ما أثر "المحاكمة التاريخية"؟
“قضية الدباغ” تكبل ثلاثة مسؤولين سوريين بمؤبد غيابي
عنب بلدي – هاني كرزي
قضت محكمة فرنسية غيابيًا على ثلاثة مسؤولين في النظام السوري بالسجن مدى الحياة، بتهمة التواطؤ في جرائم حرب، بعد محاكمة وُصفت بـ “التاريخية”، ولا سيما أنها المرة الأولى التي يُحاكَم فيها مسؤول سوري يشغل منصبًا.
المحاكمة استهدفت ثلاثة متهمين، هم المدير السابق لمكتب الأمن الوطني، اللواء علي مملوك، والمدير السابق لـ”المخابرات الجوية”، جميل حسن، والمدير السابق لفرع التحقيق في “المخابرات الجوية”، عبد السلام محمود، على خلفية مقتل فرنسيين من أصل سوري، اعتقلهما النظام عام 2013، وفق ما ذكرته منظمة “الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان”.
وطالبت المحامية العامة أمام محكمة الجنايات في باريس، في 24 من أيار الحالي، بإبقاء مفاعيل مذكرات التوقيف الصادرة بحق المسؤولين الثلاثة مسبقًا.
وتدور القضية التي جرت محاكمة مسؤولي النظام الثلاثة بسببها حول اختفاء سوريين يحملان الجنسية الفرنسية، هما مازن الدباغ وابنه باتريك، اللذان اعتقلهما أفراد إدارة “المخابرات الجوية” في دمشق، منذ تشرين الثاني 2013، إلى أن تلقى ذووهما خبر وفاتهما في السجن عام 2018.
وتتمتع المحاكم الفرنسية بالولاية القضائية على الجرائم المرتكبة ضد المواطنين الفرنسيين أو أولئك الذين يحملون جنسية مزدوجة، وكذلك الجرائم التي يرتكبها مواطنون فرنسيون أو مزدوجو الجنسية، وبالتالي بناء على أساس الجنسية المزدوجة، تم إجراء تحقيق جنائي في فرنسا بقضية عائلة الدباغ في تشرين الثاني 2016، وفق ما أفادت به “الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان”.
رسائل مهمة
رغم صدور قرار من المحكمة الفرنسية بالحكم على المتهمين بالسجن المؤبد، توجد أصوات تقلل من أهمية هذا القرار، كون الحكم كان غيابيًا، والمسؤولون المتهمون موجودون خارج الأراضي الفرنسية.
لكن المحامي المختص بالقانون الجنائي الدولي المعتصم الكيلاني، أكد أنه “رغم أن المحاكمة تجري غيابيًا، نظرًا إلى وجود المتهمين في سوريا، فإنها تظل مهمة من الناحية القانونية، لأنها تستهدف ثلاثة رموز أمنية تابعة لنظام الأسد”.
كما أن هذه المحاكمة تبعث رسالتين إلى المجتمع الدولي، الأولى أن التطبيع مع نظام يرتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية غير مقبول، وأنه بدلًا من إعادة تأهيل هذا النظام، يجب محاكمته، والثانية التأكيد أن تلك الجرائم المرتكبة لا بد من محاسبتها وأن مبدأ الإفلات من العقاب قد انتهى، بحسب الكيلاني.
وأضاف الكيلاني المقيم في فرنسا، لعنب بلدي، “المحاكمة تكتسب أهمية كبيرة، كونها تشكل جزءًا أساسيًا من الجهود المبذولة لتحقيق العدالة السورية المنتظرة للضحايا وذويهم، وتذكيرًا أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم ولا بد من محاسبة مرتكبيها”.
بدوره، أكد المدير التنفيذي لمنظمة “سوريون من أجل العدالة والحقيقة”، بسام الأحمد، أهمية محاكمة مسؤولي النظام في فرنسا ولو غيابيًا، معتبرًا أنها “إحدى المحاكمات التاريخية من أجل تحقيق العدالة”.
وأشار الأحمد، الذي عمل على هذه القضية مع “الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان”، في حديثه لعنب بلدي، إلى أهمية فصل مسار المحاكمة عن التطبيع مع النظام، مرجعًا ذلك إلى أن “الدول التي طبّعت مع النظام لها مصالحها، ولم يكن ملف حقوق الإنسان في الأساس ضمن محددات التطبيع للدول لاعتبارات مختلفة”.
وذكر الأحمد أن “قرار المحكمة ليس قطعيًا لكنه يحمل رمزية كبيرة على صعيد انتصار العدالة، إضافة إلى أن المحاكمة أسهمت في تسليط الضوء على الانتهاكات التي يرتكبها النظام بحق آلاف المعتقلين، وذلك من خلال سماع القاضي الفرنسي شهادات عدة شهود كانوا معتقلين”.
كليمانس بيكتارت، المحامية الفرنسية التي تمثل عائلة الدباغ، علّقت على أهمية المحاكمة بالقول، “إنه أمر تاريخي لأن هؤلاء هم كبار ضباط النظام السوري الذين تتم محاكمتهم”، مضيفة أنه “أمر مهم ليس فقط لعائلة الدباغ، بل للعديد من السوريين الآخرين. وهناك عائلات ما زالت تنتظر أخبارًا عن أحبائها الذين اختفوا قسرًا أو تسلّم جثثهم”، وفق ما ذكرته صحيفة “الجارديان” البريطانية.
كيف سينفذ الحكم؟
بعد صدور قرار بالحكم على الضباط الثلاثة بالسجن المؤبد، يبقى السؤال حول كيفية تنفيذ الحكم في ظل وجود المتهمين في سوريا.
وقال بسام الأحمد، إنه “في حال القبض على المتهمين بعد الحكم عليهم غيابيًا بالسجن المؤبد، تفرض المحكمة الأوروبية على الدول الأعضاء إعادة المحاكمة من الصفر”، مشيرًا إلى أن تلك المحاكمات تعتبر ناقصة بنظر القضاء الأوروبي بسبب غياب طرف الدفاع بشكل كامل.
وأضاف الأحمد أن “إجراء محاكمة حضورية للمتهمين يعتبر أمرًا مستبعدًا، جرّاء عدم وجود احتمال بتسليمهم من قبل النظام السوري أو الدول الحليفة له، ولكن في حال سافر هؤلاء المسؤولون الثلاثة إلى إحدى دول الاتحاد الأوروبي، يمكن لها أن تلقي القبض عليهم بالتعاون مع الإنتربول الدولي وتقديمهم للمحاكمة”.
محاكمة على مدار أيام
جلسات المحاكمة جرت على أربعة أيام، وفق ما رصدته عنب بلدي، كانت أولى الجلسات في 21 من أيار، وجرى خلالها استدعاء الشهود والخبراء وإدلاء أحد الأشخاص بشهادته أمام القاضي، إضافة إلى شهادة الخبير الفرنسي فرانسوا بورجا، ومؤلفة كتاب “عملية قيصر” جرانس لو كازن.
في اليوم الثاني قدمت رئيسة الآلية الدولية المحايدة والمستقلة، كاترين ماركي أويل، شهادتها أمام المحكمة، إلى جانب شهادة فيرونيك ساديس، وهي ضابطة شرطة من مركز مكافحة الجرائم ضد الإنسانية، وشهادة أحد الأشخاص، إضافة إلى عرض عشر صور من ملف “قيصر”، وتُظهر الصور جثث معتقلين هزيلين تبدو عليهم آثار التعذيب.
وشهد اليوم الثالث إدلاء ذوي الضحايا وهما عبيدة الدباغ وحنان الدباغ بشهادتهما أمام القاضي، إلى جانب شهادة مدير “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، مازن درويش، وشخصين آخرين.
أما اليوم الرابع والأخير فشهد مرافعات محامي ذوي الضحايا، ومطالبات من المحامي العام، ثم النطق بالحكم من القاضي.
لماذا لا يُحاكم الأسد غيابيًا؟
في الوقت الذي جرت فيه محاكمة ثلاثة من كبار مسؤولي النظام السوري في فرنسا غيابيًا، تساءل كثيرون عن سبب عدم محاكمة بشار الأسد ولو غيابيًا.
القضاء الفرنسي أصدر، في تشرين الثاني عام 2023، مذكرة اعتقال بحق رئيس النظام السوري، وشقيقه ماهر، واثنين من كبار معاونيه، بتهمة تنفيذ هجمات بالأسلحة الكيماوية على الغوطة الشرقية عام 2013.
مذكرة التوقيف كانت بناء على شكوى جنائية قدمها “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” وناجون من المجزرة، وكانت هذه المرة الأولى التي يتعرض فيها رئيس دولة في منصبه لمذكرة اعتقال في دولة أخرى، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
لكن المحامي المختص بالقانون الجنائي الدولي المعتصم الكيلاني، أفاد أنه وفق القانون الدولي لا يمكن إصدار مذكرة توقيف بحق رئيس دولة على رأس عمله أو محاكمته غيابيًا، لأن ذلك يخالف الاتفاقيات الدولية المرتبطة بالحصانة الدبلوماسية على رؤساء الدول الذين ما زالوا على رأس عملهم.
وأضاف الكيلاني أنه “بناء على ذلك فإن القضاء الفرنسي سيضطر خلال الفترة المقبلة إلى إلغاء مذكرة التوقيف الدولية بحق الأسد، بناء على قرار محكمة الاستئناف، رغم أن قضاة التحقيق في فرنسا عندما أصدروا تلك المذكرة، عللوا ذلك أن ارتكاب مثل تلك الجرائم كاستخدام الأسلحة الكيماوية، يجعل كل القوانين والأعراف المرتبطة بالحصانة تسقط”.
ومع ذلك فإن محامين وجمعيات حقوقية سيحاولون الطعن بقرار محكمة الاستئناف الخاص بإلغاء مذكرة التوقيف بحق الأسد، بحسب الكيلاني.
تفاصيل القضية
محاكمة مسؤولي الأسد الثلاثة في فرنسا، تأتي على خلفية اتهامهم بالتواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، بعد مقتل فرنسيين من أصل سوري في سجون النظام.
ففي منتصف ليل 3 من تشرين الثاني 2013، اعتقلت “المخابرات الجوية” الطالب الجامعي باتريك الدباغ من منزله في منطقة المزة بدمشق.
وفي اليوم التالي تم اعتقال والده مازن، حيث اتهمه الأمن بالفشل في تربية ابنه بشكل صحيح، وقالوا له، “سوف نعلمك كيفية تثقيفه”، لكن لم يتم ذكر سبب محدد لاعتقالهما.
وبعد ذلك انقطعت الأخبار عنهما إلى أن تم الإعلان عن وفاتهما في آب 2018، وفق ما ذكرته “الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان”.
ووفقًا للوثائق التي تلقتها العائلة، توفي باتريك في كانون الثاني 2014، بعد فترة وجيزة من اعتقاله، بينما توفي والده مازن بعد نحو أربع سنوات، في تشرين الثاني 2017.
في تشرين الأول 2016، أحيلت القضية إلى وحدة جرائم الحرب الفرنسية، بعد رفع دعوى من عبيدة الدباغ (شقيق مازن الدباغ)، بالتعاون مع “الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان”، والرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان، وبعد شهر فتح المدعي العام تحقيقًا قضائيًا، وتم تعيين ثلاثة قضاة للتحقيق في القضية، ليبدأ عبيدة الدباغ بالإدلاء بشهادته كطرف مدني بالقضية، تلا ذلك صدور مذكرة توقيف بحق أولئك المسؤولين في تشرين الثاني 2018.
وبعد ثلاث سنوات من صدور المذكرة، قُبل “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” كطرف مدني بالقضية، من خلال تقديم عديد من الأدلة والشهود، بمن في ذلك من مديره العام، مازن درويش، الذي اعتُقل وزملاؤه في فرع التحقيق التابع لأجهزة “المخابرات الجوية” عام 2012.
كذلك طُردت زوجة مازن الدباغ وابنته من منزلهما في دمشق الذي استولى عليه مدير التحقيق السابق في فرع “المخابرات الجوية”، عبد السلام محمود، ونص الاتهام الذي صدر عن المحكمة الفرنسية لاحقًا على أن هذه الوقائع “من المرجح أن تشكل جرائم حرب وابتزاز وتمويه”.
ولا تعتبر قضية “عائلة الدباغ” الوحيدة التي يتابعها القضاء الفرنسي، إذ ينظر بموجب “الولاية القضائية العالمية” بأكثر من 40 ملفًا، من أبرزها قضية مجدي نعمة (المعروف بإسلام علوش)، وهو الناطق السابق باسم فصيل “جيش الإسلام”، المتهم بـ”ارتكاب جرائم دولية ممنهجة” ضد المدنيين الذين عاشوا تحت حكم الفصيل، من عام 2013 حتى عام 2018، وما زالت القضايا قيد الدراسة من قبل السلطات الفرنسية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :