شهدت مدينتا بنش وجسر الشغور بريف إدلب حوادث اعتداء من عناصر يتبعون لـ”هيئة تحرير الشام” على متظاهرين، خلال مطالبهم بإسقاط “أبو محمد الجولاني”، سبقتها بثلاثة أيام حادثة فض اعتصام بالقوة، وإزالة خيمة للاحتجاج وسط إدلب.
حوادث اعتداء على يد العسكر تصدّرت المشهد الإعلامي، وذكّرت بممارسات قوات النظام مع المظاهرات السلمية في سوريا مطلع الثورة عام 2011، قوبلت برواية مغايرة من “الهيئة” ومظلتها السياسية “الإنقاذ” مفادها أن متظاهرين بدؤوا بالاعتداء أولًا.
هذه الحوادث جاءت بعد ثلاثة أشهر من الحراك، وخلقت حالة غضب وإدانة واستنكار، زاد حدتها تحذير “الجولاني” للمحتجين قبل يومين، بعدم تجاوز “الخطوط الحمراء”، معتبرًا أن إدلب دخلت مرحلة جديدة، لأن المطالب انحرفت عن مسارها.
روايتان للاعتداء
قبل المظاهرات اليوم، الجمعة 17 من أيار، نصبت “تحرير الشام” حواجز عسكرية على الطرقات الرئيسة وأبرز “الدوارات” لمنع وصول المتظاهرين من الأرياف إلى مركز مدينة إدلب.
واعتدى عناصر بالهراوات على متظاهرين في جسر الشغور غربي إدلب، وأطلقوا الرصاص بالهواء، بينما اعتدى عناصر على متظاهرين في مدينة بنش، بالحجارة والغازات المسيلة للدموع، وحاولوا دهس متظاهرين بآليات عسكرية.
في المقابل، ذكر إعلام “الهيئة” الرديف عكس الرواية، وقال إن متظاهرين اعتدوا على مقاتلي الجناح العسكري في أطراف مدينة إدلب بالضرب والحجارة، وإن هناك أكثر من ست إصابات بعضها خطيرة.
تناقض الحديث كان حاضرًا أيضًا في 13 من أيار الحالي، حين وقعت حادثة اعتداء من عناصر يتبعون لـ”تحرير الشام” بالأيدي والهراوات على محتجين في خيمة احتجاج وسط مدينة إدلب، وأطلقوا النار في الهواء، وأزالوا الخيمة.
من جانبها، قالت وزارة الداخلية في حكومة “الإنقاذ”، إن الاعتداء بدأ من المعتصمين على وجهاء بالمنطقة، تبعه تدخل “الأمن العام”.
“الجولاني” يحذر والجناح العسكري معه
في 15 من أيار الحالي، قال “أبو محمد الجولاني”، إن “الهيئة” حذرت سابقًا من أن أي مساس بالمصالح والقواعد العامة هو “تجاوز لخطوط حمراء”، وإن السلطة ستتحرك لمواجهة هذا الأمر.
وذكر أن معظم مطالب المحتجين لُبيت، وبقي البعض منها، لكن المطالب انحرفت عن مسارها الحقيقي، وتحولت إلى حالة من التعطيل للمصالح العامة، وذلك خلال لقائه مع وجهاء ورجال دين من إدلب.
وأضاف “الجولاني” أن إدلب قد دخلت في مرحلة جديدة، ويجب أن يعود “المحرر لانتظامه”، وقد انتهى وقت المطالب، ولن يسمح بأن تعود حالة الفوضى والتشرذم، حسب تعبيره.
“الجولاني” قال إن “الهيئة” استخدمت خلال الأشهر الثلاثة الماضية “لغة الحوار”، ولديها 50 “كرتًا” (بطاقة) لم تستخدم واحدًا منها، مضيفًا أن “من هان عليه المحرر فقد هان علينا، ولن نتهاون مع أي شخص أو تجمع أو حزب أو فصيل يريد إيذاء المحرر”.
قيادي عسكري في “تحرير الشام“، قال عبر تسجيل مصور موجهًا كلامه إلى المتظاهرين، إن المقاتلين في الجناح العسكري قد التفوا حول قيادتهم المتمثلة بـ”الجولاني” و”مجلس الشورى”، وهم مع الإصلاحات الجارية، وإن كان المتظاهرون صادقين فلينتهجوا نهج المقاتلين، حسب قوله.
ما السيناريوهات؟
خلال الأشهر الثلاثة الماضية، كثّف “الجولاني” ظهوره ووعوده بالإصلاحات، وجرى تنفيذ بعضها، من عفو عام عن المعتقلين وفق شروط، وإعادة تشكيل “جهاز الأمن العام” ضمن وزارة الداخلية في حكومة “الإنقاذ”، ويجري العمل على تشكيل “مجلس شورى” جديد.
ولم يتطرق “الجولاني” إلى مطالب إسقاطه، إلا في دقائق معدودة من اجتماع له مع وجهاء في آذار الماضي، حين قال إن “المحرر لا يمكن أن يسير دون قيادة، ولا يوجد خلاف على السلطة، تستطيعون الاتفاق على شخص تسمعون له أغلبكم بنسبة 60 و70%، وأنا معه، وأسلمه كل ما عندي”.
انتهى الاجتماع حينها بمبايعة الحاضرين لـ”الجولاني”، ما اعتبره المتظاهرون “تفردًا بالسلطة، وعرضًا جبانًا وشكليًا”، مع انتقادات بأن المنطقة كانت تسير على ما يرام قبل سيطرة “الجولاني” على مقاليد الحكم.
الباحث في الجماعات “الجهادية” عرابي عرابي، يرى أن الوضع في مدينة إدلب يتجه نحو التعقيد، وأن إصرار الطرفين “الهيئة والحراك” على العناد، سيؤدي الى مزيد من الاضطرابات، وفي النهاية إلى التصادم، وكلاهما يرى أن التصادم هو السبيل الأقصر لحل المسألة، وهذا السيناريو قد يحمل شيئًا من الصواب، لكن جزءًا كبيرًا منه محفوف بالمخاطر.
وقال عرابي لعنب بلدي، إن دائرة الحراك لم تتوسع أفقيًا وعموديًا إلا قليلًا، وقادة الحراك يصرون على مطالبهم، ويرفضون التفاوض مع وجود “الجولاني” أو “الأمن العام”، وهو أمر مستحيل، لأن “الجولاني” مطلوب ومصنف ويبني مجدًا شخصيًا ومؤسسيًا مع تحالفات واسعة وعريضة من قطاعات مختلفة داخل إدلب، ويبنيها منذ سنوات.
ويرى عرابي أن من غير الممكن أن يسلّم “الجولاني” أو أن يتراجع للخلف، لأن تراجعه سيدفعه لاستخدام الحيلة والدهاء والمكر والدس هنا وهناك، وهذا الأمر سيصعب المهمة عليه أكثر.
وفي شرحه لسيناريو التصادم، أضاف الباحث أن قيادة الحراك تدفع للمواجهة وتريد التصعيد، حتى يحدث احتكاك، وبالتالي تعاطف شعبي أكثر وازدياد أعداد المتظاهرين، وزيادة الضغط الشعبي على “هيئة تحرير الشام”.
في المقابل، ترى “تحرير الشام” أنه في حال حصول تصادم وظهور أن الطرف المعتدي هم المتظاهرون، فالعسكريون سوف يتكاتفون مع قيادة “الهيئة” من جهة، وسيرى الشعب أن التظاهر يهدد المنطقة ويخلق فوضى من جهة أخرى، وسينظرون إلى الحراك على أنه لا يتجاوب مع الإصلاحات وحلول التفاوض، ويخسر الحراك التعاطف الشعبي، وفق الباحث.
ويعتقد عرابي أن “الجولاني” يعوّل على مشهد تعاطف الناس وتكاتفهم مع العسكريين، ورفضهم لتخريب المنطقة أو إدخالها في “معمعة اقتتال”، وتريد “الهيئة” أن تضع قيادة الحراك تحت هذا الضغط.
السيناريو الآخر وفق الباحث، هو طريق التفاوض واتفاق على ما يشبه “الدسترة”، يعني أن يكون لـ”الجولاني” صلاحيات، وتُنزع منه صلاحيات، وغير ذلك ستذهب الأوضاع إلى التدهور.
ويرى الباحث أن السيناريوهات المطروحة تبقى في دائرة الخطأ والإصابة لأن قيادة الحراك و”تحرير الشام” سوف يضغطان على بعضهما، ولا أحد يعرف “كيف ستكبر كرة الثلج عندما يصبح هناك دماء واحتكاك”.
“نظام رئاسي” في إدلب
نشأت “تحرير الشام” في سوريا تحت مسمى “جبهة النصرة” نهاية عام 2011، وهي فصيل تميّز بخروجه من رحم “القاعدة”، أبرز الفصائل “الجهادية” على الساحة العالمية، وأعلنت لاحقًا انفصالها عن أي تنظيم، واعتبرت نفسها قوة سورية محلية.
ولا يزال “أبو محمد الجولاني”، وهو القائد العام لـ”تحرير الشام”، مُدرجًا ضمن المطلوبين لأمريكا، وبمكافأة تصل إلى عشرة ملايين دولار أمريكي لمن يدلي بمعلومات عنه.
وأوضح باحثون وخبراء في الحوكمة خلال ملف سابق أعدته عنب بلدي، أنه يمكن تجاوزًا وصف منظومة الحكم بشكل عام في إدلب بأنها نظام رئاسي في كل القنوات التنفيذية والتشريعية والعسكرية، مردها إلى عصب “أبو محمد الجولاني”، الذي يحاول من جهته أن يبني هذه السلطات، ويتضح أنه يمسك خيوط اللعبة بشكل كامل من ناحية اتخاذ القرار.
واعتبر الباحث في شؤون الحوكمة باسم حتاحت، أن هناك عدة سلبيات لهذا الشكل في الحكم (مركزية القرار)، أبرزها أنه غير مقبول إقليميًا أو محليًا أو دوليًا، وهو ما يسمى بالدولة أو المنطقة غير المستقرة أو المشتعلة، التي تكون عرضة للمحاربة من قبل المحيط أو الإقليم أو المشروع الدولي ككل.