عنب بلدي – جنى العيسى
مطلع حزيران الحالي، حددت “الحكومة السورية المؤقتة” أسعار القمح في مناطق سيطرتها بـ220 دولارًا أمريكيًا للطن، من النوع الطري من الدرجة الأولى.
السعر الذي حددته الحكومة هذا العام أقل من الأسعار التي كانت معتمدة للموسم الماضي، حين حددت وزارة الاقتصاد، في 13 من حزيران 2023، سعر الطن من القمح القاسي بـ330 دولارًا.
ويعد السعر المحدد الأقل هذا العام حين مقارنة الأسعار التي حددتها الجهات المسيطرة المختلفة في سوريا، إذ يبلغ السعر المحدد من قبل حكومة “الإنقاذ” العاملة في إدلب وريف حماة الشمالي وجزء من ريف حلب الغربي 310 دولارات أمريكية للطن الواحد.
بينما يبلغ سعر الطن الذي حددته حكومة النظام 360 دولارًا، والسعر الذي حددته “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا 310 دولارات أمريكية للطن الواحد.
تحديد سعر لا يتناسب إطلاقًا مع حجم التكاليف التي دفعها المزارعون في هذا المحصول، وغياب ضمان “الحكومة المؤقتة” لتحقيق الأرباح ولو بنسب بسيطة من هذا المحصول الاستراتيجي، فتح الباب أمام تساؤلات حول سبب تفريط الحكومة بهذا المحصول وعدم اهتمامها بالمزارعين، بالإضافة إلى آثار هذا السعر على الفلاحين والمنطقة.
“المؤقتة” تفرط بالمحصول
هذا العام، اعتمدت “الحكومة المؤقتة” تسعيرة وفق قرار سابق صدر في أيلول 2023، وحددت سعر الطن من القمح الطري من الدرجة الأولى بـ220 دولارًا، والطن من الدرجة الثانية بـ215 دولارًا، بينما حدد سعر طن القمح من الدرجة الثالثة بـ210 دولارات أمريكية.
وأضافت مكافآت متفاوتة على سعر الطن، كانت خمسة دولارات على سعر كل طن في تل أبيض ورأس العين، بينما أضافت 25 دولارًا على سعر الطن في ريفي حلب الشمالي والشرقي، دون آلية ومعيار واضح لسبب هذا التفاوت، ما اعتبره مزارعون هدرًا لأرزاقهم وعدم إنصاف لهم.
في موسم حصاد القمح برأس العين عام 2023، حددت “الحكومة المؤقتة” سعر شراء طن القمح القاسي الصافي من الدرجة الأولى بمبلغ 330 دولارًا أمريكيًا، ورغم تحديد السعر، لم يتمكن المزارعون من بيع القمح القاسي الصافي بأكثر من 220 دولارًا للطن، والقمح الطري بسعر 150 دولارًا للطن.
وبلغت حينها تقديرات الإنتاج في مدينتي تل أبيض ورأس العين بين 200 ألف و250 ألف طن، وفي ريفي حلب الشمالي والشرقي 40 ألف طن.
حينها، اشتكى مزارعون من تكدّس المحصول لديهم، لعدم تسلم “الحكومة السورية المؤقتة” إلا كميات قليلة منه، ما جعلهم عرضة لاحتكار وتحكم التجار في محصولهم، نظرًا إلى غياب أماكن مناسبة للتخزين وصعوبات في الحفاظ على جودة المحصول، ما يؤدي إلى تلفه.
البذار أغلى
محمد يونس (63 عامًا)، مزارع يقيم في منطقة كل جبرين بريف مدينة اعزاز، قال لعنب بلدي، إن السعر الذي حددته الحكومة قليل جدًا مقارنة بتكاليف المحصول، الذي لم تدعمه الحكومة أساسًا في مرحلة إنتاجه.
وأوضح يونس أن تكاليف البذار والسماد والمحروقات والحصاد مرتفعة جدًا، إذ باعت “الحكومة المؤقتة” طن بذار القمح بـ350 دولارًا أمريكيًا.
انخفاض السعر يدفع الفلاحين لعدم بيع القمح لـ”الحكومة المؤقتة” إنما يلجؤون لبيعه عبر تجار إلى جهات مسيطرة على مناطق أخرى يكون سعرها أعلى من السعر المحدد.
غياب القدرة المالية
وزير الاقتصاد في “الحكومة السورية المؤقتة”، عبد الحكيم المصري، قال لعنب بلدي، إن سبب تحديد سعر شراء طن القمح من الفلاحين بـ220 دولارًا أمريكيًا، وهو نفس سعر الشراء العام الماضي، يعود إلى غياب قدرة الحكومة المالية على الشراء بسعر أعلى من السعر العالمي تقريبًا.
واعتبر الوزير أن رفع السعر أكثر سيسبب خسارة لمؤسسة الحبوب من جهة، وسيؤدي إلى رفع أسعار الخبز في المنطقة وتراجع دعمه من جهة أخرى، نتيجة لوجود تكاليف إضافية تتمثل بأجور نقل القمح من مدينتي تل أبيض ورأس العين إلى مدن ريف حلب، وفق قوله.
وأشار المصري إلى أن تحديد سعر أعلى للمادة في مناطق السيطرة الأخرى قد يرجع لوجود موارد مالية أعلى لدى السلطات كالضرائب والواردات وغيرها، فضلًا عن تحديد سعر أعلى لربطة الخبز لضمان عدم بيعها بسعر التكلفة، بحسب رأيه.
بدوره، قال مدير مؤسسة الحبوب لدى “الحكومة المؤقتة”، المهندس حسان المحمد، إن السعر الذي حددته الحكومة قليل من ناحية دعم الفلاح، لأنها لم تحصل على الدعم المطلوب لشراء محصول القمح، معتبرًا أنها لن تتخلى عن شراء ودعم القمح ولو بالحدود الدنيا.
وأضاف المحمد لعنب بلدي أن “صندوق الائتمان لإعادة إعمار سوريا” كان يغطي ما نسبته 10% من احتياجات المنطقة بالنسبة لمادة القمح، إلا أن إمدادات الصندوق شبه توقفت منذ مطلع 2024 بالنسبة للقمح، بينما اقتصر دعمه على تأمين احتياجات الأفران التي تديرها الحكومة في المنطقة.
ويقدر إنتاج ريف حلب الشمالي حيث تسيطر “الحكومة المؤقتة” من محصول القمح لهذا العام بين 25 ألفًا و30 ألف طن من القمح.
نحو زراعات بديلة
المهندس الزراعي فواز خانجي، قال لعنب بلدي، إن محصول القمح يعد من أبرز المحاصيل بالنسبة للأمن الغذائي، الأمر الذي لا يدفع أي سلطة لاتخاذ إجراءات ينتج عنها التفريط بالمحصول.
وفسر خانجي إجراءات “الحكومة المؤقتة” في هذا السياق بأنها قد تكون ناجمة عن ضغوطات مالية، بسبب ضعف ومحدودية الموارد وتعدد القطاعات التي تستوجب الكثير من الاحتياجات.
وأكد خانجي أن سعر القمح المتدني في ظل تراجع حجم الإنتاج سيكبد المزارعين خسائر، وربما يدفعهم للبحث عن زراعات بديلة أقل تكلفة وأكثر إنتاجية مع إمكانية التصدير مثل النباتات الطبية والعطرية وبعض المحاصيل العلفية.
ولفت المهندس الزراعي إلى الحاجة الماسة لسياسة رشيدة متوازنة، لتقديم الدعم المادي والفني للمزارعين ضمن المتاح في هذا القطاع الإنتاجي المهم والحيوي.
تراجع الإنتاج منذ 2011
بحسب تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو)، بلغ محصول القمح في سوريا لعام 2022 نحو مليون طن، بانخفاض 75% عن مستويات ما قبل 2011، في حين أن الشعير بات “شبه منعدم”.
وبلغ متوسط إنتاج المحصول منذ 1990 إلى 2010 فوق أربعة ملايين طن، وسجلت سوريا في 2006 أعلى رقم في إنتاجه بمقدار 4.9 مليون طن، وفق المكتب المركزي للإحصاء، وكان متوسط الاستهلاك المحلي 2.5مليون طن، ما أتاح فائضًا للتصدير يتراوح بين 1.2 و 1.5 مليون طن.
ممثل المنظمة في سوريا، مايك روبسون، اعتبر، منتصف أيلول 2022، أن عوامل تغير المناخ، وتعثر الاقتصاد، والقضايا الأمنية العالقة، تجمعت لتلحق ضررًا بالغًا بإنتاج سوريا من الحبوب عام 2022، ما ترك أغلبية مزارعيها في مواجهة “وضع حرج”.
وأشار المسؤول إلى أن تغير المناخ ليس التحدي الوحيد، لكن في دولة مثل سوريا، هناك صعوبة مضاعفة مع ارتفاع التضخم، وانعدام الكهرباء، وعدم وجود مدخلات إنتاج جيدة، بجانب بعض القضايا الأمنية العالقة التي لا تزال مستمرة في بعض أجزاء البلاد.
خفض أسعار عام
الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر، قال لعنب بلدي، إنه على الرغم من أن القمح يعد محصولًا استراتيجيًا، فإن القوى السياسية المسيطرة في سوريا لا تعطيه الاهتمام الكافي من ناحية التسويق، فكل الحكومات الموجودة على كامل الجغرافيا السورية حددت أسعارًا منخفضة للقمح هذا العام مقارنة بالعام السابق.
واعتبر السيد عمر أن أحد الأسباب الرئيسة لانخفاض سعر شراء القمح في مناطق “الحكومة المؤقتة”، أن أسعار الشراء انخفضت في مناطق السيطرة الأخرى، ما دفع جميع السلطات لتخفيض الأسعار، وذلك بهدف توفير تكاليف الشراء، من باب وضع الفلاحين أمام الأمر الواقع، لا سيما أنهم يواجهون صعوبات في بيعه بمناطق أخرى، ما سيجبر المزارعين على تسليم القمح بغض النظر عن عدالة السعر.
من الملاحظ هنا أن “الحكومة المؤقتة” وغيرها من السلطات الموجودة تتعامل مع السوق كتاجر، وليس من منطلق دولة وتفكير استراتيجي، فهي تحاول توفير التكلفة بغض النظر عن أهمية المادة ودورها في الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي.
يحيى السيد عمر
باحث في الاقتصاد السياسي
الأمن الغذائي والتعافي مهددان
وحول أثر الأسعار المتدنية في مختلف مناطق السيطرة على الفلاحين، يرى السيد عمر أن هذا يعد خسارة مؤكدة، ما يعني تركهم زراعة القمح، ولكن هذا الأمر قد لا يؤدي إلى التحول لزراعات أخرى، بل قد يؤدي للاستغناء عن مهنة الزراعة بالكامل، من خلال تحول الفلاحين لمهن أخرى، أو محاولتهم الهجرة، وهذا ما يعني على المدى المتوسط زيادة حدة الأزمات الاجتماعية، وزيادة مخاطر الأمن الغذائي.
وهنا من الممكن أن تكون الحكومات المسيطرة في سوريا تسعى لتوفير سعر شراء القمح من خلال وضع المؤسسات الدولية تحت الأمر الواقع، والطلب منها تمويل عمليات شراء الطحين، السياسة التي اعتبرها الباحث يحيى السيد عمر خاطئة، وغالبًا ما ستنتهي بتبعات سلبية على الفلاحين وعلى المجتمع بشكل عام وعلى الحكومة أيضًا.
وقد يؤدي تراجع الاهتمام الحكومي بالقمح إلى تراجع مساحة القمح المزروعة، وبالتالي تراجع الإنتاج، وهذا يقود لعزوف الفلاحين عن الزراعة، وبالتالي زيادة البطالة، وزيادة حدة مخاطر الأمن الغذائي، وارتفاع معدل الهجرة، وهذا كله يقوض أفق التعافي المبكر في المنطقة، وفق الباحث.