خطيب بدلة
إذا قال لك زيدٌ من الناس إن الإسلاميين يعشقون طه حسين، لا بد أن تندهش، وتتلعثم، وتتساءل، باللهجة الشامية الأصلية: شو هالحكي؟ شو عدا ما بدا حتى يعشقوه؟
عندما لمع نجم المفكر طه حسين، قبل حوالي مئة سنة، بكتابه “في الشعر الجاهلي”، الذي اعتمد فيه على مبدأ الشك الديكارتي، استلمه الإخوة الإسلاميون “عشرة بلدي”، لم يتركوا عليه سترًا مغطى، قالوا إنه مستشرق، ومتفرنج، وماسوني، وحامل معول الهدم لثقافتنا، وتراثنا، وهويتنا الإسلامية، حتى إن مصطفى صادق الرافعي كان يطلق عليه لقب: المستر طه حسين! واستمروا، يا سيدي، في اضطهاده، حتى أجبروه على سحب كتابه من التداول، بعد حذف الفقرات الصادمة منه، وتغيير عنوانه إلى “الأدب الجاهلي”، فأصبح وكأنه كتاب آخر.
ولكن، لماذا أحبوه الآن؟ لهذا قصة ظريفة، ملخصها أن مجموعة من الكتاب والمفكرين المصريين، ومعهم الباحث السوري فراس السواح، قرروا أن يُحدثوا مركزًا ثقافيًا تنويريًا في مصر، عنوانه “تكوين”، مهمته، كما صرح مؤسسوه، نقد الفكر السائد، ومراجعته.. ومنذ اللحظات الأولى لتأسيس المركز، قامت قيامة الإسلاميين ولم تقعد، وبدأوا يعلنون للرأي العام بأن المشاركين في هذا المركز، إبراهيم عيسى، وإسلام بحيري، ويوسف زيدان، ووو.. ليسوا سوى ملاحدة مارقين، وأن هذا المركز بالذات، على الرغم من الشعارات البراقة التي يطرحها، عبارة عن مركز لنشر الإلحاد، فما على الدولة المصرية إلا أن تبادر إلى محاربتهم، وإغلاق مركزهم، لسبب نبيل للغاية، هو أن تبقى مجتمعاتنا العربية الإسلامية ترفل بنعمة الإيمان إلى الأبد.
وزاد اثنان من مؤسسي مركز “تكوين”، هما يوسف زيدان وفراس السواح، الطين بلة عندما قال أحدهما للآخر: أنت أهم من طه حسين، فرد عليه الآخر: وأنت أهم منه أيضًا، فما كان من الإسلاميين إلا أن أخذتهم الحمية، وزعلوا على طه حسين زعلًا شديدًا، لأسباب عديدة، منها أن الرجل مات، ولا تجوز عليه غير الرحمة، وثانيها أن هناك أخبارًا كثيرة تقول إنه تراجع عن أفكاره الإلحادية، في آخر حياته، وعاد إلى دينه، ولهذا يهاجمه هؤلاء الملاحدة الجدد.
إذا أردتَ، عزيزي القارئ، أن تبحث عن المضحكات في هذه “الهُلّيلة”، لوجدتها كثيرة، أولها أن هذا كله حصل فور الإعلان عن إحداث مركز “تكوين”، أي قبل أن نعرف خيره من شره، كما يقول المثل، وثانيها أنهم دافعوا عن طه حسين الذي يمكن اعتباره الأب الروحي لمركز “تكوين”، ولم يقبلوا توضيح زيدان وسواح بأن كلامهما عنه محض مزاح، وثالثها أن نصف القرن الماضي شهد تأسيس مئات الصحف، والمجلات، والإذاعات، والمحطات الفضائية الإسلامية، المتخصصة بالسيرة النبوية، والفقه الإسلامي، تصدرها العشرات من المشايخ والدعاة والمبشرين، وقد احتلت هذه الأجهزة الساحات الثقافية والإعلامية والفكرية العربية، ولم يطالب أحد بإغلاقها، على الرغم من أن بعضها كانت تدعو إلى محاربة حرية العقيدة، تحت بند “محاربة الإلحاد”، وأفتى بعضها بالجهاد خارج حدود الأوطان، حتى إن شيخ الأزهر تباهى بذلك عندما قال: حينما تمسكنا بديننا كانت لنا رجل في الصين ورجل في الأندلس!