حملت زيارة زيارة وزير الخارجية الإيراني بالوكالة، علي باقري كني، إلى سوريا، أبعادًا تختلف عمّا سبقها من زيارات بالنظر للسياق الزمني المرافق لنشاط دبلوماسي من هذا النوع.
وتأتي الزيارة في وقت لم تضمد به طهران بعد، جرحها، إثر مصرع رئيسها ووزير خارجيته وستة مرافقين متفاوتي الرتب والمهام والمسؤوليات، في 20 من أيار الماضي، جراء تحطم طائرة كانوا على متنها.
وفي 4 من حزيران، زار باقري، العاصمة السورية، دمشق، والتقى رئيس النظام السوري، بشار الأسد، وذكرت منصات “رئاسة الجمهورية” عبر وسائل التواصل، أن الأسد بحث مع باقري العلاقات الثنائية بين سوريا وإيران، والتطورات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وملفات إقليمية ودولية ذات اهتمام مشترك.
وأكد الوزير الإيراني أن العلاقة بين إيران وسوريا ستبقى عميقة واستراتيجية، لأنها تنطلق من مبادئ راسخة ومصالح مشتركة وصادقة، لافتًا إلى سعي إيران الدائم لتطوير العلاقات البينية واستثمارها لخدمة البلدين، من جهة، ودول المنطقة وشعوبها من جهة أخرى.
زيارة باقري إلى دمشق جاءت بعد زيارة قصيرة إلى العاصمة اللبنانية، بيروت، والتقى خلالها رئيس الحكومة، نجيب ميقاتي، ونظيره اللبناني، عبد الله بوحبيب، كما التقى رئيس مجلس النواب، نبيه بري، وأمين عام “حزب الله”، حسن نصر الله، وفق ما نقلته وكالة “إيسنا” الإيرانية.
تشكل هذه الزيارة الرحلة الخارجية الأولى لوزير الخارجية الإيراني بالوكالة، وتأتي بعد أسبوعين من فقدان إيران مجموعة من قيادات رأس هرم السلطة، والتوجه نحو تعيين النوّاب، للرئيس ووزير الخارجية، ريثما تجرى الانتخابات الرئاسية المزمعة في 28 من حزيران الحالي.
كما سبقتها بأربعة أيام، زيارة الأسد إلى طهران، ولقائه المرشد الأعلى لـ”الثورة الإسلامية”، علي خامنئي، لتقديم العزاء بمصر الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، ورفاق رحلته.
وجاءت زيارة الأسد بعد عشرة أيام على وفاة رئيسي، باعتباره لم يشارك في مراسم الوداع التي أقيمت في طهران، وشارك بها وفود من دول مختلفة بتمثيل سياسي ودبلوماسي متفاوت، مثّل النظام فيه، رئيس حكومته، حسين عرنوس، ومستشار شؤون الأمن الوطني في “الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية” علي مملوك، ووزير الاقتصاد، محمد سامر الخليل.
وتعبيرًا عن طبيعة العلاقة مع إيران، أعلن النظام السوري الحداد لثلاثة أيام بعد مصرع رئيسي ورفاقه، وتنكيس الأعلام، وهي خطوة اتخذها بعد استهداف الكلية الحربية بحمص، في تشرين الأول 2023، لمرة واحدة منذ وصوله إلى الرئاسة عام 2000، وغابت عن التعاطي مع زلزال 6 من شباط 2023، الذي أودى بحياة آلاف السوريين، وطال أربعة محافظات سورية.
بالحديث عن ضغوط
عمق العلاقة واستراتيجيتها بين النظام السوري وإيران، ورسوخ المبادئ التي تنطلق منها، التي تحدث عنها باقري خلال لقائه مع الأسد، ليست حدثًا طارئًا في تصريحات الجانبين، لكنها تأتي في ظل حديث غير رسمي عن ضغوط سياسية عربية على الأسد بسبب عدم تجاوبه مع ما قدّمه العرب كـ”فرصة”، وتجلى بوضوح من خلال “المبادرة الأردنية“، التي حاولت معالجة هواجس عربية رامية لتقليص الحضور الإيراني في سوريا.
مؤشرات التململ العربي من النظام عبّرت عنها مشاركة فاترة في قمة البحرين (19 من أيار الماضي)، خرج منها الأسد بصفر تصريح، ودون كلمة أو خطاب أمام ممثلي الدول العربية، وبإعلان عراقي عن استضافة القمة في دورتها المقبلة بدلًا من دمشق، ودون جديد في اللقاءات الجانبية التي تراجعت بعد نشاط في القمة السابقة في جدة، دون تحقيق خروقات سياسية، بالإضافة إلى تأكيد “إعلان البحرين”، على ضرورة إنهاء الأزمة السورية، بما ينسجم مع قرار مجبس الأمن “2254”.
وإذا كانت قمة المنامة القمة العربية العادية الثانية بحضور الأسد بعد غياب 12 عامًا، فهي أيضًا القمة الأولى التي تضمن بيانها تشديدًا على قرار يعكس بمضمونه السير في مضمار المرحلة الانتقالية في سوريا، خلافًا لإعلان جدة الذي أعقب القمة السابقة في السعودية، والذي اكتفى بالترحيب بعودة سوريا والتشديد على عروبتها والعمل على تعافيها.
كما أن البيان الختامي الصادر عن مجلس التعاون الخليجي، بحضور وزراء خارجية دول المجلس، باستثناء الإمارات، في 9 من حزيران، طالب النظام السوري، بتنفيذ المقررات الصادرة عن اجتماعي عمان والقاهرة، في العام الماضي، مع التأكيد على دعم التوصل إلى حل سياسي في سوريا، والتشديد على دعم جهود الأمم المتحدة للتوصل إلى حل سياسي في سوريا بما ينسجم مع قرار مجلس الأمن رقم “2254”، وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
مضمار مختلف
العلاقة مع إيران، ورغم حضورها في نص “المبادرة الأردنية” كإشكالية تتطلب حلًا من النظام، فهي واحدة من مجموعة قضايا وملفات أخرى آخذة بالتفاقم، والسلوك العربي الرسمي في هذا الإطار (رغم الحديث عن تعكر “صفو العلاقة” مع الأسد) يسير في مضمار مختلف، إذ عيّنت السعودية في 26 من أيار، سفيرها الأول في دمشق، منذ 2012، كما يتجه الأردن ببطء نحو تطبيع علاقات سياسية مع إيران، بعد تمهيد سياسي قدّمه ولي العهد، الأمير الحسين بن عبد الله، في 26 من أيار الماضي، حين كشف عن وجود حوار أردني- إيراني، بعد أقل من أسبوعين على إعلان المملكة إحباط “مؤامرة” إيرانية لدعم معارضي الحكم في الأردن.
وخلال مقابلة مع قناة “العربية”، قال إن هناك حوارًا أردنيًا- إيرانيًا في كافة القضايا، معربًا عن أمله في أن يثمر، مع التأكيد على أن الأولوية لعدم تحويل الأردن لساحة حرب إقليمية.
وردًا على سؤال حول نظرته إلى التقارب الأخير بين إيران وبعض الدول العربية، بيّن ولي العهد الأردني أن الدول العربية والأردن تريد علاقات طبيعية مع إيران، قائمة على مبدأ حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الآخر”، وتابع، “إذا أردنا أن تكون لدينا هذه العلاقات الصحية، فمن الضروري أن تكون هناك معالجة لكل أسباب التوتر”.
ما معنى الزيارة؟
الباحث في الشأن الإيراني مصطفى النعيمي، أوضح لعنب بلدي أن إيران تقدّم رسائل للمنطقة العربية من جهة، ولإسرائيل من جهة أخرى، مفادها أن الضربات الموجعة التي تتلقاها لن تثنيها عن مشروعها، وأن طهران قادرة بمسؤولي طوارئ وأذرع ولائية في المنطقة، على الضغط على حلفاء واشنطن في المنطقه العربية.
وبحسب الباحث، فالزيارة قد تعبر عن امتصاص طهران لصدمتها، بمصرع الرئيس ووزير الخارجية، فاحتوت المشهد، وعينت بدائلها بسرعة، دون الوصول إلى ارتدادات على مشروعها الداخلي أو الخارجي، فالرئيس في إيران ذو دور تنفيذي، لا سيادي، وما يجري في طهران يخضع لسياسة “الولي الفقيه” (علي خامنئي).
وبالنسبة لتكرار هذه الزيارات، وتزامنها المتكرر مع تعقيدات يواجهها النظام السوري، يرى الباحث مصطفى النعيمي أن الزيارات مبنية على حجم التهديدات والمخاطر وفق التقديرات الإيرانية، والفراغ الذي شكّله اغتيال قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري”، قاسم سليماني، لم يملأه خليفته، إسماعيل قآاني، ما مهّد بطبيعة الحال لتكثيف زيارات وزير الخارجية (أي عبد اللهيان سابقًا) بهذا الإطار، وفق ما يراه النعيمي.
ما رأي العرب؟
الخبير الاستراتيجي والباحث غير المقيم في معهد “ستيمسون” بواشنطن، عامر السبايلة، قال لعنب بلدي، إن النظام السوري لا يستطيع التخلي عن إيران على المدى المنظور على الأقل، فالتركيبة معقدة، ولا قدرة للنظام على المغامرة بالابتعاد عن إيران في هذه المرحلة، وهو أمر طبيعي بسبب سياق الأحداث منذ 2011، وحتى اليوم.
ويرى الباحث الأردني أن تعمق إيران في سوريا ليس الغرض منه سوريا فقط، وتوظيف الجغرافيا السورية بالنسبة للإيرانيين كان قائمًا على مدار الأعوام الماضية، والمشكلة حاليًا في النفوذ الإيراني في سوريا، وكيفية بلورته، ونتائجه العكسية السلبية على الجميع (مخدرات وسلاح وميليشيات)، وهذا محط اهتمام كبير للعرب، ويضع النظام أمام تحدٍ.
وبالمقارنة بين مشاركة الأسد في قمة جدة، ومشاركته في قمة البحرين مؤخرًا، فيمكن القول إن عامًا واحدًا لم يكن كافيًا للنظام السوري لتحسين موقعه لدى العرب، وفق السبايلة، الذي استبعد تحسين إيران علاقتها مع العرب، بسبب وجود موروث أمني كبير، كما من الصعب للأردن أيضًا المضي في علاقات من هذا النوع، فالأمور معقدة والجغرافيا الأردنية باتت محطة مهمة بالنسبة لإيران.
“لا يمكن التعويل على دبلوماسية خطوط خلفية أو محاولات تصفير خلافات، أن تنقل إلى علاقات مميزة مع إيران”، قال السبايلة، مبينًا أن الدول العربية تأمل من النظام القيام بخطوات لا يستطيع تقديمها، وهناك من يعتقد من العرب بجدوى تقديم تسهيلات لدمشق على اعتبار أن إغلاق الباب العربي فتح البوابة الإيرانية.
لكن هذه المعادلة صعبة التحقيق على المدى المنظور، بسبب التعقدات وارتباط المسألة بالقرار الدولي، ما يعني أن النظام السوري في هذه الحالة غير قادر على تقديم ما يرضي العرب بشكل كبير.
إرث ثقيل
بعد مصرع حسين أمير عبد اللهيان، وعقب موافقة الحكومة، جرى انتخاب علي باقري مشرفًا على وزارة الخارجية.
وكان باقري يشغل منصب نائب وزير الخارجية للشؤون السياسية، وجاء تعيينه على لسان المتحدث باسم الحكومة، علي بهادري جهرمي، وبأمر من النائب الأول لرئيس الجمهورية، محمد مخبر، ليكون رئيسًا للجنة العلاقات الخارجية في الحكومة.
علي باقري (58 عامًا) عضو سابق في مجلس خبراء القيادة، وعضو مجلس أمناء معهد “جامع الصادق”، ويحمل دكتوراة في التربية والاقتصاد من جامعة “الإمام الصادق”.
في الـ22 من عمره، أصبح النائب الدولي لأمانة المجلس الأعلى للأمن القومي، وفي 2004، أصبح مدير قسم أوروبا الوسطى والشمالية في وزارة الخارجية، كما عمل ضمن الفريق النووي الإيراني في حكومة محمود أحمدي نجاد، وشارك في المفاوضات النووية، إلى جانب سعيد جليلي في المجلس الأعلى للأمن القومي.
وفي 2018، جرى تعيينه نائبًا للشؤون الدولية ورئيسًا لهيئة حقوق الإنسان بالسلطة القضائية، بمرسوم من الرئيس إبراهيم رئيسي، قبل تعيينه نائبًا لوزير الخارجية، خلفًا لعباس عراقجي، كبير المفاوضين في الملف النووي الإيراني.
وصل باقري إلى مقعد الوزارة في وقت ما تزال به الكثير من الملفات الإقليمية التي كانت محط اهتمام عبد اللهيان عالقة، فالتقارب التركي مع النظام السوري ضمن مسار “الرباعية” لم يصل إلى نتيجة، والحرب في غزة مستمرة دون مؤشرات على قرب توقفها، في ظل تلويح إسرائيلي بفتح جبهة جديدة على الحدود الشمالية مع الجنوب اللبناني.