جنى العيسى | حسن إبراهيم | هاني العبد الله
بنسخته الثامنة وبآلية حملت بعض الاختلافات عن السنوات السبع السابقة، عقد الاتحاد الأوروبي مؤتمر “بروكسل” لدعم مستقبل سوريا والمنطقة في 30 من نيسان الماضي.
على مدار سنوات كان المؤتمر يجري على مدى يومين، أولهما حوار مع منظمات المجتمع المدني السورية على اختلاف أماكن وجودها، ويعلن في ثاني أيامه عبر اجتماع لوزراء خارجية الدول المانحة عن حجم التعهدات المالية التي ستقدمها الدول لسوريا ودول الجوار التي تستضيف لاجئين سوريين.
آلية عقد المؤتمر هذا العام اختلفت، إذ خُصص للحوار مع منظمات المجتمع المدني فترة زمنية أكبر، ما أتاح فرصة تعدد القضايا والموضوعات التي نوقشت ضمن برنامج المؤتمر أو عبر فعاليات جانبية أجرتها منظمات سورية، فيما تأجل اجتماع وزراء خارجية الدول المانحة إلى 27 من أيار الحالي.
تستطلع عنب بلدي في هذا الملف آراء خبراء وشخصيات حضرت مؤتمر “بروكسل 8” فيزيائيًا هذا العام، حول القضايا التي تركزت عليها المناقشات ضمن المؤتمر من جهة، ومدى التماسها لاحتمال حدوث تغييرات جوهرية بمسألة الدعم المالي أو السياسي لسوريا.
على جدول الأعمال..
التعافي المبكر و”2254″ والمفقودون
يحمل مؤتمر “بروكسل” سؤالًا لدى معظم السوريين عن الجدوى ومدى التعويل على المؤتمر في تحريك الملف السياسي المجمد في سوريا منذ سنوات، حاله في ذلك حال أي مؤتمر أو اجتماع يضم أطرافًا دولية وإقليمية معنية أو منخرطة بالشأن والملف السوري.
حظي المؤتمر بحضور متنوع لمنظمات المجتمع المدني السورية، إذ حضر نحو 800 شخص، منهم شخصيات سياسية أوروبية، بالإضافة إلى ممثلين عن المنظمات الأممية الشريكة في سوريا والدول المضيفة للاجئين السوريين.
وتضمن جدول أعمال يوم الحوار مع المجتمع المدني مناقشات حول عدة موضوعات بوجود شخصيات سورية متخصصة.
شملت المواضيع التي جرى نقاشها في يوم الحوار ضمن ست جلسات:
- تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم “2254”: الوضع الراهن والطريق إلى الأمام
- إحداث تغيير ملموس: الاستثمار بالقوى العاملة الصحية في سوريا
- التعليم في حالات الطوارئ: العوائق وفرص الوصول إلى التعليم. وجهات نظر من الشباب
- تعزيز استدامة الخدمات الأساسية وفرص كسب العيش للاجئين والمجتمعات المضيفة في تركيا والأردن ولبنان.
- المساعدة الإنسانية والحماية الفعالة كمحرك لدعم القدرة على الصمود والتعافي المبكر في سياق الأزمة التي طال أمدها في سوريا.
- العدالة والسلام والحق في معرفة الحقيقة: معالجة حالات المفقودين والمعتقلين كشرط أساسي للمصالحة المستقبلية.
إلى جانب جدول الأعمال، شهد المؤتمر العديد من الفعاليات التي نظمتها منظمات مجتمع المدني السورية في العديد من القضايا، منها الحقوقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
زيادة الحضور السوري وتراجع التمثيل الغربي
خلال جلسة خاصة بالصحفيين حضرتها عنب بلدي، قبل يوم من مؤتمر “بروكسل 8″، قال أليسيو كابيلاني، رئيس قسم الشرق الأوسط- مصر وسوريا ولبنان والأردن، دائرة العمل الخارجي الأوروبية (EEAS)، إن نحو 300 سوري تمت دعوتهم لحضور يوم الحوار في 30 من نيسان، وإن 100 منهم قادمون من سوريا، بينما رصدت عنب بلدي عشرات الناشطين والمنخرطين في العمل المدني من السوريين توافدوا للمشاركة في الفعاليات الموازية للمؤتمر.
وأكد كابيلاني حضور ممثلين رسميين من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، لكن مراقبين رصدوا تراجع مستوى التمثيل الدبلوماسي الدولي خلال فعاليات يوم الحوار في المؤتمر.
مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن الطابع العام للمؤتمر يحمل تركيزًا سياسيًا أقل على سوريا، وسط افتقار لدور قيادي دولي لإيجاد حل سياسي.
العبد الله ذكر أن من دلالات تراجع التركيز، تراجع حضور التمثيل الدبلوماسي للمسؤولين الغربيين على عكس سنوات المؤتمر السابقة.
ويعتقد العبد الله أن انخفاض التمثيل الدبلوماسي قد يرتبط بتأجيل الاجتماع الوزاري للدول المانحة الذي عادة ما كان يجري عقب يوم الحوار، إلا أنه أُجل هذا العام لنحو شهر بعد يوم الحوار.
المؤتمر كان ضعيفًا وأقل من تطلعات واحتياجات السوريين على الأقل لدور قيادي سياسي، لم تتم الإشارة فيه إلى أي شيء جديد، وإنما جرت إعادة طرح المواقف السابقة وتكرارها.
محمد العبد الله
مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”
المدير التنفيذي لمنظمة “بيتنا سوريا”، أسعد العشي، ذكر أن المؤتمر أعلى نسبة حضور من السوريين والسوريات مقارنة بالمؤتمرات السبعة الماضية، لكن الجانب السلبي أن أغلب المتحدثين خلال جلسات المؤتمر كانوا ممثلين عن منظمات دولية أو الأمم المتحدة، وبالتالي زيادة عدد المشاركين السوريين لم تنعكس على زيادة التفاعل والمشاركة من قبلهم.
بدوره قال المدير التنفيذي لوحدة دعم الاستقرار، منذر السلال، لعنب بلدي، إن الانطباع الأول لمؤتمر “بروكسل” أظهر وجود حالة اهتمام بتمثيل السوريين في يوم الحوار، إذ شهد دعوة أعداد كبيرة من السوريين لحضور المؤتمر، إضافة إلى تقديم تسهيلات لقدومهم إلى بروكسل، وهناك دعوات وُجهت لسوريين في الداخل، واستطاعوا الوصول لحضور المؤتمر.
مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، أكد تراجع خطاب المؤتمر وأدائه والتمثيل الدبلوماسي لحاضريه الغربيين أيضًا.
وانتقد عبد الغني، في حديث إلى عنب بلدي، آلية اختيار المنظمات المشاركة كون المؤتمر يركز بشكل رئيس على الجانب الإغاثي، بينما حضرت هذا العام منظمات لا علاقة لها بهذا الشأن أو المواضيع المتصلة فيها.
ولم يلحظ عبد الغني تغييرًا في الدعم السياسي لسوريا، فتقريبًا الرسائل السياسية نفسها من ناحية عدم إعادة العلاقات مع النظام، ولا تزال الدول محافظة على مواقفها في مسألة محاسبة النظام، دون أن يكون هناك خطاب متقدم باتجاه حل سياسي في سوريا.
ولفت عبد الغني إلى وجود تراجع بالدعم المالي عبر مؤتمر “بروكسل”، فمن ناحية لا تلبي التعهدات حجم الاحتياجات، ومن ناحية أخرى قد لا تفي الدول بتعهداتها المالية أساسًا.
تأجيل وزاري بروكسل
ينتظر السوريون ودوائر صنع القرار المهتمة بالشأن السوري يوم 27 من أيار الحالي، لمعرفة حجم الدعم الذي سيعلن عنه المانحون، وكذلك الموقف السياسي الأوروبي حيال الملف السوري.
بدوره، برر القائم بأعمال بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سوريا، دان ستوينسكو، سبب تأجيل الاجتماع الوزاري، وعزا ذلك لعدة أسباب.
القائم بأعمال بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سوريا، أوضح أن الاتحاد الأوروبي اختار لأول مرة فصل الحدث الوزاري عن يوم الحوار مع المجتمع المدني، لضمان تمثيل رفيع المستوى، وتوفير فترة أطول من الأحداث المستمرة التي تركز على الأزمة السورية.
وتابع أن هدف التأجيل هو تحسين دمج مخرجات يوم الحوار في المناقشة الوزارية، إذ سيدعى المقررون من مختلف الفرق التي تم تنظيمها خلال يوم الحوار إلى الجزء الوزاري لتبادل نتائج يوم الحوار مع ملاحظاتهم التمهيدية.
اخترنا لأول مرة فصل الحدث الوزاري عن يوم الحوار مع المجتمع المدني، لضمان تمثيل رفيع المستوى، وتوفير فترة أطول من الأحداث المستمرة التي تركز على الأزمة السورية.
دان ستوينسكو
القائم بأعمال بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سوريا
اعتراف أوروبي بتعثر الحل السياسي
خلال الجلسة الخاصة بالصحافة، قال أليسيو كابيلاني، رئيس قسم الشرق الأوسط، دائرة العمل الخارجي الأوروبية (EEAS)، إن “الحل السياسي في سوريا متعثر بسبب النظام السوري الذي يعرقل الوصول إلى حلول سياسية”، ويعطل مفاوضات اللجنة الدستورية منذ سنتين.
واعتبر كابيلاني أن “الأسد (بشار الأسد) لا يستجيب لمتطلبات المبادرة العربية”، مؤكدًا أن “الاتحاد الأوروبي يتحدث مع الشركاء”، في إشارة إلى الدول العربية التي تدفع نحو تطبيع العلاقات مع النظام السوري، لكنه يؤكد الدعم لقرارات الأمم المتحدة بهذا الشأن.
وأشار كابيلاني إلى أن الاتحاد الأوروبي يسعى للدفع إلى استمرار المفاوضات في اللجنة الدستورية، كما يركز في المناقشات على موضوع الآلية الدولية للبحث عن المفقودين ومن المسؤول عن اختفائهم.
دعم المعارضة.. حاضرة للمرة الأولى
كان لافتًا حضور ونشاط المعارضة الرسمية من خلال “هيئة التفاوض السورية”، وهو الأول من نوعه خلال سنوات انعقاد المؤتمر، والتي شاركت في جلسات المؤتمر العامة وبعض الجلسات الجانبية على هامش المؤتمر، كما نظمت فعالية ثقافية بعنوان “لأجل المعتقلين”.
رئيس “هيئة التفاوض”، بدر جاموس، قال خلال المؤتمر، إن على المجتمع الدولي أن يضغط بشكل حقيقي على النظام السوري، داعيًا جميع الدول إلى موقف حازم، معتبرًا أن العقوبات الغربية غير كافية، ولا يمكن الاستمرار دون حل سياسي في سوريا، وتطبيق القرار الأممي “2254” باعتباره المسار الوحيد القادر على إعادة الاستقرار والأمان إلى سوريا وإنهاء معاناة الشعب السوري.
عضو “هيئة التفاوض السورية” ورئيسة لجنة المعتقلين، أليس مفرّج، قالت لعنب بلدي، إن مشاركة “هيئة التفاوض” السورية لأول مرة في هذا المؤتمر بشكل رسمي، وكمتحدث أساسي، ودعوة قيادة “الهيئة” لتكون حاضرة في صلب المؤتمر وفعالياته، يُعدّ موقفًا سياسيًا واضحًا للاتحاد الأوروبي بأنه يدعم الهيئة التي تُعتبر العنوان الآخر في أي عملية تفاوضية مع النظام السوري، والممثل المعتمد دوليًا كشريك في التفاوض لحل سياسي وفق بيان “جنيف” والقرار الدولي “2254”.
وأضافت أن هذا الدعم السياسي انعكس أيضًا في اللقاءات المكثفة التي أجراها مبعوثو الدول مع رئاسة “الهيئة” ووفدها، كما أنها فرصة للتأكيد على التشاركية في صياغة الحل السوري بين جميع المسارات وتلازمها وتكاملها في التوصيات.
وردًا على سؤال عنب بلدي عن وجود أي تعويل على مؤتمر “بروكسل” في تحريك الملف السياسي السوري، قالت مفرّج، إن الاتحاد الأوروبي على تواصل دائم ومستمر مع المعارضة السورية، وخاصة “هيئة التفاوض” المعنية بملف الحل السياسي التفاوضي، ويعرف تجاوبها وانسجام أعمالها مع جميع القرارات الدولية، واستعدادها لعملية تفاوضية تهدف إلى التغيير السياسي في سوريا وفق القرار “2254”، ويعرف مدى جدّيتها في التعاطي مع هذا الموضوع وسعيها الدائم لتحريك هذا الملف، الذي يحاول النظام تعطيله منذ سنوات ويتهرب من أي استحقاق للحل السياسي.
وترى مفرّج أن المؤتمر فرصة لاستماع الأوروبيين إلى الأصوات السورية، أصوات المجتمع المدني والمنظمات والاتحادات والنقابات، وفرصة ليلمس التشاركية في الأهداف والانسجام في المساعي بين “هيئة التفاوض” وهذا المجتمع المدني، وهذا يؤكد للأوروبيين أن الدعم للقوى السياسية الأساسية المعنية بالقرارات الدولية والأممية يجب أن يستمر، ودعم جهود الأمم المتحدة لتحقيق حل سياسي تفاوضي وفقًا لقرارات مجلس الأمن.
وذكرت مفرّج أن المعارضة لمست خلال المؤتمر “زيادة اهتمام الأوروبيين بالدعم السياسي لهيئة التفاوض وللقوى السياسية السورية”، كما أكّد المؤتمر التزام هذه الدول بالقرار الدولي، وهذا بحد ذاته موقف بعدم التراجع وتعزيز هذه السردية في ظل الاستنقاع، وعدم وجود أي بوادر تجاه القضية السورية.
ونقلت مفرّج تأكيد المسؤولين رفض أوروبا أي تطبيع أو إلغاء عقوبات أو إعادة إعمار طالما لم يقم النظام السوري بخطوات جدّية ملموسة في طريق الحل السياسي الشامل.
هناك تأكيد أوروبي برفض أي تطبيع أو إلغاء عقوبات أو إعادة إعمار طالما لم يقم النظام السوري بخطوات جدّية ملموسة في طريق الحل السياسي الشامل.
أليس مفرّج
عضو “هيئة التفاوض السورية” ورئيسة لجنة المعتقلين
مدير “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”، أنور البني، وهو أحد الحاضرين في المؤتمر، قال إن الحل في سوريا يبدأ من إنشاء حكومة انتقالية من المجتمع الدولي، وسحب الشرعية والبساط من تحت النظام السوري ومن كل المجموعات التي تدّعي تمثيل الشعب السوري، وإعطاء الشرعية للحكومة الانتقالية من أجل أن تقود إلى الحل في سوريا.
واعتبر البني أن الحديث عن أزمة إنسانية في سوريا وإيجاد حل لها، والحديث عن لجنة دستورية هو قفز على المطلب الأساسي للشعب السوري.
حوار مكثف.. لا نظرة نحو المستقبل
اعتبر تقرير نشر في مركز “جسور للدراسات”، في 30 من نيسان الماضي، أن المؤتمر شكّل فرصة للحوار والنقاش بين السوريين الحاضرين بأعداد كبيرة من مختلف المحافظات ودول اللجوء، وهو ما يُسهم بالفعل في تمكين دور المجتمع المدني في العملية السياسية.
وأوضح التقرير أن تمكين دور المجتمع المدني في العملية السياسية، سواء عبر المسارات الراهنة أو مسار ثالث محتمل، يتماهى مع العجز الواضح الذي أبدته الدول الغربية والأمم المتحدة خلال المؤتمر على فرض تنفيذ القرار”2254” على أطراف النزاع في سوريا، مع تبني طرح جديد يقوم على السعي المستمر إلى تطبيق مخرجاته عبر الحوار.
وأشار التقرير إلى أن المشاركين استغرقوا في تحليل الواقع السوري وتوصيفه معظم وقت المؤتمر، دون القدرة على الانتقال إلى عنوانه الرئيس بالحديث عن دعم مستقبل سوريا والسوريين، وأدوات ذلك واستراتيجياته، وما يجب أن يفعله الفاعلون المحليون والدوليون بدلًا من الحديث عما فعلوه، وما قامت به المنظمات من أعمال لم تغطِ الكثير أمام تقييم الاحتياجات.
لماذا يتجاهل؟
النظام السوري غائب
غاب تعليق النظام السوري على مؤتمر “بروكسل” بنسخته الثامنة، والذي لطالما كان مهاجمًا له ومنتقدًا لانعقاده، معتبرًا أنه “تدخل سافر” في الشأن الداخلي السوري، وأن المواقف الصادرة عنه تبين استمرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأنظمة التابعة لهما في سياساتهم “العدائية” تجاه سوريا.
كان لافتًا هذا العام غياب تعليق وزارة الخارجية والمغتربين على المؤتمر، بعد أن واكبته بياناتها المهاجمة خلال السنوات الماضية، أحدثها عام 2023، حين قالت إن الاتحاد الأوروبي “اختار تغييب الدولة السورية عنه كيلا تنكشف حقيقة أهدافه وسياساته المفلسة نتيجة للإجراءات القسرية اللاإنسانية واللاأخلاقية التي يواجهها الشعب السوري والمفروضة عليه من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي”.
وحملت البيانات السابقة للخارجية نفَسًا مشابهًا، أبرزها أن المؤتمر فعالية استعراضية لا مشروعية له، وأنه تدخل سافر في الشأن الداخلي السوري، مع رفضها للمؤتمر واستغرابها من غياب الطرف المعني (النظام السوري)، معتبرة أن هناك تسييسًا متعمدًا من الاتحاد الأوروبي للشأن الإنساني للاستمرار في ممارسة الضغوط على سوريا وتعقيد الأزمة فيها وإطالة أمدها، وأن المؤتمر لا يتفق مع مبادئ الأمم المتحدة الناظمة للعمل الإنساني.
الباحث في مركز “عمران للدراسات” معن طلاع، قال لعنب بلدي، إن تعاطي النظام مع مؤتمر “بروكسل” ينطلق من النظر إلى كل الاستحقاقات التي تناقش القضية السورية خارج مركزيته وخارج أن يكون عنصرًا فاعلًا فيه على أنها جزء من تآمر دولي، وبالتالي هذه الاستحقاقات ليست محل اهتمام بقدر ما هي محل هجوم ونقد مستمر، سواء كان هذا النقد إعلاميًا أو نقدًا موجهًا عبر رسائل من وزارة الخارجية.
وأرجع طلاع عدم تعاطي النظام مع مؤتمر بروكسل مؤخرًا إلى سببين كلاهما بنسبة وازنة، الأول هو حجم التحديات والضغوطات التي يعيشها النظام وحجم الأولويات التي تضغط عليه في الفترة الراهنة، ما جعل التعليق على المؤتمر يتراجع عن سلّم أولوياته، وهذا متسق مع فكرة تراجع الاهتمام بالملف السوري عمومًا.
ويرى طلاع أن السبب الثاني هو الصمت البناء، ويوحي بأن النظام ينظر بإيجابية الى كل ما يتم، خاصة بأن الأمور منذ ما قبل “كورونا” 2020، وحتى مع حدوث الزلزال 2023، تسير في مصلحة التطبيع مع النظام وفي مصلحة إعادة مركزية النظام، لا سيما مع مبادرة الأمم المتحدة أو المسودة القانونية لصندوق التعافي المبكر، الذي غُيرت فيه مساعدات عبر الحدود إلى مساعدات عبر الخطوط، وبالتالي هو يستشرف أيضًا موقفًا أوروبيًا داعمًا لهذه المقاربة الأوروبية الأممية، وبالتالي تعاطى مع المؤتمر بسياسة الصمت البناء.
رغم استمراره..
مخاوف من خفض التمويل
أبدى كثير من المشاركين من ممثلي منظمات المجتمع المدني السوري مخاوف من انحسار أو انخفاض الدعم المالي الأوروبي لمشاريع الإغاثة والتعافي، فيما ذكر أليسيو كابيلاني، رئيس قسم الشرق الأوسط في دائرة العمل الخارجي الأوروبية، خلال الجلسة التي حضرتها عنب بلدي قبل يوم من المؤتمر، أن الاتحاد الأوروبي مستمر في تقديم مبالغ للدعم للعامين المقبلين، دون أن يقدم إشارات حول حجم الدعم المتوقع الإعلان عنه هذا العام.
بدوره، ذكر الناطق الرسمي للاتحاد الأوروبي، لويس ميغيل بوينو، في تصريح يثير حالة من القلق لدى السوريين، بأن سوريا لم تعد ضمن أولويات الدول الداعمة لها، مؤكدًا أن الأزمات الحالية في العالم أصبحت أيضًا أولويات للمانحين الدوليين.
وقال بوينو خلال حديث مع قناة “المملكة” الأردنية، إن الاتحاد الأوروبي ملتزم بمواصلة التمويل خلال النسخة الحالية من المؤتمر، معربًا عن أمله في أن يضاعف المانحون الآخرون بشكل عام، ومن المنطقة العربية بشكل خاص، مساهماتهم خلال اليوم الوزاري لمؤتمر “بروكسل” الثامن.
الاتحاد الأوروبي أكد كذلك في بداية مؤتمر “بروكسل” على عبارة، “ملتزمون تجاه الشعب السوري”، وما بين تحذيرات من تراجع الاهتمام بتقديم الدعم المالي لسوريا، وتطمينات باستمرار الالتزام بتقديم الدعم، يتساءل كثيرون حول مدى تأثير الأزمات والتطورات الدولية على الدعم المالي الذي سيقدمه المانحون في مؤتمر “بروكسل”، وهل سيفون بتعهداتهم المالية أم لا.
المدير التنفيذي لمنظمة “بيتنا سوريا”، أسعد العشي، قال إن المداخلات الرسمية ضمن المؤتمر، أظهرت عدم وجود أي تغييرات جوهرية بمسألة الدعم المالي والسياسي لسوريا، بل أكد ممثلو الدول على مواقفهم السابقة من سوريا، إذ أكد الاتحاد الأوروبي على اللاءات الثلاث (لا للتطبيع، لا لرفع العقوبات، لا لإعادة الإعمار) حتى الدخول بعملية سياسية تؤدي إلى مرحلة انتقالية.
وتابع العشي أن كل الدول أكدت خلال المؤتمر التزامها بمساعدة السوريين، لكن على هامش الجلسات برز الحديث عن انخفاض بالموازنات المالية عند أغلب الدول، غير أن ذلك لم يظهر خلال الخطاب العلني، الأمر الذي قد سيتضح أكثر في المؤتمر الوزاري للمانحين.
عضو “هيئة التفاوض السورية” ورئيسة لجنة المعتقلين، أليس مفرّج، قالت لعنب بلدي، إن الدعم المالي المقدّم عبر “بروكسل” يخضع لقرارات سياسية من كل دولة أوروبية، وهو يتأرجح كل عام، مشيرة إلى وجود حاجة ماسّة لزيادته هذا العام، وهو ما تأمله “هيئة التفاوض” بسبب الحاجة المتزايدة للسوريين والظروف السيئة التي يعيشون فيها.
وذكرت أن الأهم هو محاولة الاتحاد الأوروبي ضبط هذه المساعدات وضمان استغلالها بدقة وشفافية وفي مكانها المناسب وعدم مرورها عبر النظام السوري، خاصة أن اللغط الآن يتمحور حول التعافي المبكر وإشكالية المفهوم ومقارباته المتعددة، إذ لا يمكن لجهود تحقيق التنمية المحلية التكاملية أن تكون مجدية دون بنائها على معايير مشروطية حقوق الإنسان والعدالة، وإلا سيتفاقم الوضع بتعزيز الانقسام الموجود ودعم الاستبداد وشرعنة دعوات التطبيع مع النظام، وفق مفرّج.
فيما يخص الشق المالي أكدت كل الدول خلال المؤتمر التزامها بمساعدة السوريين، لكن على هامش الجلسات برز الحديث عن انخفاض بالموازنات المالية عند أغلب الدول، غير أن ذلك لم يظهر خلال الخطاب العلني، الأمر الذي قد سيتضح أكثر في المؤتمر الوزاري للمانحين.
أسعد العشي
المدير التنفيذي لمنظمة “بيتنا سوريا”
الباحث المختص في العلاقات الدولية محمود علوش، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن الحرب الروسية على أوكرانيا خلقت تحديات جديدة بالنسبة للدول الغربية، ثم جاءت الحرب على غزة لتزيد من تلك التحديات، وتسهم في تغيير السياسات المانحة للدول الغربية، التي لم تعد بمقدورها أن تكون سخية في تقديم الدعم الإنساني للسوريين”، وفق رأيه.
كما جعل التدخل الروسي في سوريا عام 2015 الغرب يدرك أيضًا أنه لم يعد قادرًا على التأثير كثيرًا على الوضع في سوريا، ما أسهم في تغيير سياساته المالية أيضًا تجاه السوريين.
تغير المزاج الدولي في التعاطي مع الملف السوري والاتجاه نحو التطبيع مع الأسد، قد ينعكس كذلك على كيفية توزيع أموال المانحين، حيث تسود مخاوف حول تحويل المساعدات عبر النظام السوري، وما يرتبط بها من قلق بالغ حول الفساد وعدم الكفاءة في توزيع تلك المساعدات بشكل عادل وشفاف، وسرقتها من قبل النظام.
ويرى علوش أن الوضع السياسي في سوريا وتعاطي الدول الغربية معه، ربما أسهم في تخفيض الدعم المالي قليلًا لسوريا والدول المجاورة التي تحتضن اللاجئين، لكنه لن يؤدي إلى توقفه أو تراجعه كثيرًا، لأن تلك الدول لديها توجس من الانهيار الاقتصادي في لبنان وانعكاسه على اللاجئين على سبيل المثال، لأن ذلك سيؤدي حينها لموجات لجوء نحو أوروبا.
عدم الإيفاء بالتعهدات.. ما الأسباب
عُقدت سبعة مؤتمرات حول سوريا في بروكسل بدءًا من عام 2017، لكن معظمها كان مخيبًا للآمال لكثير من المنظمات والمؤسسات الإغاثية التي وجدت أن المبالغ المعلن عنها من قبل المانحين “غير ملائمة على الإطلاق، وأقل بكثير مما هو مطلوب من احتياجات السوريين”.
لكن المشكلة الكبرى أنه حتى تلك المبالغ المتعهد بدفعها لم تصل بالكامل.
وشدد المدير التنفيذي لوحدة دعم الاستقرار، منذر السلال، على أن المشكلة ليست بإقرار الدعم المالي من قبل الدول المانحة، بل بالإيفاء بالتعهدات التي ستعلن عنها الدول، معتبرًا أن مقياس نجاح المؤتمر يكون بقدر الإيفاء وليس بقدر التعهدات.
من جهته، يرى أسعد العشي أن سبب تخلف بعض المانحين عن الإيفاء بتعهداتهم يعود إلى نوع التعاقد، فإذا كان التعاقد لمدة قصيرة يلتزم المانح إجمالًا بتسديد الأموال، ولكن إذا كان العقد لمدة طويلة، يكون هناك بند يؤكد أن العقد سيخضع كل عام لموافقة البرلمان، فإذا قرر البرلمان أنه لن يصرف بقية المبالغ الموقعة في العقد، يحق للمانح حينها التوقف عن إرسال الدفعات إلى المنظمات في سوريا.
ويصدر الاتحاد الأوروبي في أيلول من كل عام ورقة مراقبة حول مدى إيفاء كل دولة بالتزاماتها التي أعلنت عنها خلال مؤتمر المانحين.
المدير التنفيذي لـ”وحدة تنسيق الدعم”، محمد حسنو، قال لعنب بلدي، إن عدم إيفاء المانحين في “بروكسل” بالتعهدات، من المتوقع أن يتكرر مجددًا هذا العام، لعدم وجود إلزام سياسي أو قانوني لهم بدفع تعهداتهم، كما أن المنظمات العاملة في الداخل السوري، تعاني من العشوائية وضعف الإدارة وعدم ضبط العمل وغياب الحوكمة، إضافة إلى أن كل منظمة تعمل على حدة دون تنسيق مشترك مع بقية المنظمات، وهذا يسهم في غياب العدالة الاجتماعية، وتوجيه أموال المانحين لبعض الأماكن وحرمان أماكن أخرى من الدعم.
أما الباحث المختص في العلاقات الدولية محمود علوش، فقال في حديثه إلى عنب بلدي، إن الدول الغربية لم تعد تعطي أولوية للانخراط الفعال بمسار الصراع في سوريا، من أجل التأثير عليه والدفع باتجاه حل سياسي، حتى إن كثيرًا من الدول الغربية بدأت تغير نهجها تجاه الوضع في سوريا، وتتعامل على أساس أن الأسد باقٍ في السلطة، وهذا كان له تأثير بسياسات المانحين في “بروكسل” تجاه سوريا، وتسبب في تراجع الدعم المالي لها وتوظيفه باتجاه دول وقضايا أخرى.
ثلاث قنوات لإيصال تعهدات “بروكسل” إلى سوريا
تصل الأموال من المانحين في “بروكسل” إلى الداخل السوري عبر ثلاث قنوات.
القناة الأساسية والأولى هي الأمم المتحدة، إذ تعطي معظم الدول كل الأموال التي تعهدت بدفعها للأمم المتحدة، التي تأخذ جزءًا كبيرًا منها من أجل النفقات التشغيلية الخاصة بها، ومن ضمنها رواتب الموظفين العالية وتكلفة عقد الاجتماعات والحجوزات وأجور المكاتب وغيرها من النفقات، التي تؤثر بشكل كبير على حجم الكتلة الرئيس وما يصل منها للمحتاجين.
القناة الثانية عبر المنظمات الدولية التي تقتطع أيضًا جزءًا لا بأس به من مبالغ المانحين لتمويل أنفسها، ثم تقوم بإرسال الأموال عبر جهات وسيطة في مختلف مناطق السيطرة السورية.
القناة الثالثة تكون عبر المنظمات السورية المنتشرة حول العالم، أو منظمات سورية موجودة في دول الجوار (لبنان وتركيا والأردن وكردستان العراق)، وهذه المنظمات إما أن تكون لها فرق في الداخل تنفذ هذه المشاريع، أو تبني شراكات مع مؤسسات في الداخل السوري لتنفيذ المشاريع.
تحصل الأمم المتحدة على الحصة الكبرى من أموال المانحين بنسبة 65%، بينما تذهب 25% من هذه المنح للمنظمات الدولية، وتأخذ المنظمات السورية 10% فقط.
أسعد العشي
المدير التنفيذي لمنظمة “بيتنا سوريا”
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :