملية استخراج المواد المشتقة، يتبقى الفحم و”الصفي” كمخلفات لعمليات الحرق، يستخدم الفحم بعد طحنه مرة أخرى في إعادة تشغيل “الحراقات” أو يتم بيعه، بينما لا تعطى “الصفي” قيمة ولا تستخدم في أي عمليات أخرى، وتتراكم مشكلة أكوامًا لا فائدة منها.
اقتصاد تتقاسمه ثلاثة فصائل
تعمل في منطقة ترحين شركة “الأنوار” التابعة لـ”هيئة تحرير الشام” صاحبة السيطرة العسكرية في إدلب، لكن لها ذراعًا في المنطقة وهي “أحرار الشام” (أحرار عولان)، وفرضت الشركة سيطرتها على أصحاب “الحراقات”، ومنعت تجار المحروقات من الوصول إلى المنطقة، بهدف احتكار تجارة المحروقات لمصلحتها، كما جعلت البيع يتم عن طريقها فقط.
وتحدد الشركة قواعد صارمة لشراء منتجات “الحراقات”، حيث تشتري فقط المازوت، وتنتجه “الحراقات” بثلاثة أنواع، الأول صنف “القرحة” بسعر 106.5 دولار للبرميل، والثاني صنف “الزهرة” بسعر 100 دولار للبرميل، والثالث “العسلي” بسعر 82 دولارًا للبرميل.
ويبلغ عدد “الحراقات” 1200، وتقسم المنطقة إلى عدة قطاعات تسيطر عليها فصائل “أحرار الشام” و”أحرار الشرقية” وفرقة “الحمزة” (الحمزات)، وتفرض هذه الفصائل إتاوات على أصحاب “الحراقات” بقيمة خمسة دولارات لكل طن من مادة النفط الخام.
وتتمثل هذه الإتاوات في رسوم مالية يتم تحصيلها من الشركة التي تشتري المنتجات من أصحاب “الحراقات”، وتقوم الشركة بدورها بتحصيل هذه الرسوم من أصحاب “الحراقات”.
ويتم فرض رسوم إضافية عند نقل الفحم خارج المنطقة للبيع، ويعتبر ذلك جزءًا من سياسة السيطرة على تجارة المواد، وتوجيهها لمصلحة الفصيل المسيطر.
ويتراوح سعر الطن الواحد الفحم بين 120 و200 دولار أمريكي.
واعتبر أصحاب “الحراقات” أن هذا استغلال واضح لهم، من قبل الفصائل والشركة، حيث يتم فرض رسوم “مفرطة” عليهم، دون وجود مبرر قانوني أو اقتصادي واضح.
تاجر واحد و”تحرير الشام” الرابح الأكبر
تعد مادة النفط أحد الموارد الأساسية لعمل “الحراقات”، ويشرف على شرائها من مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) تاجر واحد فقط يدعى محمود خليفة، وهو الوحيد الذي يدخل النفط الخام إلى ريف حلب، بالتنسيق مع قياديين من “قسد”.
لم تستطع عنب بلدي الحصول على معلومات أكثر عن محمود خليفة، سوى أنه من عشيرة “الجحيشات”، ويدير عمليات شراء النفط وبيعه عبر مقاولين (دلالين) وعددهم نحو 33 مقاولًا، ويتبع خليفة لـ”فرقة السلطان مراد” التي يقودها فهيم عيسى.
حسب المصادر، فإن التاجر يستفيد من الفجوات الأمنية لإدخال النفط عبر معبر “الحمران” الداخلي، وغالبًا ما يكون محسوبًا أو يعتمد على العلاقات القوية مع الجهات المسؤولة سواء في ريف حلب أو من طرف “قسد” لتسهيل عملياته.
ويتراوح سعر الطن الواحد من مادة النفط الخام بين 320 و360 دولارًا أمريكيًا.
وأفادت المصادر بأن الرابح الأول هو “هيئة تحرير الشام”، لأن لها ذراعها “أحرار الشام- القاطع الشرقي” التي تدير دفة بعض الأموال، كما أن شركة “الأنوار” تتبع لها، ويمثل عملهم باب رزق كبيرًا وموردًا مهمًا لاقتصاد “الهيئة” وقائدها “أبو محمد الجولاني”.
وتواصلت عنب بلدي مع شركة “الأنوار” للحصول على توضيحات حول اتهامات باحتكارها شراء المحروقات من مصافي النفط البدائية في ترحين، وسبب فرضها خمسة دولارات على كل طن من النفط الخام، وحصر شراء المازوت فقط من “الحراقات”، لكنها لم تتلقَ ردًا حتى لحظة نشر هذا التحقيق.
كما تواصلت عنب بلدي مع “هيئة تحرير الشام” للحصول على توضيحات حول تبعية الشركة لها، لكنها لم تتلقَ ردًا أيضًا.
المال في خزان “الجولاني”
بعد انشقاق الرجل الثالث في “تحرير الشام” جهاد عيسى الشيخ المعروف بـ”أبو أحمد زكور” عن الفصيل، كشف عن عدة قضايا وملفات فساد يديرها “أبو محمد الجولاني”، من بينها احتكار النفط والتفاوض مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) لإدارة هذا الملف.
وقال “أبو أحمد زكور” في كانون الثاني الماضي، إن “الجولاني” عقد اجتماعًا تفاوضيًا مع المسؤولين عن ملف المحروقات لدى “قسد”، في سرمدا شمالي إدلب، وناقشوا طرق احتكار توريد المحروقات ومنع المنافسة التجارية في السوق، وتوصلوا إلى اتفاق بخمسة بنود هي:
- إبطال العقود السابقة مع الموردين الذي كانوا يدخلون المحروقات سابقًا.
- تأسيس شركة “الأنوار” بإدارة كل من “أبو محمد مدرعات” و”أبو عبد الله وتد”، وحصر توزيع المحروقات عبرها.
- توكيل “تجمع الشهباء” (تشكيل عسكري في ريف حلب، حلّ نفسه لاحقًا) بفرض إتاوات على جميع التجار الذين ينقلون المحروقات من جرابلس باتجاه الباب واعزاز وعفرين، لتكون له موارد مالية يأخذها من التجار مباشرة.
- وصول المحروقات إلى إدلب بأسعار أرخص من ريف حلب، ليظهر للمدنيين بأنه قادر تحسين الوضع المعيشي بشكل أفضل من مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري”.
- تخفيض كميات المحروقات التي توزع على الأفران في مناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي، لإجبارها على الشراء من تجار يبيعون بأسعار أعلى، لكي يرفع سعر الخبز ويزيد من التضييق على المدنيين.
وذكر “أبو أحمد زكور” أن “تجمع الشهباء” يستفيد من ملف تجارة المحروقات بأكثر من 500 ألف دولار، ويعتبرها دعمًا من “الجولاني”، ليستخدم هذه الأموال بشراء الذمم وخلق الفوضى في الشمال السوري.
وأضاف أن “الجولاني” يستفيد من عقد المحروقات بأكثر من 10 ملايين دولار، يستخدمها في فتح “المولات” والمشاريع التجارية، التي يجمع فيها أموال المنطقة بصندوقه.
ولم يحدد “أبو أحمد زكور” الفترة الزمنية لتحصيل هذه العائدات المالية، كما لم تستطع عنب بلدي مقاطعة المعلومات الواردة على لسان القيادي مع مصدر مستقل.
مراحل تكرير النفط بـ”الحراقات” في قرية ترحين
الخطوة 1: طريق النفط الخام من مناطق سيطرة “قسد”.
سعر الطن بين 320 و360 دولارًا أمريكيًا.
الخطوة 2: يتم صب النفط الخام في “الحراقات” وإشعال النار تحته.
الخطوة 3: تتطلب كل عملية حرق (الطبخة) من 24 إلى 30 ساعة.
الخطوة 4: استخراج مادة البنزين بدرجة حرارة من 80 إلى 110 درجات.
الخطوة 5: استخراج مادة الكاز بدرجة حرارة من 120 إلى 320 درجة.
الخطوة 6: استخراج مادة المازوت بدرجة حرارة من 320 درجة فما فوق.
الخطوة 7: تنتج كل 70 طنًا من النفط الخام ما يقارب 270 برميل مازوت (سعة البرميل 220 ليترًا).
الخطوة 8: يبقى الفحم و”الصفي” من مخلفات عملية الحرق، ويعاد استخدام الفحم في عملية الحرق، لكن “الصفي” تتراكم دون استخدام لها.
الخطوة 9: شركة “الأنوار” تحتكر عملية الشراء، إذ تشتري المازوت وتبيعه لمحطات الوقود (الكازيات)، ولا ينتج أصحاب “الحراقات” سوى المازوت حاليًا.
فرصة عمل قاتلة
اعتاد وليد العمل بتكرير المحروقات في ترحين، كما اعتاد آثار ذلك من انبعاث الغازات السامة والروائح الكريهة واتساخ اليدين وكامل الجسد، وقال لعنب بلدي، إن أكثر ما يزعجه هو تهيج العينين واحمرارهما.
وتلقى وليد السؤال عن آثار العمل بـ”الحراقات” بسخرية وتهكم قائلًا، إنه تعود على رائحة الانبعاثات الضارة، وضيق النَّفس، والتشققات في اليدين، واللون الأسود الذي يرافق يديه منذ سنوات، لافتًا إلى أن من يدخل إلى العمل في “الحراقات” تشعر به يحتضر ولا يمكنه تحمل الأجواء.
وأوضح الشاب لعنب بلدي أن أبرز التحديات التي يواجهها عمال “الحراقات” الحرارة الشديدة والنيران التي تنبعث من “الحراقة”، وأخطر ما قد يواجهه العامل هو بلع اللسان خلال العمل، الذي قد يودي بحياة الفرد، إلى جانب الانفجارات والحرائق التي تحدث بين فترة وأخرى.
ويعمل وليد مع إخوته الثلاثة في تكرير المحروقات، من أجل تأمين احتياجات أسرتهم التي تضم تسعة أفراد، فهو مهجّر من مدينة السفيرة شرقي حلب ولا يملك خيارات أخرى، ويداوم على تشغيل “الحراقة” وطبخ النفط الخام لإنتاج المازوت منذ خمس سنوات.
وقال لعنب بلدي، إن عملهم يتطلب جهدًا كبيرًا، ويستمر من 20 إلى 45 ساعة لكل عملية طبخ في “الحراقة”، ويتلقى كل منهم مقابل الطبخة الواحدة مبلغ 75 دولارًا أمريكيًا.
وذكر أن عمال “الحراقات” يعملون دون استخدام معدات السلامة الجسدية الأساسية مثل الملابس العازلة، والقفازات، والخوذ، ما يجعلهم عرضة للمخاطر الشديدة من حرارة ونيران.
وتعد أجور العمل مجزية ومرتفعة مقارنة بالأعمال الأخرى، إذ يتقاضى عمال المياومة في الشمال السوري 100 ليرة تركية في أحسن الأحوال (نحو ثلاثة دولارات أمريكية)، ويعد مبلغًا منخفضًا أمام قائمة الاحتياجات، إذ وصل حد الفقر المعترف به إلى 10378 ليرة تركية، وحد الفقر المدقع إلى 8984 ليرة.
ووصلت معدلات البطالة في مناطق شمال غربي سوريا بين السكان المدنيين إلى 88.79% بشكل وسطي (مع اعتبار أن عمال المياومة ضمن الفئات المذكورة)، في حين يسكن في المنطقة 5.1 مليون نسمة.
وتعد عملية تشغيل “الحراقات” وطبخ المازوت من الأعمال الشاقة والمعقدة، ويتطلب هذا العمل تحمل الحرارة الشديدة ومخاطر النيران، إضافة إلى التعامل مع الغازات والدخان الناتج عن عملية الحرق.
147 حريقًا في عام ونصف
بحسب إحصائية حصلت عليها عنب بلدي من “الدفاع المدني السوري” (الخوذ البيضاء)، فإن فرق الإطفاء لديه استجابت خلال عام 2023 لـ105 حرائق مرتبطة بالمحروقات في منطقة ترحين.
وتوزعت بين 99 حريقًا في محطات تكرير الوقود، وستة حرائق في محطات الوقود، وأسفرت الحرائق عن إصابة سبعة عاملين بحروق.
ومنذ مطلع 2024 حتى 27 من أيار الماضي، استجابت فرق الإطفاء في “الدفاع المدني” لـ42 حريقًا مرتبطًا بالمحروقات في منطقة ترحين، جميعها في محطات تكرير الوقود، وأدت الحرائق إلى إصابة أربعة عاملين بحروق.
وعن فرق أو خطورة الحرائق في “الحراقات” عن التي تندلع في مناطق مختلفة كالمخيمات، أو الأراضي الزراعية، قال المتطوع في “الدفاع المدني” حسن المحمد، لعنب بلدي، إن طبيعة العمل الخطرة وغياب إجراءات الأمان والسلامة في “الحراقات” ووجود ضغط داخل “الحراقة” يجعلها قابلة للانفجار بأي لحظة، ولا سيما عندما ترتفع درجات الحرارة، وهذا يشكل خطرًا كبيرًا على فرق الإطفاء.
وأضاف المحمد أن المحروقات البترولية بشكل عام خطرة في التعامل معها وتحتاج إلى تدريب عالٍ وخبرة، ولكن في “الحراقات” الوضع شديد التعقيد بسبب خطر الحريق وخطر الانفجار بسبب الضغط.
ووجود الغاز المنبعث سريع الاشتعال يعقّد الأمر، بالإضافة إلى عدم وجود تقنية الاستفادة منه بالشكل الصحيح، وتحتاج فرق “الدفاع” إلى وقت طويل في السيطرة على الحرائق، إضافة إلى تخزين المحروقات بالقرب من أماكن التكرير والتصاق “الحراقات” ببعضها، وفق المتطوع.
الموت في ذاكرة ترحين
تحمل “حراقات” ترحين رائحة الموت في ذاكرة العمال والناجين من حوادث انفجار أو استهداف من قبل قوات النظام السوري وروسيا، وتعد أبرز تلك الحوادث ما حصل في 5 من آذار 2021، حين قصفت قوات النظام وروسيا سوق المحروقات بقرية الحمران ومصافي التكرير البدائية في قرية ترحين، بسبعة صواريخ أرض- أرض تحمل قنابل عنقودية.
حينها، أسفر الاستهداف عن مقتل أربعة مدنيين، بينهم متطوع بـ”الدفاع المدني السوري” خلال الاستجابة للحريق وإخماد النيران الناتجة عن القصف، وأُصيب 42 مدنيًا، ونتجت أضرار مادية كبيرة جدًا بممتلكات المدنيين وآليات نقل المحروقات، واستمر إخماد الحريق 20 ساعة.
وفي 9 من شباط 2021، استهدفت قوات النظام وروسيا بصاروخ أرض- أرض نوع “توشكا” يحمل قنابل عنقودية “حراقات” النفط في قرية ترحين، ما أدى إلى مقتل مدنيين اثنين وجرح أربعة آخرين.
تلوث التربة.. الخطر الخفي
تدهور التربة مشكلة عالمية، وتلوثها خطر يؤثر على البيئة بكل مكوناتها، فهو يسمم الغذاء والماء والهواء. إنه خطر على صحة الإنسان وأمنه الغذائي.
بطبيعة تركيبها، تتمتع التربة بقدرة كبيرة على ترشيح العناصر الملوثة وتخزينها، مقلِّلة تأثيراتها السلبية على النبات والحيوان والإنسان، ولكن هذه القدرة محدودة، لا يمكنها التجدد بلا نهاية.
مع تفاقم التغير المناخي والتصحر المتزايد، تنشط معظم الدول في تقييم (صحة) تربتها، للوقوف على الملوثات التي تسبب تدهورها، وتؤثر على صحة مواطنيها. تنشأ معظم ملوثات التربة من النشاطات البشرية، كالصناعة والممارسات الزراعية، وتراكم النفايات، يضاف إلى ذلك الأثر المدمر للعمليات العسكرية على البنية التحتية، وتأذي التربة من الذخائر المنفجرة وغير المنفجرة.
لقد تسبب الصراع في سوريا بتقسيم الجغرافيا السورية إلى مناطق سيطرة معزولة، منعت تدفق المنتجات الحيوية بينها، وخاصة المحروقات التي تحرك عجلة الاقتصاد. دفع هذا الواقع إلى حدوث فوضى في تجارة المحروقات، تجلت بإنشاء (بازارات) للفيول والمازوت، هي عبارة عن ساحات ترابية (جُهزت غالبًا في مناطق زراعية) تصطف الصهاريج فيها، لتفرغ حمولاتها إلى شاحنات أصغر تحمل براميل معدنية أو بلاستيكية.
يرافق ذلك انسكاب آلاف الليترات منها على التربة التي أصبحت قاتمة اللون أو سوداء، ما يشير إلى إشباعها بالزيوت الثقيلة. دفع هذا الحال أيضًا إلى إنشاء محطات تكرير بدائية للنفط، انتشرت في كل مناطق شمال غربي سوريا وعملت على تلويث تربتها على مدى سنوات، وتسببت بأذى كبير للبيئة وللتربة بشكل خاص قبل أن يتم إيقاف معظمها من قبل السلطات المحلية أو بسبب استهدافها من قبل الطيران الروسي وطيران النظام.
مع ذلك استمرت عشرات “الحراقات” بالعمل في منطقة الباب، وخاصة في قرية ترحين التي انتشر صيتها كإحدى أكثر المناطق تلوثًا في شمال غربي سوريا. تعاني هذه المنطقة أساسًا من تراكم الملوثات القادمة من مياه الصرف الصحي، وحرق المحاصيل وسقوط القذائف، ورش السماد بمعدلات زائدة لتعويض نقص العناصر المغذية للنبات فيها وغيرها.
المشكلة ليست جديدة، فقد عانت التربة في سوريا قبل الحرب من إزالة الغابات، ومن الرعي الجائر والتصحر والري بمياه الصرف الصحي، ومن عدم معالجة النفايات النفطية الناتجة عن عمليات التكرير بشكل مقبول. ولكن هذه المشكلة تفاقمت بعد أن أصبحت “حراقات” النفط البدائية جزءًا لا يتجزأ من اقتصاد شمال غربي سوريا، وآثارها ما زالت كامنة في التربة، ولم يتخذ أي إجراء لتنظيفها من الملوثات التي تراكمت فيها، خاصة أن تلوث التربة بالنفط يشكل خطرًا كبيرًا على الصحة العامة.
لكن معرفة طبيعة هذا الخطر في كل منطقة تتطلب إجراء دراسات موضعية معمقة لتربتها، ثم وضع النتائج في سياقها الإقليمي. ومن أجل التقييم الدقيق لحالة التربة في شمال غربي سوريا، ما زالت محدودية البيانات الخاصة بها تعوق الوصول إلى خلاصات واضحة.
في منطقة تعاني أساسًا من جفاف إقليمي ومن ضغط شديد على الموارد المائية، أدى انهيار الاقتصاد والبنية التحتية بسبب الحرب إلى انتشار صناعات عشوائية كالطلاء الكهربائي والمدابغ والفيوم، وانتشار ممارسات زراعية مؤذية للتربة، كالري بمياه الصرف الصحي واستخدام الأسمدة الرديئة. تصنّف كل هذه الممارسات كآثار بيئية غير مباشرة للصراع، تُفاقم آثاره المباشرة الناتجة عن القصف الجوي والمدفعي، وانتشار الذخائر المنفجرة وغير المنفجرة، وعن العمليات العسكرية.
من الطبيعي أن تُعطى الأولوية في أثناء المعارك لإنقاذ المدنيين وانتشال الضحايا وعلاج الجرحى، ولكن مع طول أمد الحرب، تصبح البيئة هي الضحية الكبرى، لأن إهمالها يتسبب بكارثة إنسانية شاملة، نتيجة تضرر التربة والماء اللذين يمثلان مصدر غذاء السكان. وفقًا لمنظمة الزراعة والغذاء (FAO)، فإن الأسلحة غير القابلة للتحلل والمواد الكيماوية الناتجة عن الحروب، يمكن أن تبقى في التربة لسنوات طويلة.
لم تنجُ أوروبا من الأثر المدمر للصراعات، فقد تسببت الحرب العالمية الأولى بأذى بيئي شديد، نتج عن إزالة الغابات واستخدام ملايين الأطنان من الأسلحة والذخائر، استقرت نسبة منها في التربة، ما جعل بعض مناطقها غير قابلة للعيش فيها حتى اليوم (أي بعد مضي أكثر من مئة عام)، مثل “المنطقة الحمراء” في فرنسا.
لقد تسببت حرب الخليج 1990-1991، التي استُهدِفَت فيها آبار النفط، بأضرار بيئية جسيمة، تأذَّت خلالها المحميات الصحراوية بشدة، ما سرّع تآكل التربة فزادت حركة الرمال، وانتشر الغبار وكثرت العواصف الرملية.
أدى غزو العراق أيضًا عام 2003 إلى آثار كارثية على التربة، بسبب بناء التحصينات العسكرية وزراعة حقول الألغام وإزالتها وحركة عشرات الآلاف من المركبات العسكرية.
يعرَّف تلوث التربة ببساطة بأنه وجود عناصر معينة فيها بنسبة تفوق المعدل الطبيعي، الذي يختلف من دولة إلى أخرى.
ورغم أن الأوربيين تصالحوا على اعتماد قيم مرجعية (أوروبية) مشتركة، فإن كل دولة تعتمد في تشريعاتها قيمًا خاصة بها لهذه المعدلات، تنسجم مع اعتباراتها الإنسانية والاقتصادية وحتى السياسية، بالإضافة إلى واقعها الجيولوجي الذي قد يفسر زيادة تركيز بعض العناصر في التربة العميقة.
تنتمي سوريا إلى الهضبة العربية الثالثة، التي تتكون من الطين والمرل والحجر الجيري، والحجر الرملي والبراكين الموضعية (البازلت)، كما تظهر طبقة تكتونية تمتد إلى الغرب والشمال الغربي والشمال (المؤسسة العامة للجيولوجيا)، وهي طبقة عميقة إلى حد يسمح بنفي أي تأثير عميق لزيادة تركيز المعادن الثقيلة في التربة.
من أجل تخطيط وتنفيذ ونجاح تنظيف التربة من الملوثات بشكل عام ومن مخلفات الوقود بشكل خاص، واستصلاحها، لا بد من توفر فهم عميق لمصادر التلوث وشدته.
يستند هذا الفهم إلى توفر بيانات مرجعية إقليمية ومحلية. لقد أسهمت دراسة حول “العناصر السامة بالتربة في شمال غربي سوريا”، بدعم من معهد “جيمس هوتون”، في تلبية هذه الحاجة من خلال الإبلاغ عن أول مسح منسق لتركيزات التربة السطحية على امتداد شمال غربي سوريا للعناصر التي يُحتمل أن تكون سامة.
لقد رصدت الدراسة المذكورة مستويات مرتفعة من المعادن الثقيلة السامة، كالأرسنيد والكوبالت والكروم والنيكل في منطقة الباب، وكانت أعلى من المستويات العالمية والأوروبية بشكل كبير، كما رصدت الدراسة تغيرًا واضحًا في قوام التربة وخواصها الفيزيائية في هذه المنطقة.
ينبغي أن تركز عملية استعادة البيئة في شمال غربي سوريا بهذه المرحلة على ثلاثة تحديات أساسية:
- حليل مستمر للمخاطر التي تهدد صحة السكان نتيجة تلوث التربة، وهذا يتطلب فحصًا دوريًا لعينات منها، وإنشاء قاعدة بيانات يمكن على أساسها رصد تغير مستوى الملوثات. وقد يكون بروتوكول مسح التربة السطحية للاتحاد الأوروبي LUCAS (Tóth et al., 2016) مرجعية مناسبة لاعتمادها في هذا التحليل.
- تضافر جهود المؤسسات والمنظمات المعنية لتطوير أصناف من المحاصيل المقاوِمة لتغير المناخ ولزيادة نسبة الملوثات في التربة، بالإضافة إلى اعتماد الري الجزئي والتقطير الشمسي في الزراعة، لإدارة جودة المياه وتقليل الطلب على المياه الملوثة، سعيًا لتحقيق الانتعاش البيئي في المنطقة.
- دراسة إمكانية معالجة التربة الملوثة في المنطقة باستخدام طرق مستدامة ومنخفضة التكلفة، كتلك التي تعتمد على الفحم الحيوي والمعالجة النباتية، بالإضافة إلى المعالجة البيولوجية.
يفيد النوع الأخير في معالجة التلوث النفطي بشكل خاص، عبر توفير ميكروبات (بكتيريا وفطريات) خاصة، تقوم بتفكيك النفط (كمادة هيدروكربونية) بشكل طبيعي ضمن مجتمع ميكروبي مغلق، يتم التحكم بدرجة حرارته وتهويته بشكل يسرع عملية التفكك الحيوي، مع متابعة مستمرة لمستوياته.
بطبيعة الحال، تحتاج كل تربة إلى طريقة معالجة خاصة وفق موقعها، ومساحتها الملوثة، وتركيز النفط فيها، وعمق التلوث واقترابه من المياه الجوفية. ولا يُنصح بقشط التربة الملوثة واستبدالها بأخرى جديدة، لأن هذا ترحيل للمشكلة بدل حلها جذريًا.
فكرة المعالجة البيولوجية ليست جديدة، ولكن تطبيقها ما زال محدودًا. لقد أطلق برنامج الأمم المتحدة للبيئة مشروعًا لتنظيف تربة كركوك الملوثة بالانسكابات النفطية في عام 2017. تم فيه تجميع 20 ألف طن من نفايات النفط في عشر حفر كبيرة، والعمل على تفكيكها بإضافة عناصر مغذية للتربة ومواد تزيد تكتلها وتحسين مسامات التهوية ومحتوي الأكسجين والماء فيها، بهدف توفير ظروف ملائمة لنمو البكتيريا، التي تسرّع تكسير جزيئات النفط بشكل طبيعي. كان التقدم المحرز بطيئًا، ولكن وزارة البيئة العراقية قدّرت نسبة نجاح هذه التقنية بـ77%.
تختلف المدة اللازمة لتنظيف التربة بحسب درجة التلوث ومساحة المنطقة الملوثة، ونوع تقنيات التنظيف المستخدمة، وحجم التمويل والإمكانيات المرصودة، دون أن تكون هناك مدة واضحة يمكن الجزم بها. لا بد من الإشارة هنا إلى أن علماء البيئة يستخدمون عبارة “Soil Pollution Mitigation”، أي التخفيف من تلوث التربة، في إشارة إلى صعوبة (وربما استحالة) عودتها إلى نقائها الأصلي قبل سنوات طويلة، كما في مثال المنطقة الحمراء بفرنسا، ويقسمون إجراءات هذا التخفيف إلى قصيرة المدى وأخرى بعيدة المدى.
تتأثر النباتات أيضًا بتلوث الهواء الناتج عن زيادة نسب ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروجين (N2O) وغيرها، وهي تنبعث من مصادر صناعية وزراعية (الدفيئة) وغيرها.
المشكلة في الغازات المنبعثة من “الحراقات” أن تركيزها يكون عاليًا جدًا، ما يضاعف خطرها على المحاصيل الزراعية والأشجار القريبة منها. ربما لم تُكرَّس إلى الآن دراسة علمية متأنية لتقييم أثر تلوث الهواء على المحاصيل الزراعية (الذي يشاهد بالعين المجردة في بعض المناطق) حتى الآن.
يتسبب تلوث الهواء بشكل عام بإتلاف أوراق المحاصيل، وبتقليل قدرتها على إجراء التمثيل الضوئي، ما يتسبب بانخفاض إنتاجيتها وجودة غلالها بشكل كبير. تكون الغازات المنبعثة من “الحراقات” مشبعة بشكل خاص بالعوالق الغبارية (PM) وبذرات الكربون الأسود، وكلاهما يؤثر على إنتاجية المحاصيل بشكل كبير.
إن مكافحة تلوث التربة يتطلب تضافر جهود الأفراد والمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني، لما قد يسببه من أثر تراكمي على البيئة والاقتصاد والصحة العامة والمجتمع. ورغم أن ترحين هي المنطقة الأكثر تلوثًا بالمخلفات النفطية حاليًا، فإننا لا نستطيع الجزم بأننا تجاوزنا الآثار الضارة لمخلفات “الحراقات” التي توقفت عن العمل، في ظل غياب معلومات متكاملة عن جودة التربة والماء والهواء وعن صحة السكان من المستشفيات والمراكز الصحية.
لذا علينا تشجيع الباحثين وطلاب الجامعات على تقديم حلول مبتكرة في هذا المجال، وتشجيع تعاون المؤسسات والجامعات والمنظمات على إنشاء شبكة رصد محلية لتلوث التربة والماء والهواء، وتأسيس قاعدة بيانات مشتركة، تسمح بالوقوف على الواقع البيئي ووضع خطة إنعاش كامل للبيئة المتدهورة في منطقتنا.
يتنفسون السرطان
يحمل استنشاق الغازات السامة مخاطر لا تنتهي بدءًا من السعال وصولًا إلى السرطان أو أمراض تطال الكلى والقلب، إذ تحتوي الأبخرة والانبعاثات من “الحراقات” على مستويات عالية من الجسيمات والمعادن الثقيلة الناتجة عن حرق النفط والتي تؤثر على جميع أعضاء الجسم.
الاستشارية بالأمراض المعدية في لندن ورئيسة شبكة الصحة العامة السورية، الدكتورة علا عبارة، قالت لعنب بلدي، إن المواد والعناصر السامة في الهواء المنبثقة من “الحراقات”، يمكن أن تكون لها آثار سلبية على الصحة، لا سيما على الرئة من حيث ارتفاع معدلات التهابات الجهاز التنفسي والتهاب الشعب الهوائية وسرطان الرئة الذي لوحظ في بعض الدراسات التي تقيّم صحة العمال والسكان القريبين من مصافي النفط.
وأضافت أن هذا الأمر سيزداد سوءًا إذا لم يحصل العمال على الحماية الكافية خلال العمل، ويمكن أن تسبب السموم الناتجة عن الملوثات المنبعثة مثل ثاني أكسيد الكبريت وأكسيد النيتروجين وأول أكسيد الكربون خطرًا تراكميًا على الصحة على مدى السنين، خاصة بالنسبة لأولئك الذين يعملون في المصفاة أو بالقرب منها.
بيد أنه يصعب، بشكل عام، إثبات السبب والنتيجة عندما يلاحظ وجود أمراض بالقرب من مصفاة لتكرير النفط، وقد يكون هذا مهمًا على سبيل المثال، في حالة السرطان أو أمراض القلب أو الاضطرابات العصبية التي لها أيضًا عوامل خطر أخرى.
وعن الأمراض التي يمكن أن تنشأ بسبب هذه الغازات على المدى القريب والبعيد، قالت الدكتورة علا، إن الأبحاث تشير إلى أنه يمكن أن تكون هناك تأثيرات مباشرة أو غير مباشرة. قد تسبب الملوثات تهيجًا في عيون وجلد أولئك الذين يعملون أو يعيشون في مكان قريب من مصافي النفط.
وتشير الدلائل إلى أن الأمراض الرئيسة التي يمكن أن تسببها مصافي النفط غير المنظمة هذه مرتبطة بصحة الرئة مثل أمراض الشعب الهوائية وسرطان الرئة، ولكنها متورطة أيضًا في التسبب في أنواع أخرى من السرطان والأضرار العصبية وأمراض القلب والدم.
وهناك أيضًا ما يشير إلى أنه قد يسبب عيوبًا خلقية وقد يؤدي إلى نتائج حمل سلبية. ومع ذلك، ليست كل البحوث متوافقة، وقد يكون من الصعب إثبات السبب والنتيجة، وفق الدكتورة.
وتشير أبحاث أخرى إلى أن العيش بالقرب من مصفاة نفط يمكن أن يؤثر أيضًا بشكل سلبي على الصحة العقلية بسبب الضغط النفسي الاجتماعي للعيش بالقرب من المصفاة.
وإذ يلاحظ أن معدلات التدخين في سوريا أعلى من غيرها من بلدان المنطقة، وأن الصحة العامة للسكان قد تأثرت بالصراع الذي طال أمده مع ضعف فرص الحصول على الرعاية الصحية، فقد يكون هناك أثر إضافي للتلوث البيئي الناجم عن مصافي النفط، لا سيما عندما يكون التنظيم والحوكمة ضعيفين، وفق الدكتورة.
وقد لا يكون أمام العمال في هذه المصافي خيار سوى العمل هناك في بلد يرتفع فيه الفقر والبطالة حتى لو اشتبهوا في وجود خطر مهدد لهم و لعائلاتهم، وفق عبارة.
وبحسب إدارة السلامة والصحة المهنية التابع لوزارة العمل الأمريكية، فإن أثر الانسكابات النفطية والعمل بها يعد مصدرًا للأوبئة وسببًا لفقدان الحياة، وتختلف التبعات والتداعيات تبعًا لنوع الغازات والمواد المنبعثة.
ومن أضرار العمل في الانسكابات النفطية وفقًا لما ينبعث عنها من أول أكسيد الكربون، وكبريتيد الهيدروجين، وميثيل ثالثي بوتيل إيثر، وحمض الكبريتيك، والهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات، وغيرها:
السعال، والنعاس، والتهيج في العينين والجلد والجهاز التنفسي والأسنان، والدوخة، وسرعة دقات القلب، والصداع، والارتعاش، وفقدان الوعي، وفقر الدم، وسرطان الجلد أو الرئة، وارتفاع ضغط الدم، والاختناق، والغيبوبة، والغثيان، وضعف الجهاز العصبي والكبد والكلى، وتأثيرات سلبية على الإنجاب، وعلى الجهاز المناعي والهضمي والعصبي، وحروق الأنسجة الشديدة، وفقدان التوازن.
ومع العدد الكبير من مصافي التكرير التي كانت أو لا تزال تعمل، فإن هذا يعني أن آلاف المدنيين، بمن في ذلك العديد من الأطفال والمراهقين، قد تعرضوا لفترات طويلة للمواد الخطرة والأبخرة الضارة، والتي يمكن أن يكون لها مضاعفات صحية طويلة المدى، وفق تحقيق أجراه ويم زويننبورغ، رئيس مشروع نزع السلاح الإنساني في منظمة “PAX” الهولندية، في نيسان 2020.
وبحسب التحقيق، فإن العمل طوال اليوم وسط الأبخرة الضارة الناجمة عن حرق النفط والمطاط والبنزين المكرر، أسفر عن معاناة آلاف الأشخاص، بمن في ذلك الأطفال، من مشكلات خطيرة حادة في الجهاز التنفسي، ومشكلات جلدية، وجروح ملتهبة، في حين أن أولئك الذين تعرضوا لفترة طويلة يمكن أن يعانوا من تلف الأعضاء الداخلية من خلال تراكم السموم في الجسم.