قبل أيام، تحدث السكرتير الصحفي لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، بات رايدر، عن أن الطريقة التي تدير فيها إيران أعمالها هي تدريب المجموعات الوكيلة والتأثير عليها في إطار سياستها الخارجية الهادفة لطرد الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، في إطار حديثه عن نشاط طهران شرقي سوريا.
وأضاف أن الهدف من إزاحة واشنطن من المنطقة هو إتاحة المجال لتنفيذ ما ترغب به إيران “دون رادع”، وأن مساعيها هذه هي مسار تواصل الولايات المتحدة مراقبته.
حديث رايدر جاء إجابة عن سؤال طرحه صحفي خلال مؤتمر حول سعي إيران لتوسيع نفوذها، من خلال الاستعانة بالعشائر المحلية، لتأسيس بعض الجماعات الوكيلة لها.
وأضاف السكرتير الصحفي لـ”البنتاجون” أن من المهم، من وجهة نظر الولايات المتحدة، عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، أن تحترم سيادة البلدان التي تعمل معها، على عكس بعض هذه المجموعات الوكيلة (الميليشيات الموالية لإيران)، التي دمجت نفسها في هذه الدول.
وعندما يتعلق الأمر بالمساحات المكشوفة مثل سوريا، ستواصل واشنطن التركيز على مهمة هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية” وفق رايدر، لكنها ستحافظ أيضًا على الوعي بالتهديدات الإقليمية الأوسع نطاقًا، لمنع المواقف المستقبلية المحتملة التي قد تؤدي إلى تهديد الأفراد الأمريكيين أو حلفائهم في المنطقة.
عبر العشائر
بدا جليًا حالة التجاذب الحاصلة شرقي دير الزور حيث تسيطر “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) المدعومة أمريكيًا، لعشائر المنطقة، إذ تحاول إيران وقوات النظام السوري استمالة أبناء تلك العشائر لتشكيل خلايا وفصائل مسلحة تستهدف “قسد”، بينما تعمل الأخيرة على تعزيز تمثيل أبناء المنطقة عبر منحهم بعض المناصب الإدارة.
وكمثال على التلخيص السابق، يدعم النظام وإيران مجموعات محلية صارت تعرف منذ أشهر باسم “قوات العشائر”، يقودها إبراهيم الهفل، وتنفذ هذه المجموعات هجمات على مواقع “قسد” وتؤمن لها قوات النظام غطاءً ناريًا في الكثير من الأحيان.
وعلى الجانب الآخر، تحاول “قسد” منح مناصب إدارية لأفراد من آل الهفل، من أقارب ابراهيم الذي استمالته ميليشيات إيران والنظام سابقًا.
وفي 12 من أيار الحالي، نشرت “قسد” صورة عبر “تيلجرام”، لقائدها مظلوم عبدي برفقة أشخاص يرتدون الزي العشائري التقليدي لأبناء دير الزور، وأرفقتها بعبارة “شخصيات مرموقة لها حضورها من العكيدات (آل الهفل) خلال لقاءها مع القائد العام لقوّات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي الأسبوع الماضي”.
وقالت “قسد” حينها، إن الأطراف تبادلت المزيد من الأفكار لتحسين الخدمات والعفو عن المطلوبين.
سبق ذلك بساعات اجتماع القائد العام لـ”قسد” مع شيخ قبيلة “البكارة” حاجم البشير، وهي إحدى أكبر قبائل المنطقة.
ووفق ما قاله الناشط عمر الخطاب، وهو من أبناء ريف دير الزور الشرقي، ويقيم فيه، يُلاحظ وجود سيطرة شبه كاملة لقبائل “العقيدات” و”البقارة” على المناصب الرئيسية، بينما هُمّشت بقية مكونات المنطقة، حتى تلك التي تُعدّ من مكونات دير الزور الأساسية.
وعزا ذلك لسيطرة القبيلتين على المراكز القيادية في “قسد” بالمنطقة، مّا يُتيح لها فرض نفوذها وتوزيع المناصب على أعضاء قبائلهما.
ويعاني أبناء القبائل الصغيرة من تهميش واضح في خضم حالة التجاذب الحاصلة للعشائر الكبيرة، وتركيز “قسد” على توزيع المناصب لكبرى قبائل المنطقة، وفق الناشط.
عسكرة العشائر غرب الفرات
لا يختلف الحال جذريًا بالنسبة للعشائر المقيمة غرب نهر الفرات في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري من محافظة دير الزور، إذ تعمل إيران وقوات النظام السوري على تجنيد أبناء تلك العشائر، وإنشاء فصائل عسكرية تحمل صبغة قبلية.
ولا تقتصر التحركات لاستمالة العشائر على إيران وحسب، إذ تدخلت روسيا أيضًا، وتصدرت المشهد عندما استعرض أبناء العشائر العربية قواتهم الرديفة وتشكيلات ميليشيا “الدفاع الوطني” في المحافظة، بحضور ضباط روس.
وقالت وكالة “سبوتنيك” الروسية، في تموز 2023، إن رئيس مركز المصالحة الروسية في دير الزور، الجنرال أندريه، حضر استعراضًا لـ”القوات الرديفة”.
وتروج أيضًا وسائل إعلام إيرانية شبه رسمية لهجمات يشنها مقاتلون من عشائر المنطقة، منذ أشهر.
ويحاول النظام السوري أيضًا استغلال الميليشيات الموالية له في المنطقة كميليشيا “أسود العشائر” التي أسسها المعارض السابق، وأحد وجهاء قبيلة “البكارة” نواف البشير، التي لطالما حاولت تصوير نفسها على أنها داعمة للاحتجاجات.
وفي الوقت نفسه، نفى شقيق الشيخ إبراهيم الهفل مصعب الهفل (يقيم في قطر)، في حديث سابق لقناة “الجزيرة” القطرية، وجود أي علاقة لحراك العشائر العربية بالنظام السوري أو إيران، مشيرًا إلى أن تحرك العشائر جاء للمطالبة بحقوقها وكف يد “قسد” عن ممارساتها في المنطقة.
تردي الأمن لصالح إيران
تعود جذور التوتر الحاصل في دير الزور إلى منتصف آب 2023، عندما نشبت مواجهات مسلحة بين “قسد” وفصيل تابع لها ينتشر في دير الزور اسمه “مجلس دير الزور العسكري”، وكان قوام الفصائل من مقاتلين وقادة من عشائر المنطقة، ما شكّل اصطفافًا عشائريًا ضد “قسد”.
ومع أن “قسد” انتصرت ميدانيًا، وحسمت السيطرة العسكرية لصالحها في المنطقة، لا تزال تداعيات المعارك مستمرة، إذ تتعرض نقاط “قسد” العسكرية لهجمات متكررة، في الوقت الذي تقف فيه الأخيرة عاجزة عن الرد.
الباحث المتخصص بالشأن الكردي في مركز “جسور للدراسات” أنس شواخ، قال لعنب بلدي، إن تردي الوضع الأمني يصب بالدرجة الأولى يصب في صالح إيران، خصوصًا وأن المنطقة تعتبر من مناطق نفوذ التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا.
ويكمن الخطر بمحاولات إيران المستمرة للتغلغل في الشرق السوري، إذ يعتبر الوضع الأمني الهش تربة خصبة لزرع خلايا أمنية جديدة، أو استمالة جزء من أبناء المنطقة، أو حتى شن هجمات أكبر قد تصل حتى استهداف قواعد قوات التحالف بالمنطقة.
ويرى الباحث أن قضية الوجود الإيراني شرقي دير الزور لم تعد مسألة احتمالات، إنما هي أمر واقع يتطلب التعامل معه، وبدأت طهران تتخذ من شرق الفرات في دير الزور كقاعدة لميليشيات جديدة في المنطقة.
إيران استغلت الرفض المحلي لـ”قسد”
لا تعتبر مشكلة عشائر دير الزور مع “قسد” حديثة المنشأ، ولم تنشب مع بدء المواجهات العسكرية في المنطقة، إذ تعود لسنوات سابقة من الإقصاء الذي مارسته “قوات سوريا الديمقراطية” لمكونات المنطقة، وحصر السلطات بيد مندوبين أمنيين كرد ليديروا المنطقة.
ويتمثّل المكوّن العربي في مؤسسات “الإدارة الذاتية”، وهي المظلة السياسية لـ”قسد”، بشخصيات عربية موالية لها، لم تحقّق تطلّعات سكان المنطقة من العشائر العربية على مدار سنوات سيطرة القوات الكردية على المنطقة.
الباحث المتخصص في شؤون شمال شرقي سوريا بمركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” سامر الأحمد قال لعنب بلدي، إن إيران استغلت الرفض العشائري والمحلي لتصرفات “قسد”، وانتهاكاتها، واستغلال ثروات المنطقة لصالحها.
وحاولت إيران استمالة العشائر ومكونات المنطقة تحت شعار تحصيل حقوق العشائر، أو مقاومة الاحتلال الأمريكي، وفق الأحمد.
ويعتقد الباحث أن التغلغل الإيراني شرقي دير الزور أصبح واقعًا، وصار لطهران وجود قوي في المنطقة، ولها خلايا أمنية كثيرة في مناطق سيطرة “قسد”.
مدخل لإيران
المواجهات المسلحة في دير الزور نشبت على خلفية اعتقال “قسد” قائد “المجلس العسكري”، أحمد الخبيل (الملقب بـ”أبو خولة”)، في 27 من آب 2023، ما أسفر عن تحالف عشائر من المنطقة مع مقاتلي “المجلس”، وبدأت اشتباكات عسكرية وُصفت بـ”العنيفة” في بعض قرى وبلدات دير الزور خرجت عن سيطرة “قسد” بالكامل، ثم عاودت “قسد” احتواء التوتر فيها.
خلال اللحظات الأولى لاعتقال “أبو خولة”، أعلنت “قسد” عن إطلاق حملة أمنية حملت اسم “تعزيز الأمن”، وشملت مناطق شرق الفرات بالكامل، دون الإشارة إلى علاقة “مجلس دير الزور” فيها.
ومع خروج قضية اعتقال قائد “مجلس دير الزور” عن السيطرة، وتسرب خبر اعتقاله عبر أشقائه، تحولت الأحداث إلى رد فعل عنيف في دير الزور، ما طوّر رواية “قسد” عن الأحداث إلى أنها حملة تستهدف تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وبينما كانت تنتشر التسجيلات المصورة، وبيانات تضامن العشائر مع بلدة العزبة شمالي دير الزور بسبب حصارها من قبل “قسد”، كانت الأخيرة تتحدث عن أن حملتها الأمنية نفسها تطورت لتشمل “خارجين عن القانون، وتجار مخدرات، وخلايا من تنظيم (الدولة)، وبإشراف من التحالف الدولي”.
وفي مساء 31 من آب نفسه، تطورت الرواية مجددًا، إذ حمّلت “قسد” مسؤولية الأحداث في المنطقة للنظام السوري، وجاء في بيان رسمي نشرته عبر موقعها الرسمي، أن قواتها “تتخذ إجراءات إضافية لملاحقة مجموعات مسلحة تسللت إلى قرى في الريف الشرقي لدير الزور من الضفة الغربية لنهر الفرات، وبدأت بالتحشيد للهجوم على قواتنا في قرى الريف الشرقي”، مشيرة إلى أن النظام هو من أرسلها.
وفي أيلول الذي تبعه، أعلنت “قسد” عن نهاية المواجهات المسلحة في دير الزور، في حين استمرت المناوشات والهجمات المتقطعة حتى اليوم.