السوريون في اسطنبول
إبراهيم العلوش
القلق عند السوريين في اسطنبول شديد العمق، وهم ممزقون بين لقمة العيش المرّة، وبين ضغط الشائعات والتصريحات التي تهدد بترحيل بعضهم وبطرق قاسية.
يحب السوريون اسطنبول كمدينة متعددة تتميز عن مدن الشرق بتنوع الثقافات والتواريخ والأعمال والأصول، وهي تختلف عن أنقرة مثلًا التي تتسم بالرصانة الزائدة وبأحادية المنشأ، حيث يعود الفضل في أهميتها إلى مصطفى كمال أتاتورك، الذي رفض أن يدير تركيا الجديدة من اسطنبول ذات الرؤوس المتعددة والتواريخ التي لم يكن قادرًا على السيطرة عليها، بالإضافة إلى تداعيات الحروب والمطامع التي كانت تستهدف اسطنبول.
ولا تزال اسطنبول، التي يسكنها خمس سكان تركيا، أهم مدينة، وهي ليست مجرد مدينة بيروقراطية ولا هي مدينة نائية وغارقة في تعداد ميزاتها وأصولها الثابتة إلى حد الجمود، إنها مثل جغرافيتها مزيج من آسيا التي تمتد فيها معظم مساحة تركيا، ومن أوروبا التي تمتلك المبادرة والقدرة على الفعل في التجارة والصناعة والفن وفي أنماط الحياة التي لا تستطيع الإحاطة بتغيراتها.
على هامش اسطنبول يأتي دعاة الثبات ورفض التنوع، ورفض الدماء الجديدة، ولكن اسطنبول تشبه أمريكا صغيرة من حيث الأصول ومن حيث فرص المغامرة ومن حيث استقبال المواهب الجديدة، قبل أن تعلو نغمة رفض الآخر والخوف منه بدلًا من احتضانه والاستفادة من مواهبه، فالعراقيون والمصريون والروس والإيرانيون والأوروبيون بالإضافة إلى السوريين يشكلون نسيجًا إضافيًا وتوشيحات على النسيج الاسطنبولي، وتجد هذا الترحيب في عيون الاسطنبوليين وهم يتحدثون معك ويسألونك عن البلاد التي جئت منها، وعن حال الأتراك المهاجرين فيها، ويفتخرون بالكلمات التركية التي تلفظها بشكل غير صحيح بدلًا من أن تهزأ منك جوقة اليمين المتطرف.
في اسطنبول تجد المطبخ الشرقي وتسمع أصوات الأذان في كل وقت بشكل جميل ولا شطط فيه، وتزدان اسطنبول بالجوامع، وبالمطاعم وبأماكن اللهو وبالجامعات، تزدان بالبحر الذي يشطر جغرافيتها الأورو- آسيوية.
الفنان الحلبي خالد أوزغور سالي، الملقب بالمتوحش، ليس هو النجم التركي الوحيد من أصول سورية، فالسوريون فرضوا أنفسهم بجدارة وأنشؤوا أماكن عمل وعيادات طبية ومطاعم بسيطة أو فاخرة في قلب المدينة، وصار الناس يأتونهم من أوروبا ومن المغرب العربي ومن الخليج، ويساعد على ذلك التدفق السياحي وجود أعداد كبيرة من العرب والسوريين الذين يقومون بأعمال الترجمة والإرشاد في الطرق وفي المطاعم التركية، وفي أماكن اللهو وفي الجوامع والمتاحف، أينما اتجهت ستجد سوريًا أو عراقيًا أو أحدًا من عرب قادمين إليها، فاسطنبول تثير لدى العرب حس التحدي ونكهة التنوع المازج بين العراقة الآسيوية والطموح الأوروبي.
في الطرف الآخر تجد الخوف من الترحيل هاجسًا ثقيلًا على البسطاء وحتى على أصحاب العمل الناجح والجاذب للسياحة والتجارة، فما إن تتحدث مع سوري حتى يذكر لك اسم جاره الذي تم ترحيله ومعاناته في شروط العمل بالنهار ومع بعض الجيران في المساء، أو خوفه من تجديد الأوراق والتكاليف المرتفعة على الإقامات، والتشكيك من قبل رجال التفتيش حتى بالأوراق النظامية، وتتخيل معهم أن اسطنبول ستتحول خلال سنوات إلى مدينة مغلقة ومتخلية عن تنوعها.
تشعر وأنت عائد إلى مكان إقامتك بضرورة الرحيل العاجل عن اسطنبول، وتتعالى في أذنيك أصوات الضجيج والازدحام ونداء الباعة وتنزلق في إحدى الحواري الضيقة لتغلق عليك باب غرفتك مكتئبًا من مناظر المتشردين ومنهم سوريون ممن لا يجدون جمعيات مدنية أو خيرية تسيطر على ضياعهم وتنتشلهم من حاويات القمامة أو من مفارق التسول التي استسلموا لاعتيادها.
ولكن في المساء يتصل صديق لمرافقته إلى مقهى على البحر، وتعود إلى الحيوية والنشاط وتجد ترحيب الأتراك، وتستمتع بالذوق التركي وبالأناقة التي يستطيع الاسطنبوليون فرضها عليك مهما كان مزاجك، ويجبرونك على الابتسام وأنت تتفرج على البوسفور والسفن العابرة إلى بلاد قريبة أو بعيدة، ويظل كأس الشاي أيقونة تركية تلاحقك أينما جلست.
تصريحات رئيس المعارضة الأخيرة أوزغورن أوزيل خففت عن السوريين بعض الثقل، وأعفت السوري من بعض همومه، بالإضافة إلى أن الانتخابات البلدية هذه السنة كانت أقل حدة في تناول موضوع السوريين، وكانت بعيدة عن الطرق العنصرية التي ظهرت في الانتخابات الرئاسية عام 2023.
ولكن السوريين كلاجئين وبشر وعمال ورجال أعمال بحاجة إلى طمأنة أكثر في اسطنبول، وفي كل أنحاء تركيا، حيث يعيشون في معازل منع السفر، ولم تتمكن الانتخابات الأخيرة من تثبيت دعائم الوجود القانوني للسوريين بعيدًا عن هبات التطرف القومي المفاجئة.
والسوريون بحاجة ماسة إلى تدخل تركيا في فرض القرار الدولي “2254” لحل القضية السورية، وإنهاء مشكلاتها السياسية والإنسانية التي صارت ثقيلة على السوريين أولًا وعلى دول الجوار ثانيًا. تركيا اليوم تتوسط العالم في دبلوماسيتها بين روسيا وأوروبا وأمريكا، والشأن السوري يقع على حدودها ويثير قضايا في داخلها تهدد أمنها، وخاصة التنظيمات المسلحة التي انتقل نشاطها من تركيا إلى سوريا، وتمركز تنظيمات تتبع لحزب “العمال الكردستاني” التركي في سوريا يشبه تمركز “حزب الله” اللبناني- الإيراني فيها، وهما يزيدان تعقيد المسألة السورية.
في اسطنبول تجد حلب ودمشق والقاهرة، وتجد المزاج المشترك لشعوب الشرق، وتجد التنوعات الغربية في الديمقراطية النسبية مقارنة بالعالم العربي، وفي التحرر الذاتي، وتحرر المرأة الذي تفتقده الكثير من بلداننا، وتجد الحوار مع التاريخ بكل جماله وشجونه. ورغم الهم وضيق الحال لم أجد سوريًا إلا وتحدث عن اسطنبول بحب، والجميع يفكرون بتطوير تجارتهم وعملهم وحياتهم لتواكب تغيرات اسطنبول وتنوعاتها التي تثير الدهشة!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :