قاد تطور الحالة الفنية في مجال الغناء في المناطق المحررة خلال سنوات الثورة، لتأسيس فرق للغناء والإنشاد، وأخرى للرقص الشعبي والفلوكلور، وبدأت أعدادها تزيد مع توسع رقعة المناطق المحررة، وصارت هذه الفرق تقيم الحفلات والكرنفالات والمهرجانات، وتحيي الأعراس، ولكن ربما حد من انتشارها لاحقًا دخول الفكر “المتشدد”، إذ حارب كل تنظيم “الدولة” والتنظيمات “التكفيرية” كل هذه النشاطات عندما أدخلت فكر التحريم والتكفير، مما دفع بالفنانين إلى الهجرة، لا سيما بعد عمليات الاعتقال، واقتصرت مثل هذه الفعاليات على المناطق غير الخاضعة لسيطرة هذه الفصائل.
فرقة التراث الحلبي.. تأكيد على التراث الشعبي رغم الحرب
تأسست فرقة التراث الحلبي قبل الثورة بسنوات، وضمت فريقًا للرقص العربي وآخرًا للمولوية، وشاركت في الكثير من المهرجانات داخل سوريا وفي العديد من الدول العربية كما روى لعنب بلدي أحد أعضائها، عبد الرحمن مجوز.
وخسرت الفرقة الكثير من كوادرها بسبب القصف الشديد، فمنهم من قضى ومنهم من هاجر، وقال مجوز في هذا الصدد “كانت تتكون فرقتنا من 20 شخصًا، أصبحت الآن ثمانية فقط، ولكن من تبقى منها حافظ على كيان الفرقة وعملها، ومازلنا الآن نمارس نشاط فرقتنا في مدينة حلب”. مشيرًا إلى أن ممارسة الرقص وإحياء الحفلات ليست أكثر من هواية.
يرى مجوز أن ثبات الفرقة في أرضها ومزاولتها لفنها، “هي رسالة كبيرة للعالم، بعدم التخلي عن القضية التي اخترنا السير فيها منذ اندلاع الثورة، وبقاءنا وثباتنا حتى النصر”.
ويضيف أن الناس لم تفقد شغفها بالفن والتراث الشعبي، بالرغم من قسوة الحرب والظروف التي عاشوها، وإلى الآن مازالوا يملكون حب الحفلات والسهرات، ولكن ما يعيق إحياءها هو الخوف من التجمعات التي تكون دائما هدفًا لقصف النظام، ما حد من انتشارها.
“صيحة حرية”.. صرخة فن من وسط الحصار
منذ أيام الثورة الأولى انتفض الريف الدمشقي والغوطة نصرة لأهالي درعا، وانطلقت فيها المظاهرات التي سرعان ما أخذت شكل “المسائيات الثورية” التي يعلو فيها الغناء الدمشقي.
كانت فرقة “صدى الإيمان” واحدة من فرق الإنشاد المعروفة في دمشق قبل الثورة بـ 15 عامًا، كانت تغني في احتفالات ليالي دمشق ومهرجاناتها وتشارك في إحياء الأعراس، كما لها نشاطًا خارج سوريا.
اختار الفريق الالتحاق بركب الثورة منذ انطلاقها، وحاول تجميع عناصره لينشئ ما عرف بفريق “صيحة حرية” في أيار 2011.
وبدأ عمل الفرقة بشكل سرّي مثل أي نشاط ثوري إعلامي. وقال عن تلك الفترة المدير العام لمؤسسة صيحة حرية، شادي الحسن، في حديث خاص لعنب بلدي، “أطلقنا أول عمل لنا (يا شهيد)، وكان عملنا سري للغاية بسبب الملاحقات الأمنية، وكنا نسوق لفكرة أن مؤسستنا تعمل من خارج سوريا”.
وأضاف الحسن “كانت أعمالنا تعرض في المسائيات الثورية، وكنت أنا وزملائي نحضرها، ولا يعلم أي إنسان أن إنتاجها قد تم في الغوطة، ولقد لاقت حينها صدى كبيرًا”.
بعد تحرير الغوطة الشرقية، أصبح عمل صيحة حرية كمؤسسة، واتخذت مقرًا لعملها، وبدأ إنتاجها الفني يتوالى، وفي ذلك، أشاد الحسن بعمل مؤسسته “التي بدأت تكبر”، وقال “كانت معداتنا متفرقة قبل تحرير الغوطة، ومباشرة بعد التحرير جمّعناها وبدأنا نعمل كمؤسسة إنتاج”.
“كان لنا السبق بأول مهرجان إنشادي على مستوى الثورة السورية (مهرجان ربيع الشهداء) الذي أقيم في حزيران 2013” وفق رواية الحسن، الذي اعتبر أن المهرجان لاقى صدى كبيرًا، وحظي بتغطية إعلامية ضخمة عرضت على عدة قنوات تلفزيونية، ولاقى أيضًا إقبالًا ضخمًا، واصفًا الجمهور بـ “الأعداد الكبيرة التي لم تتسع المقاعد لها”.
عروض لتنفيذ أعمال من خارج سوريا
بدأت أعمال الفريق تأخذ صدى إعلاميًا كبيرًا، وبدأت عروض تنفيذ أعمال لقنوات تلفزيونية خارج سوريا تقدم لهم.
يقول الحسن “طلبت منا قنوات تنفيذ عدة أعمال، وكان اختصاصنا موسيقى المقدمة لبرامج، أو الفواصل الموسيقية، كون امكانياتنا للصورة محدودة، ولا نملك التجهيزات والكاميرات وغيره”.
وأعقب الحسن “أنتجنا عدة أعمال لقناة شدا وقناة الوصال، كما ساهمنا بإنتاج أفلام وثائقية بالتعاون مع مؤسسات أخرى، مثل الفيلم الوثائقي بعنوان (قاتل الطفولة) بالتشارك مع مؤسسة شبكة مراسلي ريف دمشق، وفيلم (الموت القادم من قاسيون) والذي عرضته قناة أورينت الفضائية”.
يعتبر الحسن أن فريقه استطاع أن يثبت حرفية في العمل، كونه ينتج أعماله كاملة دون اقتباس، ابتداءً من وضع الكلمة إلى التلحين، انتقالًا إلى التوزيع والأداء، وأخيرًا النشر.
هكذا كان لفريق صيحة حرية بصمة في عمله ميزته عن غيره برأي الحسن، الذي قال “ولكن هذا لا يمنع من إحياء بعض الأناشيد القديمة التي يراها الدمشقيون تراثًا شعبيًا له رمزيته وذكراه، وكنا كل فترة من الزمن نعيد تسجيل هذه الأناشيد التراثية ونقدمها للناس بقالب جديد وتوزيع جديد، ما جعل الكثير من الجهات الخارجية تتواصل معنا وتطلب أعمالنا لعرضها على قنواتها”.
يوضح الحسن “كنا نحرص دائمًا أن نأتي بالجديد، وإنتاج (عمل ناجح) هو تحد صعب بحد ذاته، فالبحث عن الكلام الجميل والذي يصح للتلحين، والبحث عن اللحن العذب ليس بالمهمة السهلة”.
وعليه اعتبر الحسن أنهم نجحوا أخيرًا بوضع بصمة واضحة لهم، وأردف “القبول الذي نراه عند الناس، والكلام الذي نقرأه بعيونهم، يقول لنا بنا رسالتنا وصلت”.
مرحلة جديدة والعمل كمؤسسة إنتاج فني
اعتبر المنشد شادي الحسن أن مرحلةً وحقبةً جديدةً بدأت في عمل الفرق الإعلامية في الغوطة الشرقية، قبل سنة ونصف، إذ اتجه العمل إلى تضافر الجهود وتكاتف المؤسسات. فكوّن فريق “صيحة حرية” مؤسسة إنتاج فني تمتلك استوديو احترافي لإنتاج الصوت، أصبحت تستقطب بقية المؤسسات لإنتاج أفلام وثائقية أو تسجيل تقارير أو إشراف فني على أعمال من قبيل تنظيم مهرجانات أو مؤتمرات، وقال الحسن في هذا السياق “صرنا نقدم خدماتٍ واستشاراتٍ ودعمًا للمؤسسات الأخرى التي تعمل على الأرض، وهذا ما شكل ضغطًا كبيرًا علينا في حجم العمل، ما بين إنتاج العمل الخاص بمؤسستنا، والإشراف على الحفلات والتدريب، وتنفيذ أعمال المؤسسات الأخرى”.
أضاف الحسن “وصلنا لمرحلة ما عدنا قادرين على تغطية احتياجات الغوطة الشرقية، وبدأنا بالتفكير بإطلاق دورات تأهيل بالقريب، تعلم تقنيات إنتاج الصوت والتعامل معه، حتى نرتقي بالخبرات ونخفف ضغط العمل على فريقنا”.
إنتاج ضخم وتمويل ذاتي ضعيف
يموّل فريق صيحة حرية ذاتيًا حتى اللحظة، ويعتمد على الأجور التي يصفها الحسن بـ “الرمزية” والتي يتقاضاها الفريق لقاء أعماله، وهذا ما أدى إلى توقيف العمل عدة مرات، وقال “تعرض مقرنا للقصف المباشر خمس مرات، وبسبب عدم توفر الدعم، كان فريقنا يتوقف عن عمله لمدة شهر أو أكثر حتى يتمكن من ترميم المقر”. ولكن ومع الظروف القاسية التي عاشتها الغوطة من حصار وتجويع وقصف، يعتبر الحسن ما أنجزوه “نوعيًا” كمؤسسة، تشكلت وكبرت في ظل الحرب، وفي أكثر المناطق السورية معاناةً وألمًا.
تابع قراءة ملف: الفن السوري في المناطق المحررة… أوركسترا بلا قائد.
– “الغناء للوطن” مع شرارة الثورة الأولى.
– فن الثورة السورية وموت “حارس البوابة”.
– حركات فنية وأهازيج توحّد خطاب السوريين السياسي.
– أغان ثورية وصلت شهرتها إلى العالمية.
– تحرر الأغنية الثورية من تزكية مخابرات النظام.
– تطور فن الغناء من الفردي إلى الجماعي في المناطق المحررة.
– بناء مسرح للأطفال في إدلب وتعليم الخط العربي.
– دخول العسكرة والتشدد قيّدا فكر الثورة.. لكن لرسامي الكايكتير كلمة!
– رسام حوران: الألم يولد فنًا وإبداعًا.
– مجلة أكرم رسلان.. تغطية أحداث الثورة برسوم الكاريكاتير.
– فنانوا الغوطة يحوّلون أدوات الموت إلى تحفٍ فنيةٍ.
– رسائل “ثورية” على جدران بنش.
– غياب النخب والكوادر الفنية وشركات الإنتاج قيّد العمل الدرامي لصالح النظام.
– محاولات فنية من لا شيء.. فرقة طريق الخبز.
– “بقعة ضوء” الثوار.. كوميديا سوداء.
– راديو فريش في إدلب تدخل تجربة الإنتاج المرئي.
– وزارة الثقافة المؤقتة.. دور “معدوم” في تطوير الفن الثوري.
– الفن وعلاج الأطفال.. حكايا من الداخل السوري.
– يارا صبري: نحن بحاجة لمؤسسات وطنية تجمع الكوادر الفنية.
– الفن السوري الكردي يرسخ هوية سوريا الجامعة.
– الفن السوري والنزع الأخير.. صراع من أجل البقاء.
لقراءة الملف كاملًا: الفن السوري في المناطق المحررة.. أوركسترا بلا قائد.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :