عنب بلدي – ريم حمود
“كنت أستعمل بطاقة الحماية المؤقتة (الكملك) الخاصة بأطفال آخرين لمعالجة أطفالي بالمستشفيات الحكومية”، قالت اللاجئة السورية نور، وهي أم لثلاثة أطفال، شارحة لعنب بلدي أحد الحلول التي خاطرت باتباعها مبررة ذلك بغياب الأوراق الثبوتية القانونية التي تسمح لأطفالها البقاء بتركيا والدخول إلى المؤسسات الحكومية، كونهم غير خاضعين لقانون “الحماية المؤقتة” الذي يقيم على إثره اللاجئون السوريون في تركيا منذ إقراره في نيسان عام 2014.
تتراوح أعمال أطفال نور (تحفظت على ذكر اسمها الكامل لمخاوف أمنية) بين التسعة أشهر وحتى الخمس سنوات، لكنهم ليسوا الوحيدين الذين وُلدوا في تركيا منذ سنوات وما زالوا بلا هوية.
وفي الإطار نفسه، رصدت عنب بلدي قصصًا لسوريين مشابهة لقصة الشابة نور، ويواجهون تحديات عدة إثر ما تركه غياب “الكملك” من آثار على حياة الأطفال وعائلاتهم، في ظل عدم معرفتهم الحلول المتبعة لاستخراج البطاقة لأطفالهم.
حرمان من “حق الطفولة”
خلق غياب “الكملك” مشكلات عدة، أبرزها حرمان الأطفال من حقوقهم الطبيعية بالوصول إلى التعليم والصحة واللعب والاندماج بالمجتمع، لأسباب تشابهت في معظمها لدى العائلات السورية التي تواصلت معها عنب بلدي خلال إعداد التقرير.
وتنص اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة، على أن لكل طفل الحق بأن تكون له هوية خاصة به، ولا يجوز لأي أحد أن يحرم الأطفال منها، وإن حرموا يجب على الحكومات مساعدتهم لاستعادتها، كما يجب ضمان وصولهم إلى التعليم وأفضل رعاية صحية.
وفي ظل أزمة الأوراق الرسمية التي يعاني منها السوريون في تركيا، قالت العائلات التي التقتها عنب بلدي، إن ارتفاع تكاليف معاينة الأطباء بالعيادات أو المراكز الصحية الخاصة، أجبرهم على اللجوء إلى طرق “غير قانونية”، ومن بينهم اللاجئة نور، إذ على الرغم من معرفتها أن استعارة “كملك” طفل آخر ممنوع، إلا أن ظروف أسرتها المالية المتدنية دفعتها نحو هذا الخيار قبل عام.
وجدت السورية هبة (27 عامًا) في المراكز الصحية السورية، التي تقدم خدماتها بأسعار “مرتفعة”، كما وصفتها، مكانًا بديلًا عن المستشفيات والمراكز التركية التي تشترط امتلاك اللاجئ السوري “الكملك” لخضوعه للعلاج.
وتابعت هبة ابنة العاصمة السورية دمشق (تحفظت على ذكر اسمها الكامل لمخاوف أمنية)، أن تكلفة المعاينة والتحاليل تصل إلى 1500 ليرة تركية (45 دولارًا أمريكيًا) في كل مرة تأخذ طفلها للعلاج.
هذه التكاليف تضع العائلة تحت ضغط اقتصادي، لكن لا حل آخر أمامهم، فطفل هبة يبلغ من العمر عامًا ونصف العام، وهو مريض بـ”الربو التحسسي” وبحاجة إلى متابعة مستمرة، وفق حديث هبة التي دخلت إلى تركيا عام 2020.
كيف سأدرس طفلي؟
تلزم تركيا العائلات بتقديم الأوراق الثبوتية للطفل عند تسجيله بالمدارس الحكومية إن كان لاجئًا أو مواطنًا أصليًا، ويعد ذلك من الشروط الأساسية، وفي حال غيابها لا يمكن للطفل الالتحاق بالمدرسة.
هذه المشكلة لم تغب عن نور ابنة مدينة حلب، إذ ترددت خلال الأشهر الأخيرة على أكثر من روضة سورية وتركية لتسجيل طفلها البالغ من العمر خمس سنوات، لكن في كل مرة يطلب “الكملك” كشرط للقبول، وهو بمنزلة صدمة للعائلة التي لم يبقَ أمامها سوى تسجيله بالقطاع الخاص.
وبعد عجز العائلة عن العثور على روضة خاصة تكلفتها متدنية، قررت تأجيل التسجيل وجمع المال لوضع الطفل العام المقبل بالصف الأول الابتدائي، اعتمادًا على الراتب الشهري لزوجها الذي لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور في تركيا، في الوقت الذي تبلغ رسوم الفصل الدراسي 16 ألف ليرة تركية، بحسب نور.
إيجاد عائلة نور المقيمة في اسطنبول الحل المؤقت لمستقبل الطفل التعليمي، لم ينجح مع براءة، التي تسعى منذ أشهر للعثور على مدرسة خاصة لطفلها البالغ من العمر ست سنوات وأسعارها متوافقة مع قدرة العائلة.
تساءلت براءة (24 عامًا) عن الطريقة التي يجب أن تتبعها لمنح طفلها حق التعليم مثل جميع الأطفال، إذ طرحت استفسارات خلال حديثها لعنب بلدي، “كيف سأدرس طفلي وسط هذه الظروف المعيشية؟ هل يوجد حل بديل عن القطاع الخاص؟”.
براءة تنحدر من مدينة صوران بمحافظة حماة، ولجأت إلى تركيا للزواج من أحد أبناء مدينتها عام 2018، لتتوقف تركيا عن منح “الكملك” للسوريين القادمين بعد دخولها بأيام، ما سبب بقاءها مع طفلها دون “كملك” حتى الآن، بحسب قولها.
وتغيب الإحصائيات الرسمية عن أعداد الأطفال السوريين المتسربين من المدارس ممن هم غير خاضعين لنظام “الحماية المؤقتة”، لعدم وجود أي بيانات تخصهم لدى الدولة.
وفي الوقت نفسه، أظهرت إحصائية حكومية في تركيا، في 17 من كانون الثاني 2023، تسرب نحو ثلث الأطفال السوريين في سن الدراسة عن المدارس، دون ذكر الأسباب، لكن مع الإشارة إلى وجود حالات “تنمر” يواجهونها في المؤسسات التعليمية، كما صرح الأمين العام لاتحاد المعلمين في تركيا، لطيف سلفي، بداية 2023، أن من 65% إلى 70% من الأطفال السوريين في سن الدراسة تلقوا تعليمهم في تركيا.
“سجن مفتوح”
الأشخاص الذين التقتهم عنب بلدي، أكدوا أن خوفهم من الترحيل يزداد كل ليلة، وخاصة مع التضييق الأمني الذي يرافق اللاجئين السوريين في تركيا منذ تموز 2023، وتصاعد الخطاب السياسي المناهض لوجودهم في البلاد.
هذا الخوف انعكس على حياة الأطفال والأسرة، فالشابة براءة انتقلت إلى مدينة بورصة منذ وقوع الزلزال في شباط 2023 الذي ضرب جنوبي تركيا وتأثرت به 11 ولاية وعدة مدن سورية، لتصبح حركة تنقلها مقيّدة أكثر من مدينة هاتاي حيث كانت تقيم سابقًا، ووصفت المشهد بـ”السجن المفتوح” وبقيت بداخله مع طفلها دون أي أوراق تثبت هوياتهم في تركيا.
ذهاب براءة وطفلها لحديقة الأطفال أو مدينة الملاهي أو السوق يعتبر “حالة نادرة”، مع ازدياد انتشار الشرطة التركية للتدقيق على أوراق المارة، ما أدى إلى حرمان طفلها من حقه بالإحساس بأنه كبقية الأطفال يستطيع أن يلعب ويلهو، وفق الشابة.
وعرّفت رئاسة الهجرة التركية قانون “الحماية المؤقتة” الذي يعيش بموجبه السوريون في تركيا بطريقة شرعية، على أنه شكل من أشكال “الحماية”، طورته تركيا لإيجاد حلول فورية في حالات التدفق الجماعي للاجئين.
اندماج الطفل بالمجتمع
غياب الأوراق الرسمية وخوف العائلة من خطورة ترحيل أطفالهم، بحسب ما شرحته الباحثة الاجتماعية وضحة العثمان، لعنب بلدي، سيترك آثارًا واضحة على الطفل ما يجعله محرومًا من الاندماج بالمجتمع المحيط.
أوضحت العثمان أن الوعي لدى الأطفال لا يأتي بالمرحلة الأولى من العمر، إذ يبدأ بالوقت الذي يفهم فيه الطفل ما تعنيه الأوراق الرسمية أو عند دخوله للمدرسة وإحساسه بأنه مختلف عن الآخرين، أما قبل ذلك فيكون تأثير غياب امتلاك الثبوتيات منعكسًا على عائلة الطفل.
“عند وعي الطفل بأنه بلا هوية تبدأ مشاعر القلق والخوف تزداد لديه ما يؤدي إلى انعكاس ذلك على شخصيته، إذ إن عدم الارتياح قد يحول تلك المشاعر إلى عدوانية”.
وضحة العثمان
باحثة اجتماعية
حلول لتسجيل الأطفال
العائلات الثلاث التي تحدثت معها عنب بلدي، أكدت عدم استخراجها دفتر عائلة سوريًا لأسباب غير واضحة بالمجمل، فمنها من كان أفرادها على اطلاع غير كافٍ بالإجراءات المطلوبة لاستصداره، في حين أن بعضهم يعتبره إجراء غير مهم كونهم يعيشون خارج البلاد منذ سنوات.
مديرة التواصل في اللجنة السورية- التركية المشتركة، إناس النجار، قالت لعنب بلدي، إنه ببداية وقف منح بطاقة “الحماية المؤقتة” عام 2018، سمحت رئاسة الهجرة التركية للعائلات المقيمة في اسطنبول ويوجد أفراد منهم لا يملكون “الكملك” خيار التبصيم بولاية أخرى، والتقديم بعدها على طلب بلم شمل الأسرة للنقل للولاية نفسها بغرض تسوية أوضاع جميع أفرادها.
وبعد مدة قصيرة، أوقفت دائرة الهجرة هذه الطريقة، لتتبع وضع العائلات ضمن مخيمات خاصة بالسوريين لدراسة حالتهم وإن كانت تستوجب الحصول على “الحماية” أم لا، وفق النجار.
وأوضحت النجار لعنب بلدي، أن أكثر من يعاني الأشخاص الذين يتزوجون حديثًا، ولا يملكون دفتر عائلة سوريًا، ولا يرغبون بالذهاب إلى القنصلية السورية لاستخراجه، ما يؤدي إلى غياب دليل يثبت زواج الفتاة، وخاصة إن كانت لا تحمل بطاقة “الحماية المؤقتة”.
اللجنة السورية- التركية المشتركة، قدمت مقترحًا لدائرة الهجرة التركية حول إيجاد حل لمنح السوريين “كملك” لتسجيل أطفالهم، وذلك قبل الانتخابات الرئاسية في أيار 2023، لتوافق عليه الهجرة مؤخرًا وتبدأ العمل عليه، وفق النجار.
الخطوة الأولى من العملية تبدأ بتثبيت الزوج طفله بدائرة النفوس التركية، لتسحب دائرة الهجرة التركية “الكملك” منه وتمنح وثيقة أولية للأم السورية لفترة زمنية تبلغ قرابة الشهرين، تستطيع من خلالها تثبيت الزواج بالمحكمة، وتسجيل قيود للأطفال، تليها خطوة حصولهم على بطاقة “الحماية المؤقتة”، ويُعاد بعدها “الكملك” للزوج بشكل طبيعي دون وقوع أي مشكلات.
وأشارت النجار خلال حديثها لعنب بلدي، إلى أنه في حال لم تثبت العائلة الزواج خلال فترة الوثيقة الممنوحة للزوجة، تلغى صلاحيتها دون منحها “الكملك” الذي كانت ستستخرج بطاقات “الحماية” للأطفال بناء عليه.