حسن إبراهيم | جنى العيسى | خالد الجرعتلي
يدخل الحراك الشعبي ضد قائد “هيئة تحرير الشام” في إدلب، “أبو محمد الجولاني”، شهره الرابع، حاملًا مطالب إسقاطه، ورافضًا لسياسة التفرد واحتكار القرار، رغم إصلاحات أجرتها “الهيئة” ومظلتها السياسة حكومة “الإنقاذ”، ووعود أخرى بانتظار التنفيذ.
ويزداد المشهد قتامة وتعقيدًا مع دخول شخصيات من خلفية شرعية وحزبية تحمل موقفًا مسبقًا من “تحرير الشام”، فكان الحراك بوابة لها من أجل تعزيز مطالبها، وربما امتطاء الموجة لتنفيذ أجنداتها المختلفة، مع وجود خصم هو حزب “التحرير” الذي يشكل قوة ناعمة تحارب “الهيئة” على ملعبها، الأمر الذي أضفى على الحراك صبغات مختلفة، لكن المطلب الثابت هو “إسقاط الجولاني”.
حراك يقوده مدنيون وناشطون ويؤيده عسكريون وشرعيون، سرعان ما بدت عليه ملامح الانقسام أو على الأقل اختلاف وجهات النظر، ليعود “الجولاني” ويزيد من اشتعال فتيل الاحتجاجات، عقب تحذيره من تجاوز “الخطوط الحمراء”، وزجه بالعسكر في الشوارع، ما نتج عنه اعتداء على المتظاهرين وزيادة غضبهم، ورسم ملامح منعطف جديد لمستقبل إدلب.
في هذا الملف، تسلط عنب بلدي الضوء على الحراك وتستعرض مع ناشطين فيه المطالب وقراءتهم لإصلاحات “الهيئة” والعقبات أمام الحراك ومستقبله، كما تناقش مع خبراء وباحثين متخصصين أسباب زج “الجولاني” بالعسكر في الشارع، رغم امتلاكه 50 “كرتًا” (بطاقة)، حسب قوله، وإمكانية استغلال النظام السوري الحالة لإحداث ثغرة، ومآلات الحراك في حالتي التصعيد والحوار.
إسقاط “الجولاني”.. مطلب ثابت في حراك متشعب
منذ نهاية شباط الماضي، أخذت رقعة المظاهرات بالتوسع ضد سياسة “تحرير الشام” وقائدها “الجولاني”، وعلا الصوت المطالب بإسقاط “الجولاني” وتنحيته وحتى محاكمته، باستناد المتظاهرين إلى تفرده بالقرار، وسطوته على جميع مفاصل الحكم، وإغلاقه لملف “العمالة”، وظهور عمليات تعذيب في سجون “الهيئة” إلى العلن، وحادثة مقتل عنصر من فصيل “جيش الأحرار” في السجن إثر التعذيب، ودفنه دون علم أهله.
من جانبها، أطلقت “تحرير الشام” و”الإنقاذ” وعودًا وإصلاحات، وأجرى “الجولاني” اجتماعات مكثفة، وصدر عفو عام عن المعتقلين بشروط واستثناءات، وجرى تشكيل لجان للاستماع إلى الأهالي، وأُلغيت رسوم عن الأبنية، ويجري العمل على تشكيل “مجلس شورى جديد”، لكن ذلك لم يمنع خروج المظاهرات، إذ اعتبر المتظاهرون أن الإصلاحات “شكلية ووهمية وفيها تجاهل لمطلب إسقاط الجولاني”.
مع توسع الاحتجاجات، بدا جليًا وواضحًا تشعب الحراك، وظهرت مبادرات وتنسيقيات منها “مبادرة الكرامة”، ثم ظهر تشكيل “تجمع الحراك الثوري” في 8 من أيار الحالي، وضم “رابطة أهل العلم في الشمال السوري”، و”اتحاد التنسيقيات”، و”تجمع مبادرة الكرامة”.
ورغم حمله نفس مطالب المتظاهرين، لم يكن “تجمع الحراك الثوري” يمثل كل المنخرطين في المظاهرات، لأن هناك ناشطين يريدون أن يكون الحراك “شعبيًا خالصًا” بعيدًا عن الانحيازات الشخصية والغوغائية والأيديولوجيات.
الطبيب محمد فاروق كشكش أحد منسقي الحراك في إدلب، قال لعنب بلدي، إن مطلب الحراك الرئيس هو إصلاح سياسي يبدأ برأس الهرم، وإن الإصلاحات الحاصلة حتى الآن هي في القشور، بدليل أن الملفات الحساسة لم يتم التطرق إليها، مثل كشف مصير المغيبين في السجون، وفتح صفحات الملف المالي وحقيقة ملف “العملاء”، وغياب الإصلاحات الأمنية، التي كان أحدث ثمراتها الاعتداء على المتظاهرين.
مطبات وتشويش
الناشط وأحد منسقي الحراك عبد الرحمن طالب، قال لعنب بلدي، إن أبرز المطبات التي يواجهها الحراك اليوم هو التفاف مكونات “هيئة تحرير الشام” خلف قيادتها وشبه إجماع عليها، مقارنة بالأشهر الثلاثة الماضية، إذ كان يوجد نزاع بين تيارات “الهيئة”.
ويرى الناشط أن سبب هذا الالتفاف هو ماكينة “الهيئة” الإعلامية التي عملت على تشويه الحراك، بالإضافة إلى ماكينتها “الشرعية” التي كانت تقول للمقاتلين إن بقاء “الجولاني” من بقائهم.
وأضاف الناشط أن من المطبات وجود عدد من “الفواعل الشاذة” داخل الحراك، الذين حاولوا التشويش على المطالب، ومنهم حزب “التحرير” وبعض العناصر التي لم يتقبلها المجتمع.
وواكب الحراك شخصيات شرعية، أبرزها الداعية عبد الرزاق المهدي، الذي التقى مع “أبو محمد الجولاني” مرتين، في غضون الأشهر الثلاثة الماضية، ودعت خطب الجمعة التي يلقيها إلى ضرورة الاستماع إلى مطالب المتظاهرين، وتلبيتها، وكان من أبرز المطالبين عن كشف ملابسات قضية “العمالة” في صفوف “الهيئة”، وتعرض لهجوم من الإعلام الرديف لـ”الهيئة”، ومحاولات “تخويف” من مجهولين.
وكان الحراك فرصة لمناهضي “الهيئة” من قياديين منشقين وسابقين فيها، من أجل انتقادها أكثر، بالإضافة إلى قنوات ومعرفات عبر “تلجرام” و”إكس” لتراشق الاتهامات مع الإعلام الرديف لـ”الهيئة”.
الباحث المساعد المتخصص في النزاعات العرقية وفواعل ما دون الدولة في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، أسامة شيخ علي، قال لعنب بلدي، إن التحديات على جميع الأصعدة، منها الخدمية، والطبية، والأمنية، شكّلت حالة من السخط على “تحرير الشام” وانعكست على شكل احتجاجات في الشوارع، وزادتها قضية مقتل سجين تحت التعذيب، وقضية ملف “العمالة”.
واعتبر شيخ علي أن الوقت الذي انتشرت فيه المظاهرات، أثبت أن الحركة الاحتجاجية لم تتمكن من استقطاب شرائح واسعة من مكونات إدلب.
ورجّح شيخ علي انخراط أطراف أخرى في الحراك لمحاولة ضبط “الهيئة” التي ظهرت مؤخرًا على أنها “فاعل محلي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته”، مثل محاولات التمدد خارج مناطقها الطبيعية (نحو ريف حلب)، والهجمات المتكررة نحو مناطق سيطرة النظام السوري، ورجّح الباحث وجود جهة ما تعمل على “ضبط إيقاع الجولاني حتى لا يتجاوز حدودًا معينة”.
ماذا يريد حزب “التحرير”
إلى جانب ذلك، انضم أعضاء حزب “التحرير” إلى الاحتجاجات، وهم على خلاف قديم مع سياسة “تحرير الشام”، ولم تنقطع مظاهراتهم خلال الأعوام الماضية، فالحزب هو “حزب إسلامي سياسي، لا يعترف بحدود الدول الوطنية، ويطالب بعودة الخلافة الإسلامية”، ويتهم “الهيئة” بـ”تكميم الأفواه، ومحاكاة أسلوب النظام القمعي، وتجميد الجبهات”، في حين تتهم “تحرير الشام” الحزب بـ”شق الصفوف، وتخوين المرابطين، وبث الشائعات”.
وفي توضيح من حزب “التحرير” لعنب بلدي، قال إن الحزب لا يطلب من قيادة “الهيئة” أي مطلب، خاصة أنه يراها فصيلًا كما باقي الفصائل لا تملك من أمرها أي شيء، وأصبحت قيادتها أداة بيد الدول وجهاز تنفيذ لمقررات المؤتمرات التي تعقد.
وفق التوضيح، يطلب حزب “التحرير” من الناس أن يتحركوا ليستعيدوا قرارهم الذي سُلب منهم، ويدعوهم ليختاروا عليهم (الناس) من يمثلهم حقيقة ليقود ثورتهم نحو تحقيق أهدافها.
واعتبر حزب “التحرير” أن الإصلاح الحقيقي لا يكون بتجميل الواقع المفروض، إنما هو أن تعود الثورة لما كانت عليه، وأن تفتح المعارك ليعود المهجرون الذي يعيشون في الخيام إلى مدنهم وقراهم، وأن تدور عجلة التحرير، وأن تتوجه كتائب التحرير نحو العاصمة معقل النظام لتسقطه، هذا هو الإصلاح الحقيقي الذي يعمل الحراك لأجل تحقيقه.
وعن رد حزب “التحرير” على دعوات الحوار، وتعليقه على أن المطالب لُبيت وبقي بعض منها قيد التنفيذ، قال إن الحوار لا يكون مع الذي قتل المجاهدين والثوار وقام بتصفيتهم في سجونه دون محاكمات، ودفنهم دون بيان مصيرهم حتى لأبنائهم وأزواجهم، أو مع الذي يضيق على الناس في أقواتهم وأحوالهم.
وأضاف أن الحوار لا يكون مع الذي “شبّح” على الناس في أثناء فض اعتصام المحكمة العسكرية بالقوة، ومع الذي يرهب الناس فكريًا وماديًا كل يوم، لا يوجد حوار تحت ظل تهديدات “الجولاني” وإعلامييه ومنظريه، حسب قوله.
وأوضح الحزب أنه منذ عام 2019، وبعد حملة شنتها قيادة “الهيئة” تجاه الحزب وشبابه، وتم فيها اعتقال عدد من شباب الحزب وسرقة محطات بث إذاعي للحزب وسيارات شخصية للشباب وغيرها الكثير، ودعواتهم للقاء لم تتوقف، و”شروطنا كانت واضحة، وهي إطلاق سراح جميع الشباب والاعتذار العلني منهم وإعادة المسروقات، وأن تظهر قيادة (الهيئة) للعلن وتقول للناس أين تسير بمركب الثورة وما المشروع الذي تسعى لأجل تنفيذه. وبعد ذلك يمكن التفكير بالجلوس مع (الهيئة)”.
وعن تعليق حزب “التحرير” على اتهامات بأنه ينتقد ويهاجم ويخوّن “الهيئة” فقط، ولا رغبة لديه بالحوار أو التفاوض أبدًا، ويسعى فقط لخلق “بلبلة”، ذكر الحزب أنه ليس فصيلًا يصارع الآخرين على مناطق سيطرتهم ونفوذهم بل هو صاحب رسالة ومشروع ليس خاصًا بحزب “التحرير” بل هو مشروع كل أبناء الأمة، لذلك يدعو الحزب الجميع كي يعملوا لهذا المشروع و ينصروه، فهو من سيجمع الشتات و يوحد الكلمة ويحقق الخلاص والنصر والعزة، حسب قوله.
العسكر.. “كرت الجولاني” بوجه الحراك
لم تفلح محاولات “الهيئة” في احتواء الاحتجاجات بالحلول السلمية، وبرز ذلك في حادثة فض اعتصام بالقوة وسط إدلب، في 13 من أيار الحالي، والاعتداء على المحتجين بالأيدي والهراوات، علّقت عليها “الإنقاذ” بأن الاعتداء بدأ من المتظاهرين أولًا.
وفي 15 من أيار، قال “أبو محمد الجولاني”، إن “الهيئة” حذرت سابقًا من أن أي مساس بالمصالح والقواعد العامة هو “تجاوز لخطوط حمراء”، وإن السلطة ستتحرك لمواجهة هذا الأمر، معتبرًا أن معظم مطالب المحتجين لُبيت، وبقي بعض منها، لكن المطالب انحرفت عن مسارها الحقيقي.
إدلب قد دخلت في مرحلة جديدة، ويجب أن يعود المحرر لانتظامه، وقد انتهى وقت المطالب، ولن نسمح بأن تعود حالة الفوضى والتشرذم.
“أبو محمد الجولاني”
قائد “هيئة تحرير الشام”
وذكر “الجولاني” أن “الهيئة” استخدمت خلال الأشهر الثلاثة الماضية “لغة الحوار”، ولديها 50 “كرتًا” (بطاقة) لم تستخدم واحدًا منها، مضيفًا أن “من هان عليه المحرر فقد هان علينا، ولن نتهاون مع أي شخص أو تجمع أو حزب أو فصيل يريد إيذاء المحرر”.
بعد يومين من حديث “الجولاني”، نصبت “تحرير الشام” حواجز عسكرية على الطرقات الرئيسة وأبرز “الدوارات” لمنع وصول المتظاهرين من الأرياف إلى مركز مدينة إدلب، وذلك في 17 من أيار، تبعتها حوادث اعتداء على متظاهرين في مدينتي بنش وجسر الشغور، ومحاولة لدهس متظاهرين بالآليات العسكرية.
الطبيب محمد فاروق كشكش، اعتبر أن كلام “الجولاني” بأن المطالب انحرفت عن مسارها طبيعي، لأن الأخير يريد تشويه صورة الحراك، وسحب شرعية الحراك وشيطنته، تمهيدًا لإقناع عناصر الجناح العسكري بضربه، لكن المتظاهرين على ثقة بأن العسكريين لن يكونوا أداة للبغي والعدوان، مع تحميل مسؤولية أي قطرة دم تسيل على من بيده مقاليد الأمور لأنه الأقدر على السير بالسفينة نحو بر الأمان، وفق كشكش.
البندقية.. بالون اختبار
الباحث أسامة شيخ علي يعتقد أن التحديات الداخلية التي ظهرت مع توقف المعارك المسلحة في مناطق تسيطر عليها قوى أمر واقع، ومنها “هيئة تحرير الشام” أظهرت حالة قلة الخبرة، وضعف الموارد، في التعامل مع التحديات بمختلف أنواعها.
ويرى شيخ علي أن “هيئة تحرير الشام” كفاعل ما دون دولة، حالها حال سلطات المناطق الأخرى في سوريا، لا تملك الخبرة والقدرة على التعاطي مع الاحتجاجات الشعبية، مضيفًا أن غياب الموارد يلعب دورًا بعدم قابلية التعاطي، ما يدفعها لاستخدام القوة واستعراض قدراتها العسكرية.
بالتوازي مع الحركة الاحتجاجية، حاولت قوى فاعلة محلية استغلال مطالب المحتجين لتنفيذ غايات معينة، أو تصفية حسابات مع “تحرير الشام”، ما دفع “الجولاني” لمحاولة احتواء المظاهرات بشتى السبل، لكن محاولاته لم تثمر، وتطورت لتهديد المحتجين، ثم استخدم القوة كبالون اختبار، لترك انطباع أن منظومته الأمنية متماسكة.
أسامة شيخ علي
باحث مساعد متخصص في النزاعات العرقية وفواعل ما دون الدولة
رهان على تعب الشارع
حديث “الجولاني” عن المرحلة الجديدة، رافقه تأييد من الجناح العسكري، إذ قال قيادي عسكري في “تحرير الشام” عبر تسجيل مصور موجهًا كلامه إلى المتظاهرين، إن المقاتلين في الجناح العسكري قد التفوا حول قيادتهم المتمثلة بـ”الجولاني” و”مجلس الشورى”، وهم مع الإصلاحات الجارية، وإن كان المتظاهرون صادقين فلينتهجوا نهج المقاتلين، حسب قوله.
الباحث المتخصص في شؤون الجماعات الجهادية عبد الرحمن الحاج، يرى أن التحول السريع في سلوك “تحرير الشام” نحو استخدام القوة هو “محاولة ترهيب”، لكنه أشار إلى أن “زعيم الهيئة” لا يبدو مستعدًا لتجاوز حدوده التي ظهرت مؤخرًا، على الأقل في الوقت الراهن.
وأضاف الحاج لعنب بلدي أن إدخال العسكر في مواجهة المتظاهرين يحمل مؤشرات عدة، أبرزها أن “الجولاني” يعي أن أزمة الاحتجاجات اليوم “أكثر خطورة” مما واجهه سابقًا، إذ يمكن أن تؤدي نحو الانزلاق إلى العنف، خصوصًا أن أبناء المنطقة يشكلون الجانب العسكري من “تحرير الشام”.
“الجولاني” راهن على تعب الشارع وخفوت صوت المتظاهرين، ومارس الانتظار والصبر، لكن الشارع لم يتوقف، فقرر ترهيبه دون التورط في قمع واسع قد يشكل خطوة لا عودة عنها والدخول في اقتتال أهلي سيهدد بقاءه، إذ يعي أنه يعيش في بحر من الأعداء.
عبد الرحمن الحاج
باحث متخصص في شؤون الجماعات الجهادية
من جهته، الباحث في الجماعات “الجهادية” عباس شريفة، اعتبر أن لسقوط السلطة في إدلب يجب توفر ثلاثة شروط، الأول انقسام داخلي وهو غير موجود لأن “الهيئة” متماسكة، والثاني وجود كتلة شعبية هائلة تتجاوز نصف المجتمع أو ثلثه تذهب لإسقاط “الهيئة” وهو شرط غير موجود، والثالث هو تدخل خارجي وهو غير موجود أيضًا، وذلك خلال مساحة صوتية لمركز “جسور للدراسات” حضرتها عنب بلدي، في 20 من أيار الحالي.
مبادرة “إصلاح”
بعد اعتداء العسكر على المتظاهرين، ظهرت دعوات من ناشطين ومحامين ومهندسين ومعلمين لتحكيم العقل، وسحب العسكر من الطرقات، مطالبين بالحوار بين قيادة “الحراك” و”تحرير الشام”، والبدء بمرحلة جديدة بعيدة عن فكر الإقصاء والإلغاء واللاء المطلقة، وتشكلت لجنة للتواصل بين الطرفين.
الناشط عبد الرحمن طالب، اعتبر أن إنزال العسكر إلى الشوارع هو زيادة خشونة في التعامل، مستبعدًا حدوث تصعيد في الوقت الحالي، لأن مبادرة الصلح لا تزال قائمة، وربما تصل إلى صيغة تفاهم بين الحراك و”هيئة تحرير الشام”.
بدوره، الطبيب فاروق كشكش اعتبر أن مبادرة “الإصلاح” مبادرة طيبة حققت كثيرًا من المطالب التي ينادي بها الشارع الثوري، ويتفق معهم بها مثل الحق المشروع بالتظاهر السلمي ومنع الاعتقال دون مذكرة قضائية وغيرها.
لكن المبادرة، وفق كشكش، لم ترقَ إلى مطالب الشارع بحصول إصلاح سياسي حقيقي يبدأ من رأس الهرم، ويرى أن أي إصلاحات دون هذا السقف هي إصلاحات هشة يمكن سحبها بسهولة، لافتًا إلى أن باب الحوار مفتوح حاليًا، وفي إطار ترتيبات من أجل تأمين لقاءات تمهيدية حاليًا.
مدير فريق “الاستجابة الطارئة”، دلامة عماد علي، وهو من الأشخاص المطالبين بالحوار بين الطرفين، قال إن مبادرة “الإصلاح العام” تهدف إلى الحوار بين مختلف الأطياف، وهي استجابة من مختلف شرائح المجتمع لفتح باب الحوار والنقاش البنّاء، ولقيت تفاعلًا من السلطة والحراك والمجتمع، ويجري العمل على لقاءات مشتركة سريعة وعاجلة قدر الإمكان.
وعن مستقبل الحراك، قال الطبيب محمد فاروق كشكش لعنب بلدي، إن الحراك ماضٍ في طريق لا عودة عنه في تحقيق مطالبه المشروعة، وهو ينمو ويتصاعد بوتيرة جيدة، والفرج القريب يلوح بالأفق، ويعتقد أن قيادة “الهيئة” لديها وعي وحرص للخروج من الأزمة الحالية بحلول مرضية وحوادث اعتداء لا تتكرر.
لا قرار للنظام باستغلال “الفوضى”
مع استمرار الحراك ونزول القوات إلى الشارع خاصة من عناصر الجناح العسكري في “الهيئة”، كثر الحديث عن استغلال قوات النظام السوري وحلفائها للحالة الحاصلة، وإحداث ثغرة أمنية أو عسكرية قرب خطوط التماس.
الباحث عزام القصير، قال لعنب بلدي، إن حالة الفوضى الأمنية والغليان الشعبي يشكلان بلا شك فرصة لعدد من الأطراف داخل مناطق “الهيئة” وخارجها لمحاولة استغلال الوضع، لكن القراءة الاستراتيجية العامة للوضع تبيّن أن لا مصلحة للنظام بفتح جبهة إدلب حاليًا ومحاولة استعادة السيطرة العسكرية والإدارية.
كما يسهم الحضور العسكري التركي في الشمال السوري في استبعاد سيناريو تقدم النظام عسكريًا في المدى القريب، وفق الباحث.
بينما اعتبر الباحث السياسي ومدير الأبحاث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، معن طلاع، أن النظام السوري يتعاطى مع منطقة إدلب بثلاث أدوات رئيسة، الأولى اختراقات أمنية عبر صفوف الفاعلين في المنطقة أنفسهم، والثانية تتضمن التعويل على سيناريو تعظيم حجم التحديات وبالتالي ازدياد مؤشرات الفناء الذاتي لهذه المناطق.
بينما تتمثل الأداة الثالثة بوجود تفاهمات دولية، وفق حديث طلاع لعنب بلدي، مضيفًا أن ما يحمي إدلب وخطوطها اتفاقيات سياسية بين الفاعلين الدوليين المتدخلين بالمشهد السوري.
واعتبر طلاع أن النظام السوري لا يرمي اليوم إلى بسط السيطرة على سوريا كافة، بينما يريد من إدلب فتح خطوط الإمداد من المعابر وتحريك التجارة الداخلية، وبالتالي إنعاش حالة الركود التي يعيشها الاقتصاد.
وتخضع منطقة شمال غربي سوريا لاتفاق “موسكو” أو اتفاق “وقف إطلاق النار” الموقع بين روسيا وتركيا في 5 من آذار 2020 بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره التركي، رجب طيب أردوغان.
وتمتلك تركيا 125 موقعًا عسكريًا في المنطقة، منها 57 في أرياف حلب، و51 في مناطق إدلب، وعشرة مواقع في الرقة، وأربعة في الحسكة، وموقعان في ريف اللاذقية، وآخر في ريف حماة، وفق مركز “جسور للدراسات“.
السجون تربك حسابات “الجولاني”
بعد “إسقاط الجولاني”، كان مطلب تبييض السجون ثاني أبرز المطالب في المظاهرات، وضرورة الإفراج عن المعتقلين الأبرياء من مختلف التبعيات، بمن فيهم الأجانب والذين اختطفتهم “تحرير الشام” من اعزاز أمثال “أبو شعيب المصري” وعصام الخطيب، وفاقم هذه المطالب عمليات التعذيب في معتقلات “الهيئة”.
وفي 5 من آذار الماضي، أصدرت حكومة “الإنقاذ” مرسومًا يقضي بعفو عام عن مرتكبي الجرائم وفق شروط واستثناءات، تبعه إعلان وزير الداخلية، محمد عبد الرحمن، بأن الوزارة أخلت سبيل 420 سجينًا بمقتضى المرسوم، مع وعود بإخراج أعداد أخرى شملها العفو.
ومنذ آذار الماضي، تعتزم حكومة “الإنقاذ” استحداث محكمة أمنية تتيح لأهالي الموقوف متابعته وتوكيل محامٍ للدفاع عنه، وتعمل بالتنسيق مع وزارة العدل، وستكون من محاكم الدرجة الثانية، وتتألف من ثلاثة قضاة، وسيوضع نظام إجراءات خاص بها بما يتلاءم مع الاختصاص.
في 18 من أيار الحالي، قال وزير العدل، القاضي شادي محمد الويسي، إن الوزارة قاربت من إنهاء الترتيبات لإحداث محكمة الجنايات الثانية المختصة بالجرائم الجنائية ذات الطابع الأمني.
وأضاف أنه وجّه ببدء تسلّم الملفات القضائية ذات الصلة من وزارة الداخلية من خلال لجنة مكلفة من المجلس الأعلى للقضاء، كما تعمل الوزارة على إحداث مكتب استعلامات يُعنى باستقبال المراجعين في القضايا ذات الطابع الأمني.
700 شخص.. تداعيات على الحكم
وتجاوز عدد المفرج عنهم، حتى 24 من أيار الحالي، 700 شخص، ولا يزال إطلاق سراح المعتقلين مستمرًا، وفق العفو العام، بحسب توضيح من وزارة العدل في “الإنقاذ” لعنب بلدي.
تواصلت عنب بلدي مع المكتب الإعلامي لدى “تحرير الشام” للحصول على توضيحات عن أسئلة متعلقة بأسباب إنزال العسكر إلى الشوارع، وعدم الإفراج عن بعض المعتقلين الذين لم يرتكبوا أي مخالفات أو تجاوزات وفق مطالب المتظاهرين، وعدم الإفراج عن المعتقلين الذين اختطفتهم “الهيئة” من اعزاز، لكنها لم تتلقَ ردًا حتى لحظة نشر هذا الملف.
لا أعرف ما إذا كان إفراج “الجولاني” عن المزيد من الأشخاص وسط الاحتجاجات يتعلق بالخوف، ولكن الأمر الأكثر أهمية هو محاولة الحفاظ على مستوى معين من الاستقرار، إذا تم إدراك أنه قد يؤدي إلى تفاقم الوضع.
آرون زيلين
باحث مختص في شؤون الجماعات الجهادية بشمال إفريقيا وسوريا
آرون زيلين، الباحث المختص في شؤون الجماعات الجهادية بشمال إفريقيا وسوريا قال لعنب بلدي، إنه من منظور الحكم، لن يكون من المنطقي تعريض السلطة للخطر، وهذا الأمر ينطبق على “هيئة تحرير الشام” التي تعاني بالفعل من أزمة احتجاجات.
أما الباحث المتخصص بدراسة الحركات الإسلامية وتحولات “السلفية الجهادية” عزام القصير، فاعتبر أن خروج جميع المعتقلين ستكون له تداعيات على حكم وسلطة “الهيئة”.
ورجّح القصير ألا يكون للمعتقلين الأجانب خطر كبير يهدد سلطة “الجولاني”، نظرًا إلى ضعف قدرتهم على حشد التأييد من جهة، وبسبب وجود رغبة إقليمية ودولية بتحييدهم واستهدافهم مباشرة إن لزم الأمر، وفق حديث عزام القصير لعنب بلدي.
وقال القصير لعنب بلدي، إن الخطر الحقيقي ينبع من المعتقلين ممن هم من خلفيات محلية وممن لديهم القدرة على تحدي شرعية “الهيئة” وسياساتها، مضيفًا أن “الهيئة” تدرك خطر هؤلاء خاصة بعد حملات متتالية من الاعتقالات التي طالت المئات، معظمهم من داخل “الهيئة” وبمناصب متنوعة.
رغم تكرار الحديث عن التعامل مع أطراف خارجية ووجود مؤامرات واختراقات، لم ترشح تفاصيل مؤكدة عن نتائج التحقيقات التي قامت بها “الهيئة”، وبالنتيجة زاد عدد الناقمين على الهيئة والمشككين بروايتها مقابل تزايد الاعتقاد بأن تهم التخابر والتآمر ما هي إلا أدوات لتصفية المخالفين واعتقال معارضي الجولاني والقادرين على تحدي سلطته.
عزام القصير
باحث متخصص بدراسة الحركات الإسلامية وتحولات “السلفية الجهادية”
مستقبل إدلب.. تفاهم أم تصعيد؟
يضع الحراك مستقبل مدينة إدلب أمام عدة سيناريوهات، خاصة أنها شهدت تقلبات وتغييرات عدة منذ خروجها عن سيطرة النظام السوري، في آذار 2015، على يد عدة فصائل شكّلت غرفة عمليات مشتركة حملت اسم “جيش الفتح”.
وتبع ذلك اقتتال فصائلي كسبته “تحرير الشام”، ووسعت نفوذها وقادت دفة الحكم، مع وجود أغطية سياسية وإدارية شكلتها من حكومة “الإنقاذ” عام 2017، و”مجلس الشورى العام” عام 2019.
يرجح الباحث عزام القصير انفجار الوضع داخليًا في مناطق سيطرة “الهيئة” إن استمرت وتيرة الاحتجاجات والتراجع الأمني، ويرى أن “الهيئة” نجحت حتى الآن في التعاطي مرحليًا مع أزمة مناصري حزب “التحرير”، وكذلك قمع المظاهرات الشعبية المتزايدة والمتعددة المطالب، بما فيها استبدال “الجولاني”، لكنها لا تقدم حلولًا مستدامة اقتصاديًا وأمنيًا وحوكميًا.
يشاهد السكان المحليون في إدلب تحول حكم “الهيئة” إلى نموذج دكتاتوري تقليدي يقوم على حكم الفرد المتحالف مع عصبة من رجال الدين والاقتصاد والأمن، ودون وجود أفق أو آليات للتغيير السلمي.
هذا النموذج المغلق الذي يحكم بقبضة حديدية قد يجلب بعض الاستقرار المؤقت لكنه يفتح شهية الطامعين بالسلطة على الانقلاب والتمرد وخلط الأوراق، والنتيجة مزيد من الفوضى التي تجعل حلم الاستقرار والرخاء الاقتصادي وزيادة الاستثمار بعيد المنال.
عزام القصير
باحث متخصص بدراسة الحركات الإسلامية وتحولات “السلفية الجهادية”
ويعتقد الباحث المساعد في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” أسامة شيخ علي، أن الاحتجاجات المناهضة لـ”الهيئة” لن تتوقف بسهولة، فرغم أن مطالب المحتجين محقة، تحمل الاحتجاجات أبعادًا أخرى قد تنظر إليها “تحرير الشام” على أنها أبعاد أمنية.
الباحث معن طلاع يرى أن الحراك في إدلب وما سيعكسه من ردود فعل من قبل “هيئة تحرير الشام” وحكومة “الإنقاذ” ستزيد من حجم التحديات في المنطقة على جميع الصعد، معتبرًا أن الأمور ستبقى مرتبطة باستراتيجية الحراك الثوري من جهة، وطريقة تعاطي “الهيئة” التي تتعامل مع القضية بثلاث أدوات هي الاستيعاب والإصلاحات الحذرة والتلويح بالعنف واستخدامه حين الاضطرار.
من جهته، يرى الباحث في الجماعات “الجهادية” عباس شريفة أن إزالة السلطة في إدلب تتطلب وجود جهاز “تكنوقراط” وقوة توازي قوة “تحرير الشام”، مرجحًا ذهاب الأحداث باتجاه التفاهم والحوار، لأن من المستحيل حسم القضية في الشارع، لافتًا إلى أن معادلة الشارع جيدة لإبراز مستوى القوة.
العنف يغامر باقتصاد إدلب
الحراك يأتي في وقت تعيش فيه المنطقة ظروفًا متردية اقتصاديًا ومعيشيًا، إذ تصل أجرة العامل يوميًا في أحسن الأحوال إلى 100 ليرة تركية (نحو ثلاثة دولارات أمريكية)، بينما وصل حد الفقر المعترف به إلى 10843 ليرة تركية، وحد الفقر المدقع إلى 8933 ليرة.
الباحث المساعد في مركز “جسور للدراسات” المختص بالشؤون الاقتصادية عبد العظيم المغربل، قال لعنب بلدي، إنه في حال استمرار المظاهرات مع قدرة “الهيئة” على احتوائها، لن تحدث تداعيات اقتصادية سلبية كبيرة على المنطقة، بل على العكس، قد تكون الانعكاسات إيجابية على المدى البعيد.
وفسّر المغربل وجهة نظره، بأنه عبر استمرار المظاهرات سيعلم الجميع أن لهم حق الاحتجاج، حتى لو كانوا عمالًا أو تجارًا، وإذا واجهوا إشكالية معينة في المستقبل وأرادوا الاحتجاج، فسيكون لديهم هذا الحق، ما يعزز شعور الاستقرار في المنطقة، وبالتالي تحفيز العجلة الاقتصادية وتنشيطها بشكل جيد وزيادة ثقة المستثمرين.
بينما في حالة حدوث السيناريو الثاني المتعلق بتصاعد حدة الأحداث والعنف، ستتحول الأوضاع إلى نوع من الصدام والمواجهة الطويلة التي قد تؤدي إلى تأثر العديد من الجهات والقطاعات الاقتصادية، بحسب المغربل.
في هذا السيناريو قد يشعر الناس والتجار والمستثمرون بالخوف وعدم الأمان، مما يؤدي إلى تراجع الثقة بالمنطقة كبيئة آمنة للاستثمار والعمل، كما قد يضطر بعض المستثمرين الموجودين حاليًا إلى سحب استثماراتهم أو نقلها، بينما قد يتردد المستثمرون الجدد في الدخول إلى السوق، ما يؤثر سلبًا على النمو الاقتصادي.
كما قد تؤدي الاشتباكات إلى عرقلة أعمال العمال اليومية، ما سيؤدي إلى اضطرابات في الأسواق والأوضاع المعيشية، ما يزيد من حالات الجرائم الاقتصادية مثل السرقة والنهب، وينعكس الأمر سلبًا على النسيج الاجتماعي.
القطاعات الاقتصادية الزراعية والصناعية من الممكن أن تتعطل أيضًا أو تتعرض للتخريب، حيث سيكون هناك ضرر عليها ما يؤدي إلى حدوث ركود في اقتصاد المنطقة، بحسب الباحث المساعد عبد العظيم المغربل.