إبراهيم العلوش
فيلم “حرب أهلية” لن يفاجئك إذا كنت تعيش في الداخل السوري بعد العام 2011، فقد واجهنا، نحن السوريين، أصوات قصف أقوى من أصوات هذا الفيلم، وشهدنا وحشية أكثر شراسة من الميليشيات العنصرية التي يعرضها الفيلم.
يتصدر المشهد السينمائي هذه الأيام الفيلم الأمريكي “حرب أهلية” الذي يحصد الإعجاب والانتشار والموارد الكبيرة، وهو من إخراج ألكس غارلاند، واختلفت آراء النقاد حوله، لكن الجميع أشادوا بالمشاهد المتقنة التصوير والأصوات المؤثرة التي تدخلك إلى لبّ مأساة الحرب القائمة على التوحش.
تم إطلاق الفيلم في أمريكا وكندا الشهر الماضي، ولاحقًا تم إطلاقه في أوروبا وبقية دول العالم، لتمتلئ الصحف و”الميديا” بالتعليقات التي تتراوح بين الإعجاب الشديد إلى حد النفاق، وبين الاستنكار القاسي الذي يصف الفيلم بالفارغ والخالي من القول العميق لحساب الصورة والصوت، إلى درجة اتهام الفيلم بعدم وجود سيناريو يسرد القصة وانعدام التغيرات على الشخصيات، وبحسب بعض النقاد لم يتغير في الفيلم إلا “كيلومتراج السيارة” الذي يبين المسافات المتبقية للوصول إلى واشنطن.
يرفض الرئيس الأمريكي التخلي عن الرئاسة، ويخالف الدستور ويقصف المعترضين بالطائرات مما يؤدي إلى انفصال ولايتي كاليفورنيا وتكساس رغم التباين الأيديولوجي التاريخي بين الولايتين، فكاليفورنيا تصوت عمومًا للديمقراطيين وتكساس للجمهوريين، وخاضتا الحرب الأهلية الأمريكية في القرن الـ18 ضد بعضهما البعض، بالإضافة إلى البعد الجغرافي بين الولايتين، ولكنهما تهاجمان واشنطن لاقتلاع الرئيس المستعصي على التغيير.
البطلة الرئيسية “لي” صحفية مخضرمة ومصورة جالت البلدان وهي تلتقط الصور وترسلها إلى الصحف والتلفزيونات الأمريكية، تتنقل مع صحفية متدربة وصحفيين اثنين من الرجال، وتقول في الفيلم إنها كلما التقطت صورة من مشهد حرب أرسلتها إلى الوطن من أجل تحذير الجميع ألا يفعلوا ببلدهم مثلما تفعل الأطراف المتحاربة في ذلك البلد البعيد أو القريب من أمريكا، ولكنها تجد نفسها أخيرًا تصور مشاهد الحرب والدمار في طريقها من نيويورك إلى واشنطن حيث تقطع مع فريقها حوالي 340 كم من مشاهد الحرب الغاشمة.
من المشاهد المؤثرة في الفيلم لعبة الشاب في الانتقال من سيارة إلى أخرى وهما في أقصى سرعة، وتجرب جيسي الصحفية المتدربة مع لي شجاعتها وتتحدى الخوف وهي تنتقل من سيارة الصحفيين إلى سيارة صديق لهم، ولكن السيارة التي تنتقل إليها الصحفية المتدربة سرعان ما تختفي بشكل كارثي، ليجدوها أخيرًا عند حاجز لميليشيا عنصرية تحقق مع العابرين، ما أصلك؟ هل أنت أمريكي؟ ومن أي نوع من الأمريكيين أنت؟ ويبرع الصحفي الرئيس بإقناعهم بأنهم مثلهم أمريكيون، وسط رعب الصحفية المتدربة جيسي وبكائها، ولكن أحد جنود الحاجز يطلق النار على الشاب الذي قفز من السيارة لأن ملامحه آسيوية ولا يعتبره أمريكيًا، ويبدو المشهد شديد الوحشية ويذكرنا بمشاهد حواجز جيش الأسد، والميليشيات الإيرانية الطائفية، ومشاهد حواجز “داعش” التي لم يسلم من قسوتها حتى الجنود المنشقون عن نظام الأسد، حين كانوا يقتلون بدم بارد.
ويعج الفيلم بمشاهد الغابات التي تحترق على طول الطريق والتخريب اللامتناهي في بنى الحياة، مع بعض المشاهد الحياتية التي لا تزال مستمرة في الفيلم وتبدو عائمة على بحر من مشاهد الحرب الوحشية. ويبرز مشهد آخر تبدو فيه زينة عيد الميلاد وألوان الاشجار المتلألئة وفي نفس الوقت يتم تبادل إطلاق النار بين الجنود وصاحب البيت في انتقال معبّر من جمال الحياة والسلام إلى وحشية القتل المتبادل.
مشاهد القتل والتفجير يشبهها بعض المعلقين بحروب أمريكا بعد 11 من أيلول 2001 ضد أفغانستان والعراق، حين أعلن جورج بوش الابن الحرب على العالم، وصار الموت شعارًا أمريكيًا وهدفًا للانتقام، تمامًا مثلما تفعل إسرائيل اليوم بقيادة نتنياهو في غزة وهي تقتل الفلسطينيين وتحيل حياتهم إلى جحيم بحجة الانتقام من “حماس”، متعمدة التورط في الإبادة الجماعية التي صارت واضحة لكل مراقب، ولكل محكمة دولية منصفة.
الذاكرة السورية تعج بمثل هذه المشاهد المأساوية على يد رئيس رفض الانصياع لمطالب الشعب، وتعمد استعمال العنف والبراميل المتفجرة واستقدام الميليشيات الإيرانية والطائرات الروسية في ظروف دمار لا يزال مستمرًا خلال 13 عامًا من المشاهد التي لم يتح لها التصوير فائق الدقة الذي حصلت عليه مشاهد الحرب الأهلية الافتراضية في أمريكا، ولكن تم تأريخها بكاميرات الهواة السوريين وموبايلاتهم وبكاميرات بعض الصحفيين والمصورين الذين يبحثون عن الحقيقة، ووثقوا جزءًا غير قليل مما يجري في سوريا، وقد كانت تهمة التصوير من أكبر التهم التي تودي بحياة المعتقل سواء لدى النظام أو لدى الميليشيات الإيرانية أو لدى “داعش”.
“حرب أهلية” فيلم مأخوذ من وحي مشاهد مؤيدي ترامب الذين رفضوا نتائج الانتخابات في عام 2021 واحتلوا مجلس النواب، وهو إنذار عن احتمالات قادمة إذا رفض ترامب ومؤيدوه نتيجة الانتخابات، ولعل عرضه في هذه الأشهر القليلة قبل الانتخابات في تشرين الثاني المقبل هو رسالة تحذير لمؤيدي ترامب، رغم أن الفيلم لا يتحدث بالسياسة ولا بالأفكار وإنما فقط بتدفق الصور والمشاهد والأصوات التي تثير الذعر في صفوف المشاهدين بالولايات المتحدة وعبر العالم، وتقول إن الحرب ليست حلًا.
قلت لصديقي المغترب الذي لم يشهد وحشية نظام الأسد وما تولد عنها، من الواجب عليك حضور هذا الفيلم لتتعرف إلى بعض ما تعرضنا له. وظلت مشاهد إطلاق النار وقصف الطائرات المتدفقة من الفيلم تحتل مخيلتي وتعيدني إلى أعوام البراميل المتفجرة، وصواريخ “سكود”، وحواجز ميليشيات الدفاع الوطني، والمخابرات، و”جبهة النصرة”، و”داعش”، وما إلى ذلك من متممات الوحشية التي احتلت بلادنا، ومزقتنا، وهجّرتنا بعيدًا عن الوطن الذي تحوّل إلى مقابر وسجون كبيرة.