جريمة الغباء السياسي
غزوان قرنفل
عام 1971 احتدم الخلاف بين الرئيس أنور السادات والعديد من وزرائه الذين شكلوا ما يعرف بمراكز القوى، وهم من بقايا إرث عبد الناصر ونظامه السياسي، الذين لم يكونوا يقيمون وزنًا لرئيسهم الجديد ويتصرفون بمعزل عنه غالبًا، ورغم أن كل مراكز وأدوات القوة كانت بين أيديهم (وزارات الدفاع والداخلية والإعلام والاتحاد الاشتراكي وسكرتارية رئاسة الجمهورية)، وبصرف النظر عن سبب هذا الصراع السلطوي وأهدافه ومسوغاته المزعومة، لكنهم لفرط غبائهم قدموا استقالة جماعية من وزاراتهم ومناصبهم وأذاعوها في التلفزيون بافتراض أنهم يريدون خلق فراغ حكومي وسياسي يحرج الرئيس. لكن في حقيقة الأمر هم قدموا أثمن هدية لخصمهم الذي كان حتى لحظة استقالتهم مأزومًا ولا يملك من عناصر القوة ما يمكنه من مواجهتهم، لذلك سارع لإعلان قبول تلك الاستقالات وتعيين خلفًا لهم ثم البدء بحملة اعتقالات لهم ولأزلامهم وإحالتهم لمحكمة شكلت خصيصًا لمحاكمتهم عن جرائم كثيرة منسوبة لهم، منها التنصت على هاتف رئيس الجمهورية وتسجيل محادثاته.
ينقل الحاضرون مجلس الرئيس السادات في بيته أنه عندما سمع وشاهد خبر الاستقالة الجماعية في التلفزيون المصري، ضحك ملء شدقيه وقال: “وأنا قبلت تلك الاستقالة”، وبعد سحبة طويلة من دخان غليونه الشهير قال: “دول لازم يتحاكموا كمان بتهمة الغباء السياسي”، لأنهم أزالوا الضغط عنه وأخرجوه من ورطة المواجهة التي لم تكن بالضرورة مضمونة النتائج أو حميدة العواقب.
في حالتنا السورية اليوم، هناك كثر يجب فعلًا محاكمتهم بجريمة الغباء السياسي لأنهم قدموا لنظام العصابة أثمن الخدمات التي مكنته من الاستمرار، وهيأت له مختلف الظروف لتجديد أوراق اعتماده.
13 سنة منذ انطلاق الثورة لم يتمكن السوريون المعارضون من الاتفاق فيما بينهم على استراتيجية عمل وطني، بل ولا حتى على مجرد ورقة عمل تؤطر لهم رؤية لإدارة هذا الصراع ومواجهة السلطة، ومخاطبة الدول والحكومات والرأي العام لحشد الدعم والمناصرة لقضيتهم، وبينما كان هؤلاء يتنازعون فيما بينهم على المراكز والمكاسب، كان هناك من بدأ يمتطي ظهر المتظاهرين السلميين ويجيّر تضحياتهم لحساب قوى وأدوات دينية مرتهنة ولها ارتباطات إقليمية ودولية أمدّتها بكل عناصر القوة لتفعل، ولتحول الصراع مع السلطة من صراع لأجل الديمقراطية وسيادة القانون والشراكة الوطنية، إلى مواجهة دينية ومذهبية، فكان أن وضع هؤلاء الديمقراطية تحت أقدامهم وخطفوا وغيبوا واغتالوا ناشطين سلميين ظنوا لوهلة أنهم قاب قوسين من تحقيق الحلم، ليصحوا على جريمة لا تقل عن جريمة الإبادة الكيماوية التي ارتكبها النظام، وهي جريمة إجهاض ثورة السوريين واغتيال حلمهم بالحرية والكرامة الإنسانية.
ينسب للإمام الغزالي قوله إنه “ليس بالضرورة أن تخدم عدوك لتكون عميلًا، يكفي أن تكون غبيًا لتفعل”، وهو قول في غاية الصوابية والمنطق، وكثير من المعارضين السوريين كانوا عملاء حقًا فقط لأنهم أغبياء وليسوا أهلًا لما أنيط بهم أو أناطوه بأنفسهم من أدوار ومهام فشلوا فيها غاية الفشل، والغريب أنهم ما زالوا يفعلون دون أي اعتراف منهم بهذا الفشل، ودون أن يغادر أي منهم حصن منصبه.
هذا الفشل ليس خاصية حصرية بالأدوات السياسية للمعارضة فحسب، بل هو أيضًا في منظومات الفصائل العسكرية المسلحة، التي تصاب بالتحسس والحكّة إذا ما وصفناها بالقوى الميليشيوية، والتي يفترض أنها حملت السلاح لحماية المدنيين والمتظاهرين السلميين ابتداء، وإذ بها لم تكتفِ بالتغول على الناس واستباحة حقوقهم وحرياتهم ونهب أموالهم وممتلكاتهم، بل تجرأت لفرط ارتهانها وعمالتها على أن تكون مجرد مرتزقة يؤجرون بندقيتهم لمن يدفع أكثر، فتراهم يحاربون الروس وحلفاءهم في ليبيا بينما يتحالفون مع الروس ويحاربون معهم في النيجر، وينخرطون في صراع أذربيجان بينما تخرس أسلحتهم وجبهاتهم مع النظام.
كل الأحاديث والتسريبات المزعومة اليوم تتحدث عن إطار حل سعودي– قطري– تركي– عراقي يتم بالتشاور مع النظام نفسه، ودون أن يقيم أحد من كل تلك الأطراف وزنًا للمعارضة ولا سؤالها عن رأيها فحسب. وهذا الحل المفترض يبقي على المنظومة الحاكمة مع إدخال بعض الرتوش والإصلاحات الشكلية في البنى العسكرية والأمنية والحزبية، وتفكيك الميليشيات المعارضة وتسليمها لسلاحها وانسحاب القوات التركية من الشمال الغربي مقابل ضمانات حكومية سورية غالبًا سيتم التعبير عنها بتعديل طفيف على اتفاق أضنة لا أكثر. ولا أعتقد أن مثل هذا الحل سيقابل بتمنع أو ممانعة أمريكية أو غربية، لأن كل تلك الدول صارت ترى أن صفقة مع الشيطان الملتزم والقادر، كما كان دائمًا، على حماية حدود إسرائيل وعلى ضبط الفوضى في الإقليم مجددًا، تتقدم في الأولوية على الالتزام بموجبات التحول الديمقراطي ومفاهيم حقوق الإنسان وحقوق الناس في الشراكة الوطنية.
في حمأة كل ما يحصل يمكن القول، إن وزن ودور المعارضة السورية هو محض صفر على شمال أي أرقام تدخل في معادلة الحل، وهو سيبقى كذلك بعد أن استهلكت نفسها واستنفدت كل فرصها دون طائل، وجموع الناس لم تعد تهتم، أو لم تعد قادرة، على ممانعة أي حل يقدم لها أو يفرض عليها، لأن ما عانته وما تعانيه في أوضاعها الحالية جعلها لا ترى فارقًا بين جحيم النظام وجهنم المعارضة، وهذا هو ربما “الإنجاز” الوحيد الذي تمكنت المعارضة السورية من تحقيقه والذي تستحق عليه بجدارة وسام الغباء السياسي ذي الوشاح الأسود!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :