جريدة عنب بلدي – العدد 54 – الأحد – 3-3-2013
نقد ثقافة الاستهلاك وانتشاره في المجتمع ليس جديدًا، لكن عندما تخبرنا واحدة من الدراسات الحديثة أن إستهلاك المواطن العربي في الإمارات والكويت وقطر بات أكثر من استهلاك المواطن الأمريكيّ نفسه! وأنّه بات الرقم واحد في معدّلات الاستهلاك العالميّة فهذا يعني أن الموضوع بات يعنينا أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
تتبنى الدراسة معيارًا جديدًا لقياس مدى الضرر الذي يلحقه فردٌ ما في البيئة، وهو ما سمّته الدراسة بـ «البصمة البيئيّة»، والتي تعني مساحة الأرض اللازمة لتأمين حاجيات الفرد من الموارد الطبيعيّة، والقادرة أيضًا على امتصاص مخلّفاته العضويّة. وحسب الدراسة فإن حاجة المواطن القطري تبلغ أكثر بقليل من مساحة عشرة ملاعب كرة قدم! وأنّه لو عاش جميع سكّان الأرض وفق هذا المعدّل فنحن نحتاج إلى 6.6 كوكب أرضيّ! وطالما أنّ هذا الأمر غير ممكن (حاليًا على الأقل) فهذا يعني أن الاستهلاك بهذا الحجم يتمّ على حساب جوع الآخرين وتدمير الكرة الأرضيّة.
لكن هل نحن كسوريين معنيون بهذا الكلام؟؟ فالسوريّ اليوم بالكاد يجد ما يكفي حاجته من الإستهلاك، فلمَ الحديث عن مثل هذه المواضيع غير الواقعيّة؟
المعيار ليس ما نحن عليه اليوم، وليس بالإمكانيّات، بل بالرغبات. فهذا السوريّ الذي يتناول طعامه على مائدة متواضعة، لو أتيح له دخل شهري مريح، فهل سيتجه نحو الاستهلاك بهذه الصورة؟
حقيقةً فإن لا شيء يشير بغير الإجابة بنعم، لا سيّما لو نظرنا إلى هذه الناحية قبل الثورة.
ويلعب الإعلام دورًا رئيسيًا في خلق رغباتٍ جديدة باستمرار عند متابعيه، إذ تُشكّل السلع محوره الأساسيّ في الترويج والإعلان، وتروّج مسسلاته نمطًا باذخًا من الحياة، يداعب أجفان الجميع، لأنّ الثقافة التي تلقيناها لا تملك توجيهًا سليمًا حيال الموضوع.
ورغم أنّ دراسات أخرى تتحدّث عن إنخفاض عدد الأشخاص الذين يشعرون بالرضى تجاه أنفسهم وحياتهم في أمريكا من 42% في عام 1957 إلى 30% عام 2003، رغم تضاعف معدّلات الاستهلاك في الفترة عينها، إلا إنّ هذا التحذير العلميّ الرصين، لا يلقى آذانًا صاغية في ظل ثقافة تلفزيونيّة تملك ضجيجًا عاليًا.
هذا الحديث عن الإستهلاك، الذي يجعل من شراء السلع غاية الفرد ومبرّر وجوده ومحور حياته، يذكّرنا بالحديث القرآنيّ المستمر عن «الإنفاق» الذي تكرّر كثيرًا وبصيغ شتّى، لعلّ أشهرها {وممّا رزقناهم ينفقون}، لكنّ الإنفاق القرآني لا يتّجه نحو السلع الماديّة لإرضاء النفس وتحقيق مكانتها الإجتماعيّة من خلال مكاثرة الأشياء، وإنما يتمحور في مشاريع نهضويّة إجتماعيّة تعالج مشاكل المجتمع وتوجد لها حلولًا حقيقيّة، يقول تعالى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّـهَ بِهِ عَلِيمٌ }
إنّ الإنفاق هنا محوره «الآخر» لا «الذات» كما في الإستهلاك، وهو لا يتّجه نحو الماديّات، لمكاثرتها، بل نحو «الخير» الذي يهدف إلى مساعدة الفئات الضعيفة في المجتمع، للإرتقاء بها إلى المستوى السليم.
الفرد حسب الصياغة القرآنيّة، لا يعمل كلّ الشهر حتى يضع كلّ دخله في إستهلاك ضائع، يدمّر البيئة والنفس ولا يحقّق الرضى والسعادة، بل يقتطع منّه جزءًا مهمًا لينفقه، ليس في سلات غذائية تشبع الفقير ساعة وتتركه على حاله، بل في مشاريع تنمويّة تصنع منه فردًا فعالًا قادرًا على العمل بكفاءة، وتحقيق حاجياته بنفسه.
وبين الإستهلاك والإنفاق، تربية ثقافيّة وسلوكيّة وقرآنية تتطلب جهدًا كبيرًا.