علي عيد
في يومها العالمي، الموافق 3 من أيار، لا يعلم الصحفيون أيحتفلون أم يرثون لحال الصحافة، وهي تشيع جثث فرسانها الذين قُتل منهم 50، بينهم 13 في فلسطين، وفق تصنيفات منظمة “مراسلون بلا حدود” في عام 2023، بينما تشير أرقام جهات أخرى إلى عدد أكبر، بينما يقبع نحو 818 في المعتقلات والسجون، وسجل 67 على أنهم رهائن، و109 على أنهم مفقودون.
ولأي سبب يدفع هؤلاء ومجموعهم 1044 تلك الأثمان، سوى نقل الحقيقة، والدفاع عن حق الناس في الوصول إلى المعلومات.
يستحق حال حرية الصحافة في العالم وقفة مناصرة وتحشيد، لوقف استهداف كوادرها، ويستحق حال الصحافة في سوريا، على وجه الخصوص، التفكير مليًّا فيما وصل إليه، فبعد 13 عامًا من النضال من أجل كلمة الحرية، ها هي حرية الصحافة في البلاد تسجل المرتبة 175 على مستوى العالم في مؤشر حرية الصحافة خلال عام 2023، ثم تنحدر إلى المرتبة 179 وما قبل الأخيرة، في الثلث الأول من عام 2024، كما تسجل المرتبة الأخيرة 180 على مستوى العالم في المؤشر الأمني.
سوريا اليوم بلد غارق في الفوضى الأمنية والتقسيم، والفساد، وليس واضحًا أن ثمة رغبة لدى القوى المسيطرة في التغيير أو إتاحة الفرصة لحرية الكلمة، فالسلطة في دمشق تمسك بمفاصل الإعلام، وتتفنن في إصدار القوانين والتشريعات والضوابط التي تكبّل عمل الإعلام، وتعمل على تعقيم البلاد وإفراغها من أي شكل من الصحافة الحرة، فلا صحافة مساءلة، ولا صحافة حلول، ولا صحافة بيانات، وحتى الخبر يخضع لأقصى درجات التصفية.
لا يدفع الصحفيون السوريون الأثمان في بلادهم فقط، فهم يخضعون للتضييق والرقابة في الدول التي لجأ قسم كبير منهم إليها، فالصحافة السورية اللاجئة تناور في مساحات ضيقة، وتتعرض كوادرها للاعتقال والتوقيف، في ظاهرة استثنائية تعكس ما يشبه رغبة سياسية لدى دول الجوار السوري وغيرها في قتل المعلومة الحقيقية حول ملايين اللاجئين، كما يشهد دعم الصحافة الحرة في سوريا انحسارًا ملحوظًا على المستوى الدولي، وبات مقياس الاهتمام مرتبطًا بأولويات الجغرافيا والصراعات، فالحرب في أوكرانيا وغزة، وصراعات الطاقة والممرات البحرية، تكشف عن رغبة في التخلي، مع تجاهل أن الصحافة هي الشريك الأول للتعافي، وعين العالم على برامج الدعم السياسي والاقتصادي، ووعي الملايين حيال ما حل أو سيأتي.
بينما أغلظت السلطة في دمشق السلاسل على نشاط الإعلاميين، وأخصت الحريات، بقوانين قمعية، ها هي تفسح المجال فقط لوسائل إعلام تمولها هي، وأخرى تمولها إيران وروسيا أو حكومات هنا وهناك، وإذا استمر الحال على هذا النحو، فعلى العالم أن ينتظر نسخة جديدة لنظام يتغلغل الفساد في مفاصله، ويسحق القهر والجهل أبناءه، بغياب الإعلام الحر والمستقل الذي يمثل عين الناس ورقابتهم على أداء المؤسسات، ونافذتهم لمعرفة ما يدور حولهم، وأداتهم للمشاركة في صنع القرار وتشكيل رأي عام حيال ما يهمهم في الشأن العام.
لقد قدمت الصحافة السورية نخبة من أبنائها ضحايا من أجل الحقيقة، ودفع المئات منهم ثمنًا باهظًا بغيابهم القسري عن البلاد خوفًا من مصير أقران لهم قضوا في السجون والمعتقلات أو لا يزال مصيرهم مجهولًا.
في 3 من أيار 2018، وقفت في ساحة التحرير بالعاصمة الفرنسية باريس، في احتفال اليوم العالمي لحرية الصحافة الذي نظمه الاتحاد الدولي للصحفيين (IFJ) بالتعاون مع نقابات الصحافة الفرنسية (SNJ,SNJ-CGT, CFDT) الأعضاء في الاتحاد، وقلت وقتها باسم مئات الصحفيين المنفيين من زملائي: “يبدو الصراع من أجل الحرية والعدالة، ذلك الصراع الطاحن الذي نعيشه كل يوم، نحن الصحفيين السوريين، هو في حقيقته مقاومة للاستبداد والمنع، هو صراع ضد الاستلاب”.
واستعرت مقولة الأديب النمساوي شتيفان تسفايغ (Stefan Zweig): “كان علينا أن نتعوّد بالتدريج أن نعيش بلا أرض تحت أقدامنا، وبلا عدالة، ولا حرية، ولا أمن”.
كما تشرفت بتفويض زملائي في “رابطة الصحفيين السوريين” وقتها بأن أقول عنهم بأننا “لم نكن ولن نكون كما أريد لنا، وأننا سنبقى حراس الحقيقة والكلمة الحرة”، ها نحن بعد سبع سنوات “مستمرون في التأكيد على رسالتنا في الاستقلال، والسعي لضمانات قانونية لحرية الصحافة، ومحاكمة مرتكبي الجرائم ضد الصحفيين”.
و”نجدد عهدنا من أجل حرية بلادنا وأمنها واستقرارها وازدهارها، ومن أجل سلام يعم هذا العالم”.
ماذا يمكننا أن نهدي يوم حرية الصحافة غير التزامنا؟ وأن نعاهد من قضوا على مذبحها في سوريا والعالم بأن أقلامنا لن تسقط من أيدينا.. وللنضال بقية.