أحمد الشامي
من المبكر الحكم على خطوة “بوتين” اﻷخيرة التي يجب تعريفها كـ “إعادة انتشار”، وهي ليست هزيمة لروسيا ولا تعني جلاء القوات المعتدية. الموضوع كله مجرد نقلات على رقعة شطرنج دموية.
على عكس ما كان يحصل أثناء الحرب الباردة، يجري في سوريا الآن إعادة تشكيل عالم متعدد اﻷقطاب بشكل يشبه إلى حد ما ما حصل بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين بزغ نجم “الاتحاد السوفييتي” و”الصين الشعبية” ودول عدم الانحياز، في تلك الفترة وقعت الحرب الكورية وعملية “خليج الخنازير” وغيرها. في كل هذه الحالات كان الصراع يجري بين المعسكرين وتتم إدارته يومًا بيوم وحركة مقابل حركة، تمامًا كما يجري اليوم في سوريا، وهو ما يفسر تكرار “المفاجآت” ويلقي الضوء على الطبيعة المتحولة والهلامية للصراع على بقايا سوريا، التي أصبحت مختبرًا دوليًا لتوازنات القوى وللمقايضات بين الدول الكبرى والدول اﻹقليمية.
على عكس ما كان يجري أثناء الحرب الباردة، حين تواجهت نظريتان اقتصاديتان ومقاربات مختلفة لمستقبل البشرية، ما يجري اليوم مختلف تمامًا.
الاتحاد السوفييتي كان يتحجج بنظرية أخلاقية وبنظرة شاملة لمستقبل البشرية، لا تخلو من التفاؤل، وتسمح لملايين من البشر بالاندماج فيها عبر اﻷحزاب الشيوعية وعبر منظومة اقتصادية وسياسية شاملة.
في الطرف الآخر، سادت قيم “الحلم اﻷمريكي” ومبادئ الحرية وحقوق اﻹنسان والاشتراكية الليبرالية والمساواة والفردية في مقابل طغيان حقوق المجتمع. هذه النظرية هي التي انتصرت وفرضت قيمها على العالم.
ماذا نرى اليوم؟
هل هناك خلاف بين “مبادئ” الرئيس اﻷسمر وبلطجي الكرملين؟ كلاهما ينادي بسيادة قوانين السوق والرأسمالية المتوحشة وكلاهما عنصري يحتقر حقوق اﻹنسان “غير اﻷبيض”. المنظومة القيمية السائدة في كل من روسيا الاتحادية وأمريكا هي ذاتها تقريبًا. في روسيا هناك “مافيات” تتحكم بكل دقائق اﻷمور، وفي أمريكا هناك مركب مصرفي وصناعي على رأسه نخبة من اﻷثرياء يحركون اﻷمور من وراء الستار.
مثل روسيا، في أمريكا واحد في المئة من اﻷمريكيين يملكون أكثر من 95 في المئة من الثروة الوطنية. بكلمة أخرى، اﻷمريكيون والروس يسيرون في ذات الاتجاه الذي سبقهم إليه نظام البراميل! حيث تنحصر الثروة والسلطة في أيدي نخبة منفصلة عن الواقع والحياة اليومية.
هذا يفسر التناغم بين هذه الأنظمة التي تشترك في عدائها لقيم الحرية والعدالة والمساواة لسواد البشر ولو اختلفت الخطابات والمظاهر، لهذا نرى صعود نجم “بلطجي” أمريكي مثل “ترامب” الذي لا يختلف كثيرًا عن بوتين ولا عن بشار.
حين ندرك مدى التقارب القيمي بين أمريكا وروسيا يصبح من اﻷسهل فهم سياسات البلدين.
في الموضوع الذي يهمنا وهو الغزو الروسي لسوريا، نستطيع أن نعتبر أن خطوات بوتين ترتقي إلى مرتبة الأستاذية في البلطجة، فالرجل يبدو رابحًا على كل الصعد ولا يبدو صنوه الأوبامي خاسرًا، الاثنان يربحان ﻷن أهدافهما هي في النهاية واحدة.
الروس لم يرحلوا ولن يرحلوا “بالذوق”، فهم قد استقروا حيث لديهم مصالح، وسيستميت نظام الأسد في محاولاته إرضاء المحتل الروسي، لكي لا يرحل ولكي يعود زبانية بوتين حين الحاجة.
الروس حققوا كل أهدافهم، دعموا نظام العصابة، الذي لم يكن مهددًا بالسقوط أساسًا، وفرضوا شراكتهم عليه وعلى إيران. كلفة التدخل الروسي تافهة مقابل النتائج التي تحققت والتي سنرى بعضها مع الارتفاع المقبل لأسعار البترول بالاتفاق مع “آل سعود”.
بوتين لقن “أردوغان” درسًا في الاستراتيجية والتكتيك وفضح بؤس السياسة التركية وعجزها وانتهازيتها، في ذات الوقت الذي ضغط فيه على أوروبا عبر طوفان اللاجئين وفرض نفسه لاعبًا رئيسًا شرق المتوسط.
في هذه الأثناء، يعيد السوريون “انتشارهم” في كل أصقاع الأرض.