“أنبياء” و”قديسون”.. ومرتزقة

  • 2024/05/19
  • 12:29 م
غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

يسخر السوريون المعارضون عادة من خصومهم على جبهة الممانعة، ومن قولهم إن طريق القدس يمر من حمص ومن حلب، لكن أحدًا لم ينبس ببنت شفة ممن يفترض أنهم معارضون، إلا قلة منهم، حول جيشهم “الوطني”، الذي لم يخض حربًا أو مواجهة حقيقية ضد النظام وميليشياته بعد، وهو لن يخوضها أبدًا بالمناسبة، وقد كان له السبق في اكتشاف الطريق إلى دمشق الذي لا بد أن يمر من سوتشي وأستانة! ثم ينعطف نحو أذربيجان ليكمل مسيرة التحرير فيها! ولينطلق بعدها إلى غرب ليبيا لخوض مواجهات مع شرقها تبدو غاية في الضرورة قبل الانطلاق لتطهير جيوب الإرهاب في دولة النيجر الإفريقية المترامية الصحاري، باعتبارها الحديقة الخلفية للمجال الحيوي لمصالح السوريين المتمددة، عبر دول معظمنا قرأ اسمها على الخرائط لا أكثر!

الحقيقة أن السخرية والازدراء، بل والاحتقار، الذي يجب علينا التعبير عنه تجاه “مرتزقتنا” أولى وأهم من أن نوجهه لخصومنا، ذلك أننا أعلنّا ثورة على سلطة استبدادية امتهنت الإجرام بحق شعبها واتخذته وسيلة لإخضاعه ونهبه وإفقاره، وحمل بعض من يفترض أنهم معارضون أو ثوار السلاح رغم أنوفنا ليخوضوا مواجهة معه، بزعم الدفاع عنا وحمايتنا من بطش السلطة وسفالتها، لنكتشف بعد ذلك أن هذا السلاح اتُخذ بدوره وسيلة لإخضاعنا مجددًا، وفقًا لمقتضيات سياسات الداعمين والمغدقين بهذا السلاح وبالكثير من المال، ليتكرس كسلاح وظيفي لخدمة أجندات وسياسات ومصالح تلك الدول على أرضنا وبين بيوتنا وحقولنا.

الشعب السوري دفع كله ثمنًا غاليًا لحرية لم يتحصل عليها، وما حصده من ذلك ليس سوى قتل متعجل بالقصف، وموت بطيء ومؤلم بالمعتقلات، وتدمير هائل للمدن والأحياء والبنى التحتية، ليفتح قبضته، فإذا هي خاوية إلا من الفقر والعوز والتهجير، وكل ذلك لأن طاغية يأبى التنازل عن المزرعة التي يرتع بها، ولأن مناهضيه رهنوا أنفسهم ومصاير السوريين لمحض مصالح دول، فجعل كلاهما من سوريا مسرحًا لصراع المصالح والقوى الدولية والإقليمية، ليس من بينها أي مصلحة لأي سوري فيها.

ما الذي تفعله بنادق من سموا أنفسهم “جيشًا وطنيًا” في النيجر، وما مصلحتنا هناك؟ وما كانت مصلحتنا أصلا كسوريين في أذربيجان أو في ليبيا؟ هل وجودنا هناك يخدم قضيتنا الوطنية بأي شكل من الأشكال، أم هي محض ارتزاق وامتثال لموجبات خدمة مصالح الآخرين لا أكثر؟

ليست الوضاعة والخسة في أن تكون مرتزقًا فقط، وتقاتل في غير حيزك الوطني الذي لأجل تحريره من سلطة القتل والإبادة حملت هذا السلاح، بل إن الخسة والضّعة بلغت مبلغًا تجعلك تقبل أن تقاتل إلى جانب المرتزقة الروس الذين أعملوا في أجساد أبنائنا أحدث أسلحتهم، وجربوا فيهم عشرات من أنواع الأسلحة الحديثة لاختبار فعاليتها، في معارك دعم سلطة العصابة على السوريين، الذين زعمت دفاعك عنهم. حقًا إن ما نراه وما نسمع عنه هو من مهازل أقدار السوريين ومن كارثية المشهد السوري ومآلاته.

هل بقي شيء من جرائم وارتكابات الأسد لم يستنسخه معارضوه ويمارسوه على من قدّر لهم قدرهم أن يكونوا تحت سلطة هؤلاء القتلة الفجرة، سواء من فصائل “الجيش الوطني”، أو من فصيل “جبهة النصرة”. هل هذا هو المنتظر وهل هذا هو مآل التضحيات التي قدمها السوريون، أن تسفح تحت أحذية متطرفين ومرتزقة؟

بكل أسف نعم هذا هو المآل، وأكاد أجزم أن تلك هي ملامح المشاهد الأخيرة من المسرحية العبثية السورية التي استخدم فيها الكثير من الممثلين و”الكومبارس”، واستهلكت الكثير من الأقنعة ومساحيق التجميل، وآن أوان إسدال الستار على عرض صار مملًا ولم يعد يحقق الإيرادات المأمولة.

ما كدت أنهي سطوري هذه حتى صفعني أحد الفيديوهات على إحدى منصات وسائل التواصل الاجتماعي، يقول فيه أحد المطبلين إن قادة “الجيش الوطني” هم أنبياء وقديسون، بل هم ملائكة تمشي على الأرض! والحقيقة أن هذا الفيديو لا يؤكد فقط مستوى الضحالة والجهالة وتهافت الخطاب والتردي القيمي الذي بلغناه، بل يعزز قناعتي بقرب انتهاء هذا العرض المسرحي القميء السمج، بعد أن تكرس وتعزز لدى كل الدول العربية والإقليمية، بل والمجتمع الدولي عمومًا، أن هذه المسوخ لا يمكن لها بأي حال أن تكون بديلًا عن سلطة العصابة الحاكمة في دمشق، لأنهم محض أدعياء ومهرجين وهواة سياسة ولا يمكن أن يكونوا رجال دولة قطّ.

قلتها مرة على الهواء مباشرة عبر شاشة “أورينت”، وأنا أكررها اليوم دون أن أكتبها احترامًا لسياسة التحرير في الصحيفة، لكن جمهور المتابعين والمشاهدين والقراء يعرفون تلك العبارة جيدًا، وأترك لهم حق استعمالها وتداولها في كل وقت وحين، لأني أعتقد أنها عبارة موجزة تعبر عن مجمل فجيعتنا وهزيمتنا.

سأختم بالقول إنه في عام 2004، إن لم تخني الذاكرة، ساءني تصريح لفاروق الشرع ربما جاء على خلفية الحراك الديمقراطي والمنتديات، قال فيه “إن المعارضة السورية لا تستطيع إدارة مدرسة ابتدائية”، فأرعدت وأزبدت وكتبت مقالًا في إحدى المجلات انتقدت فيه تصريحه، لكني حقيقة أعترف الآن أن هذا الرجل كان لديه بعد نظر، ورؤية متبصرة بواقع الأشياء، وبالتالي فأنا مدين له باعتذار علني، ها أنا ذا أقدمه اليوم بكل قناعة ورضا.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي