“العالم يستثمر الضوء في إجراء أصعب العمليات الجراحية، ونحن مازلنا عاجزين عن الاستفادة من أبسط وظائفه وهي الإنارة”، بكلمات ممزوجة بين الحسرة والسخرية من الواقع يتحدث “أبو منصور”، من سكان حي الزاهرة بدمشق، وهو جالس مع عائلته في غرفة مظلمة تضيؤها بضع شمعات، في ظل تواصل أزمة الكهرباء بمناطق النظام والتي تتفاقم يومًا بعد آخر.
أزمة الكهرباء المتفاقمة في سوريا، تأتي في وقت يحتفل به العالم بـ”اليوم الدولي للضوء“، من أجل التركيز على الدور الذي يلعبه الضوء في الطب والعلوم والطاقة والثقافة والفن والتعليم والتنمية المستدامة والاتصالات.
ويحتفل العالم باليوم الدولي للضوء في 16 من أيار من كل عام، وبدأت منظمة الأمم المتحدة للثقافة (يونيسكو) الاحتفال بهذا اليوم منذ عام 2017، واختارت تاريخ 16 من أيار تحديدًا، كونه يوافق ذكرى أول عملية ناجحة باستخدام الليزر في عام 1960، إذ أجرى العملية الفيزيائي ثيودور مايمان.
وأرادت “يونيسكو” الاحتفال بهذا اليوم سنويًا للتأكيد أن الضوء ليس هدفه الإنارة فقط، بل أصبح مع تطور العلم يوظف في الطب والفن ومختلف مناحي الحياة.
“حذفنا الكهرباء من قاموس حياتنا”
يزداد واقع الكهرباء سوءًا في مناطق النظام، لدرجة جعل سوريون يحذفونها من قاموس حياتهم، وفق ما تحدث عدة أشخاص لعنب بلدي.
“أبو منصور” (56 سنة) من سكان حي الزاهرة بدمشق ولديه محل بيع مواد غذائية، قال “كنا نترقب ساعات تشغيل الكهرباء، لكن وصلنا إلى مرحلة من الملل والضجر جعلتنا ننسى موضوع الكهرباء، بسبب ساعات التقنين الطويلة، حيث تنقطع من 5-6 ساعات، مقابل نصف إلى ساعة تشغيل، وحتى خلال فترة التشغيل تنقطع الكهرباء عدة مرات”.
فاطمة (31 عامًا) ربة منزل من سكان حي التجارة بدمشق، اشتكت من التراجع المتواصل لواقع الكهرباء رغم الوعود المتكررة بتحسينها من المسؤولين، إذ قالت، “قبل خمس سنوات كانت الكهرباء تصل بمعدل ثلاث ساعات مقابل ثلاث ساعات قطع، ثم أصبحت أربعة بساعتين، ثم خمسة بساعة، ومؤخرًا صارت ست إلى سبع ساعات قطع مقابل ربع إلى نصف ساعة تشغيل”.
وكان وزير الكهرباء السوري، غسان الزامل، قال لموقع “سناك سوري” المحلي في تصريح سابق، إن “وضع الكهرباء سيتحسن ويصبح مقبولًا بداية شهر نيسان 2022″، لكن ذلك لم يتحقق ليخرج بتصريحات جديدة وعد فيها بتحسين الكهرباء في حزيران 2022.
ضجر السوريين من وعود وزير الكهرباء، والذي كان يتحدث بصيغة الجزم بتحسين واقع الكهرباء، جعله يغيّر نبرة حديثه، إذ تحولت تصريحاته من صيغة الجزم بتحسين الكهرباء إلى الأمل بذلك، إذ قال الزامل، مطلع العام الحالي، “إننا محكومون بالأمل، ومن حق المواطنين في سوريا الحصول على الكهرباء طيلة 24 ساعة يوميًا”.
هبة (20 سنة) طالبة جامعية في كلية الآداب بحلب، عبّرت عن سخريتها من تصريحات المسؤولين حول تحسين القطاع الكهربائي قائلة، “عن أي أمل يتحدثون وواقع الكهرباء يزداد سوءًا كل يوم، وليس هناك أي مؤشر يبشر بانفراج في ملف الكهرباء، ولا شك أن الأمل الذي يتحدث عنه غسان الزامل بتحسين الكهرباء هو أمل إبليس بالجنة، وهذا شعور معظم السوريين، والدليل أنهم نسوا منذ زمن كهرباء الدولة واتجهوا للاعتماد على الأمبيرات والطاقة الشمسية والبطاريات”.
تبريرات الحكومة
رغم تذمر السوريين من سوء الكهرباء، تلجأ الحكومة إلى تبريرات لذلك بدلًا من إيجاد حلول لتحسين واقعها، وكان لافتًا التصريحات المتتالية لمسؤولي الكهرباء هذا الشهر.
وقال وزير الكهرباء غسان الزامل، إن قيمة الأضرار المباشرة بسبب التدمير الذي أصاب المنظومة الكهربائية في سوريا نتيجة الحرب، بلغت نحو 40 مليار دولار أمريكي، والأضرار غير المباشرة بلغت أكثر من 80 مليار دولار.
وقال الزامل لوكالة أنباء “شينخوا” الصينية، في 13 من أيار الحالي، إن الخسائر الكبيرة والتدمير في المنظومة الكهربائية أدى تقريبًا لشبه انهيار لهذه المنظومة، والوزارة تحاول إعادة ما تم تدميره، واستدرك بالقول، “العقوبات الأمريكية كان لها تأثير كبير على قطاع الكهرباء، وأدى ذلك إلى انخفاض عدد ساعات التغذية الكهربائية للمواطنين والتي تبلغ من ساعتين إلى أربع ساعات وصل خلال الـ 24 ساعة”.
وفي تصريح آخر لوزير الكهرباء لصحيفة “الوطن” المحلية، في أيار الحالي، ذكر أن “مشكلة تردّي الكهرباء سببها نقص توريدات المشتقات النفطية التي من المتوقع أن تنتهي منتصف أيار، مع بدء وصول التوريدات، وستعود المخصصات لوزارة الكهرباء، بما يكفي لتشغيل مجموعات التوليد المتوقفة”.
بدوره أرجع مدير كهرباء حمص، مصلح الحسن، سبب سوء واقع الكهرباء إلى ازدياد سرقات الكابلات في حمص وريفها، الأمر الذي يشكل استنزافًا للشبكة بشكل كبير، مقدرًا الخسائر بسبب تلك السرقات خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي بأكثر من عشرة مليار ليرة سورية.
ولفت المحسن لإذاعة “شام إف إم” المحلية، إلى أن برنامج التقنين الكهربائي المطبق حاليًا في مدينة حمص وريفها، هو 25 دقيقة وصل مقابل ست ساعات قطع، وذلك بحسب الكمية المخصصة لها وهي من 80 إلى 90 ميجا فقط.
أما مدير الإنارة والكهرباء في محافظة دمشق، وسام محمد، فقال لإذاعة “المدينة إف إم” المحلية، إن ميزانية الدولة كلها لا تكفي لإنارة شوارع دمشق فقط، فهناك 120 ألف جهاز إنارة، موضحًا أن إدارة المرور طالبت المحافظة بوضع كاميرات مراقبة على الشوارع المنارة بالكامل.
ويتفاوت عدد ساعات العمل الكهربائي من محافظة إلى أخرى وأحيانًا تختلف في نفس المنطقة، وقال مدير كهرباء دمشق إن “زيادة ساعات التقنين الكهربائي مرتبطة بالكميات الواردة من المؤسسة العامة للكهرباء، ومتعلقة بالأحمال الموجودة على الشبكة”، دون أن يتطرق إلى وجود أحياء أخرى تصلها الكهرباء بشكل شبه دائم.
أسباب جوهرية لأزمة الكهرباء
استمرار مشكلة الكهرباء واكتفاء المسؤولين بتقديم التبريرات دون إيجاد أي حلول لتلك المشكلة، سبّب حالة من الضجر الكبير لدى السوريين، الذين يتساءلون دومًا عن الأسباب الحقيقية لأزمة الكهرباء التي تعجز الحكومة عن حلها حتى الآن.
الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، أيمن الدسوقي، قال لعنب بلدي، إن أزمة الكهرباء في مناطق سيطرة النظام تعود لعدة عوامل، أبرزها الخسائر الكبيرة في قطاع الطاقة، وعدم امتلاك النظام الموارد المالية اللازمة سواء لإصلاح ما تضرر خلال الصراع، أو لتحديث البنية التحتية للشبكة الكهربائية المنهارة بالأساس، إضافة إلى أثر العقوبات المفروضة على النظام التي تحد من المعاملات المالية، وتعيق دخول شركات أجنبية في قطاع الطاقة السوري لتطويره.
ومن عوامل العجز، بحسب الدسوقي، وجود ضغط على حوامل الطاقة ولا سيما مع اعتماد الجزء الأكبر من محطات توليد الطاقة على الوقود الأحفوري، في ظل وقوع جزء كبير من حقول النفط والغاز خارج سيطرة النظام، وعدم انتظام شحنات النفط الإيرانية، وتراجع التكامل الإقليمي في مجال الطاقة بين النظام ودول الجوار، والتي كان يعتمد عليها لتوفير احتياجاته سواء من الطاقة المولدة أو من احتياجات محطات الطاقة من الوقود الأحفوري.
كما أن تزايد الطلب على قطاع الكهرباء مع استعادة النظام السيطرة على مناطق كانت بحوزة المعارضة، جعل حكومته عاجزة عن توفير الكهرباء لكل تلك المناطق، فضلًا عن استئناف بعض الأنشطة الصناعية عملها وحاجتها للكهرباء.
بدوره يرى المحلل الاقتصادي رضوان الدبس، أن البنية التحتية للكهرباء تعرضت لدمار كبير، نتيجة القصف العنيف من روسيا والنظام، إضافة إلى سرقة الكهرباء والمحولات.
وبالتالي فإن إعادة تأهيل شبكات ومحطات الكهرباء يحتاج، بحسب الدبس، إلى ميزانية ضخمة تعجز حكومة النظام المنهارة اقتصاديًا عن توفيرها، في ظل العجز الذي لديها في الميزانية.
وأضاف الدبس، لعنب بلدي، أن “عملية الإصلاح تتطلب البدء من الصفر وليس مجرد إجراء الصيانة فقط، لأن الشبكة الكهربائية في سوريا أصلًا قديمة وسيئة وكانت بحاجة لتحديث قبل عام 2011، فكيف الآن بعد الدمار الكبير الذي طالها، إضافة إلى أن الأمر يحتاج لشركات متخصصة في تأهيل شبكات الكهرباء.
لماذا لا ينقذ حلفاء الأسد قطاع الكهرباء؟
خلال السنوات الماضية ساد الحديث عن توقيع اتفاقيات عديدة مع حلفاء الأسد (روسيا وإيران والصين) لتنفيذ مشاريع لتحسين الطاقة الكهربائية في سوريا.
وذكر نائب مجلس الأعمال الروسي- السوري، سامر عثمان، لوكالة “سبوتنيك” الروسية، في أيار 2022، أنه تمت الموافقة على ثلاثة عقود تتيح للشركات الروسية الاستثمار بمشاريع للطاقة المتجددة في سوريا، على أن يكون المشروع الأول في دمشق بقيمة 360 مليون يورو، والمشروعان الآخران في حلب وحمص، مشيرًا إلى أن روسيا تخطط لتأهيل عدد من المحطات الكهربائية في سوريا، بالمشاركة مع الصين كقطاع مشترك لتأمين العديد من الآليات.
بدوره ذكر الرئيس التنفيذي لشركة إدارة شبكة الكهرباء الإيرانية، مصطفى رجبي مشهدي، أن ربط إيران وسوريا بشبكة الكهرباء “غير متوفر حاليًا”، لكنه أكد أنه “نظرًا لأن سوريا قيد التطور، فإنها تشكل وجهة جيدة للقطاع الخاص في صناعة الكهرباء الإيرانية، سواء في تصدير السلع الكهربائية أو في بناء محطات توليد الكهرباء في سوريا وتوفيرها لهذا البلد”.
لكن موقع “إيران انترنشنال” أفاد أن هناك عدة عقبات تمنع إيران من تصدير الكهرباء إلى الدول الأخرى بما فيها سوريا، ومنها تآكل المحطات وانخفاض كفاءتها، فمتوسط كفاءة محطات الطاقة الحرارية في إيران حاليًا يبلغ حوالي 39.5% فقط.
وذكر الموقع أن إيران تواجه مشكلة في عدم التوازن بين إنتاج واستهلاك الكهرباء، علمًا أن الطاقة الإنتاجية للكهرباء في إيران بلغت 335 ألفًا و115 مليون كيلوواط/ساعة مطلع العام الحالي، ولتستطيع طهران تصدير الكهرباء عليها إنشاء محطات كهرباء جديدة، ورفع كفاءة محطات الطاقة الحرارية إلى 41%.
النظام السوري تحدث كذلك عن دور الصين في دعم القطاع الكهربائي، وقال وزير الكهرباء لوكالة “شينخوا” الصينية، “نعول على الصين الدخول إلى قطاع الكهرباء وهناك محادثات حقيقية مع شركات صينية في هذا المجال”، مشيرًا إلى مساعٍ للاستفادة من مصادر الطاقة المتجددة بالتعاون مع الحلفاء، واستراتيجية لدى وزارة الكهرباء لإدخال 2500 ميجاواط طاقات شمسية حتى عام 2030، إضافة إلى 1500 ميجاواط طاقة ريحية.
ورغم الأحاديث الكثيرة عن وجود استثمارات لدعم قطاع الكهرباء، لم يسهم في أي انفراج بالقطاع الكهربائي.
وتعليقًا على ذلك قال الباحث أيمن الدسوقي، “كان لإيران وروسيا مساهمات في قطاع الكهرباء عبر عقود لإصلاح وتأهيل بعض المحطات، لكن تبقى دون المستوى المطلوب، فما تم كان مقابله امتيازات معينة تم الحصول عليها، ولعل افتقاد النظام للموارد المالية، وحجم الأضرار الكبيرة في قطاع الكهرباء، وضعف عائدية الاستثمار في قطاع الكهرباء، تجعلان طهران وموسكو تقفان عند هذا الحد”.
في حين قال المحلل الاقتصادي رضوان الدبس، إنه طالما أن الوضع الأمني غير مستقر في سوريا، فلن تغامر أي شركة تجارية في الاستثمار بقطاع الكهرباء، الذي يحتاج لضخ أموال ضخمة بحكم الدمار الكبير في البنية التحتية، ويتطلب الصبر والانتظار لعدة سنوات حتى جني الأرباح.
كما أن خصخصة الكهرباء وإدارتها من قبل شركات خارجية قد لا يكون مجديًا لها، كون معظم السوريين يعانون من ضعف القدرة الشرائية، ولن يستطيعوا الاشتراك بالكهرباء الخاصة.
ووسط غياب الكهرباء لجأ كثير من السوريين إلى استخدام الأمبيرات عبر شركات خاصة، ويتراوح سعر الأمبير الواحد بين 10 و15 ألف ليرة سورية أسبوعيًا (الدولار يقابل 14 ألف)، بينما يستعمل بعضهم الطاقة الشمسية التي تصل تكلفة تركيبها إلى حوالي 15 مليون ليرة، في حين يكتفي آخرون بتشغيل الإنارة فقط عبر البطارية (الليدات).