في عشق النهيق
غزوان قرنفل
عندما قرأت وسمعت الخبر المتداول عن خروج مجموعة كبيرة، تجاوزت ألفًا ومئتي شخص من الشبان العرب في مدينة هامبورغ بألمانيا، ترفع شعارات، وتهلل وتكبّر، وتهتف بوجوب إقامة دولة “الخلافة” في ألمانيا، لم أصدق هل حقًا الخبر صحيح أم مجرد فبركة وتهريج لا أكثر، لكن ثبت لي من خلال بعض المقيمين هناك والفيديوهات المتداولة والأخبار المكتوبة أن الموضوع جدي وليس خبرًا مفبركًا.
لن أزعم أن هؤلاء لا يمثلون الإسلام والمسلمين، كما يقول كثير من الناس ممن يفترضون أنهم يحاولون النأي بدينهم عن هذه السلوكيات الشاذة والمنفرة، لكن هم حقًا يمثلون ثقافة دينية ومجتمعية مفرطة في العته والضحالة والجهل، ليس فقط لأن من فعلوا ذلك يسيئون لعموم العرب والمسلمين، ويسيئون لدين الله الذي لا يعرفون أبجدياته حقًا، وإنما أيضًا يسيئون لبلد فتح ذراعيه لهم فأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
فهؤلاء المعاتيه الذين أدمنوا الذل والبطش وانتهاك الحقوق، لم يتمكنوا من التكيف مع متطلبات وشروط الحياة الطبيعية المعاصرة التي لا تتدخل فيها الدولة في خيارات الناس الإيمانية والعقيدية، وتتيح لعموم الناس على مختلف مشاربهم وأديانهم ومذاهبهم جميع الحريات الطبيعية والأساسية للإنسان، بحماية القانون وتحت سقفه، بل تمادوا كثيرًا في فهمهم لتلك الحريات وصاروا يطلبون ما لم يكونوا يجرؤون على المطالبة به في بلدانهم (المسلمة)، التي فرّوا منها أصلًا بحثًا عن ملاذ آمن يؤويهم ويحميهم من بطش حكومات دولهم وبلدانهم، التي تنتهك لهم دينهم وعقائدهم وأعراضهم وحيواتهم كل يوم، سرًا وجهرًا وعلى رؤوس الأشهاد.
والسؤال الذي يلح على العقل في هذا المقام هو، طالما أنكم تريدون دولة “إسلامية” تحتكم إلى شرع الله وشريعته، لماذا فررتم زرافات ووحدانًا من بلدانكم ولم تقيموا فيها دولة الخلافة المزعومة، أو المتخيلة في عقولكم المعطوبة، وهرعتم عبر مخاطر البر والبحر إلى دول “الكفر” و”الشرك” و”الجهالة”، التي قدمت لكم طيب الإقامة والطبابة والحماية والرعاية وأنقدتكم مالًا لم تتحصلوا عليه قط في بلدانكم، لتسهّل عليكم سبل عيشكم وإكسابكم تعليمًا ولغة وخبرة للانتقال إلى سوق العمل المتاح أمامكم في كل لحظة!
والحقيقة أنني لم أجد جوابًا لهذا السؤال، سوى أن هؤلاء ليسوا إلا مرضى نفسيين من عشاق النهيق القومي أو الإسلامي، يعانون من حالة خبل ذهني وعطب عقلي يجعل الشعوب والحكومات المضيفة لهم في حالة حيرة مما ترى وتسمع، وتدفع تلك الحكومات إلى اتخاذ إجراءات صارمة تجاه عموم اللاجئين فيها والقادمين إليها، وهي محقة في ذلك بلا شك، فتضيق على من هم فيها وتغلق الفرص على من هو آتٍ إليها، لا لشيء إلا لكونها لا تريد متطرفين ومخبولين وناعقين وناهقين في مجتمعاتها، فيكون الصالح القليل ضحية الطالح الذي من الواضح أنه ليس بالقليل، فالأمر لا يقتصر على ثلة تهتف لدولة خلافة متوهمة، بل يشمل آلافًا ممن يرتكبون مختلف أنواع الجرائم من التحرش إلى الاغتصاب إلى اضطهاد النساء والأطفال، إلى العمل خلافًا للقانون، إلى الامتناع عن العمل والعيش على المعونات الحكومية، وتدفع بالأحزاب اليمينية التي بدأت تطفو على سطح الحياة السياسية في تلك البلدان إلى تصعيد مواقفها الرافضة لاستقبال اللاجئين، وتكتسب بذلك شعبية أكبر، وفرصًا أوسع لتولي السلطة في بلدانها، مما سيكون له أبلغ الأثر السلبي على عموم اللاجئين فيها وعلى القادمين إليها.
ألم يسمع أو يقرأ هؤلاء عما تتخذه حكومات الدول الأوروبية من إجراءات، وما تقره من قوانين يعتبرها ناشطو حقوق الإنسان ومنظماتهم تضييقية على اللاجئين؟ ألم يسمعوا بإقرار البرلمان البريطاني قانون إعادة اللاجئين إلى رواندا وتوطينهم فيها؟ ألم يقرؤوا عن الاتفاق الإيطالي مع ألبانيا لنقل طالبي اللجوء ممن تنقذهم من البحر إليها ريثما ينظر بطلبات لجوئهم وعند رفضهم تتم إعادتهم إلى بلدانهم؟ أو عن الاتفاق الفرنسي- الإيطالي مع تونس لنفس الغرض! ألم يعلموا أن أيرلندا بصدد تشريع قانون جديد يحرم طالبي اللجوء من فرصة اللجوء إليها، وخاصة أولئك الفارين إليها من المملكة المتحدة بسبب اتفاقها مع رواندا؟ ألم يسمعوا بإقرار البرلمان الأوروبي لميثاق الهجرة الجديد؟ ألا يتابعون ويشاهدون ويسمعون كيف يتم ترحيل السوريين من لبنان والعراق وتركيا! أم أن تلك العقول الصدئة لا تستوعب أن الدول والحكومات ضجّت وضجرت من موضوع اللاجئين والهجرة غير الشرعية ليأتي هؤلاء ويزيدوا الطين بلة في مطالبتهم بتقويض النظام القانوني والسياسي للدولة الألمانية وإقامة دولة الخلافة فيها!
وأنا أقول لهؤلاء ولمن هم مثلهم في نمط التفكير وطريقة العيش، ألا تعولوا كثيرًا على مكتسبات تلك الدول في منظومة الحريات والحقوق ولا تحاولوا استغلالها، لأنها عندما يجد الجد وتشعر بالمخاطر المجتمعية التي قد تنال منها ومن استقرارها وأمن مجتمعاتها، فليس هناك أسهل من تشريع قانون يلغي لكم كل ما اكتسبتموه من حقوق أو يقيده على نحو يجعل وجودكم في تلك الواحات الحرة جحيمًا، طالمًا أنكم مصرون على البقاء من عشاق النهيق.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :