علي عيد
غالبًا ما تنخرط القوى السياسية والاقتصادية الفاعلة في الفساد المالي والإداري، حتى في الدول المتحضرة، وانخراط هذه القوى يستلزم وجود نظام رقابي رادع، يمنع استغلال موارد البلاد، والتربح غير المشروع، كما يمنع استغلال المواطنين، ولكون هذه القوى تمتلك أدوات القوة والسيطرة في غالب الأحيان، فهي تبتدع أساليب مبتكرة في التهرب الضريبي، وإجراء صفقات خارج القانون، وتمتلك خبرة وقوة في التأثير على مؤسسات الرقابة أو التعمية على الفساد.
ولو أخذنا فرنسا مثالًا، لوجدنا أن من بين أكثر من ألف حالة فساد رصدتها منظمة “Statista” غير الحكومية في 25 من تموز 2023، يتبين أن 39% من قضايا الفساد تتعلق بالمجتمع السياسي (رؤساء البلديات والنواب والمستشارون)، تليها في المرتبة الثانية الشركات ومديروها، بنسبة 22%، ثم موظفو الخدمة العامة بنسبة 18%، من خلال الجمع بين الخدمة العامة الحكومية والإقليمية.
وبالنسبة لنوع جرائم الفساد الأكثر شيوعًا في فرنسا، يأتي اختلاس الأموال العامة في المقدمة، بنسبة 27%، ثم تضارب المصالح والتدخل بنسبة 19%، يليه الاحتيال بنسبة 18%، والتزوير 17%.
إذا كانت الأرقام في فرنسا المصنفة ضمن المنطقة البرتقالية في المرتبة الـ20 والأقل فسادًا، من أصل 180 دولة، بحسب مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، فكيف هو الحال في سوريا التي صنفت في المرتبة 177 قبل الصومال وفنزويلا فقط.
تظهر دراسة أجراها الباحثة النرويجية شولفيغ شتاين (Solveig Steien)، بعنوان “حرية الصحافة والفساد”، وجود ارتباط عكسي في المؤشرات بين الفساد والإعلام في الدول، فكلما ازدادت مؤشرات حرية الصحافة انخفضت مؤشرات الفساد، لأن الصحافة الحرة تضع حالات الفساد العام أمام الناخبين، بينما يقوم الناخبون في الأنظمة الديمقراطية بدورهم بمعاقبة السياسيين الفاسدين والإطاحة بهم من العمل في الشأن العام، ومن ثم، فإن السياسيين المنتخبين يعملون على تقليل الفساد لإرضاء الناخبين.
الدراسة التي نشرها مركز معلومات بلدان الشمال الأوروبي لبحوث الإعلام والاتصالات (NORDICOM) التابع لمجلس وزراء بلدان الشمال الأوروبي، عام 2017، اعتمدت على الكثير من الأبحاث الموازية، التي اعترفت بأن الصحافة ذاتها قد تكون جزءًا من الفساد الذي قد يؤثر عليها بشكل مباشر، إذ يتم استقطابها، أو تركيز ملكيتها، لتمتنع عن النشر.
كما تحاول السلطات السيطرة على الإعلاميين، وهذا ما يظهر في الدول ذات المؤشرات العالية على انتشار الفساد، والمؤشرات المنخفضة في الحريات الصحفية.
وكمؤشر على دور الصحافة في الملاحقة والكشف عن الفساد في العديد من البلدان، يشير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) إلى أن وسائل الإعلام تلعب دورًا في مواجهة أشخاص أو ممارسات غير أخلاقية، وتحفز للتحقيق الجنائي أو غيره في تلك الممارسات، كما حصل في جنوب إفريقيا، إذ دفعت التقارير الإخبارية عن الفساد والمحسوبية على نطاق واسع على أعلى المستويات مكتب المحامي العام إلى فتح تحقيق، وإصدار تقرير في فضيحة “نكاندلا” (Nkandla scandal) عام 2014، والكشف عن فساد الرئيس آنذاك جاكوب زوما، ما أسهم في قراره بالاستقالة في شباط 2018.
وتكرر دور الصحافة في مكافحة الفساد في بلغاريا، عام 2019، عبر كشف تحقيق إذاعة “أوروبا الحرة” وصندوق مكافحة الفساد التابع للمنظمات غير الحكومية، عن تورط سياسيين ومسؤولين رفيعي المستوى بالفساد وحصولهم على شقق فاخرة بأسعار أقل بكثير من أسعار السوق، وأدى التحقيق إلى استقالة وزير العدل وعدد من المسؤولين والنواب المتورطين.
وبرزت أهمية الصحفيين ووسائل الإعلام في الكشف عن حوادث الفساد في قضية أوراق موساك فونسيكا (mossack fonseca)، المعروفة على نطاق واسع باسم قضية “أوراق بنما”
(Panama Papers) عام 2015، عبر تحقيق لصحيفة “دويتشه تسايتونغ” (Die neue Zeitung) الألمانية، بمساعدة الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين (ICIJ)، وجرى من خلال نحو 11.5 مليون وثيقة، الكشف عن معلومات حول الصناديق الائتمانية السرية، والملاذات الضريبية لأكثر من 200000 كيان خارجي، ما نتج عنه رفع دعاوى قضائية في العديد من البلدان بمختلف أنحاء العالم، واسترداد أكثر من 1.2 مليار دولار أمريكي في أيسلندا وأوروغواي والمكسيك ونيوزيلندا وبلجيكا والمملكة المتحدة.
ما سبق يحيل إلى أهمية عمل الصحافة الحرة والمستقلة، وإلى ضرورة حماية الصحفيين، وخصوصًا الاستقصائيين، متتبعي الفساد، كما يشير إلى أن البلدان الغارقة في الفساد، ومنها سوريا مثلًا، تحتاج إلى دور الصحافة المستقلة، في وقت تنخرط فيه المؤسسات الحكومية الرسمية ورجال الأعمال في مجموعات متناغمة، تتبادل المصالح والأدوار، وإذا كان خيار تلك الجهات منع تحقيق الديمقراطية أو التضييق على الحريات الصحفية، والتعتيم على الفساد، فهذا مؤشر مهم لدور صحافة المساءلة، حتى ولو كانت من خارج الحدود، وضمن الإمكانيات المتاحة.
كما يستدعي تراجع مستوى الشفافية في بلد مثل سوريا، تعاون الصحفيين، وابتكارهم طرقًا متعددة لرصد الفساد، وتحليل الظواهر الناتجة عن الممارسات الخاطئة للشخصيات النافذة والشركات التابعة لها، ولا يقتصر الأمر على تتبع المال، فالفساد لا يقف عن السرقة أو استغلال الموارد لمصالح خاصة، بل يمتد إلى سلسلة القرارات والتشريعات والقوانين التي تمهد لهذا الفساد، وكذلك الارتباطات والتشابكات وآلية صنع القرار، وتغذية الصراعات لمصلحة السلطة والنفوذ والربح.. وللحديث بقية.