الطريق الأقرب إلى القلوب، والرسالة الأصدق التي تنبع من القلب، هي الأغنية التي اختارها السوريون منذ انطلاق الثورة كوسيلة للتعبير عن احتجاجاتهم ومطالبهم بإسقاط النظام في مظاهراتهم، لاسيما أن فن الغناء متأصل في السوريين منذ القدم.
وأكثر الأسماء التي لمعت في الثورة السورية وحلت محل القيادات لهذا الحراك الشعبي (الذي لم يترأسه قائد محدد) كانت لمنشدي الثورة ممن قادوا المظاهرات، على رأسهم “حارس الثورة” عبد الباسط الساروت، و”قاشوش حماة” و”أبو مالك الحموي”، ثم الحلبيان عبد الوهاب الملا، و”أبو الجود”.
وكانت أغنية “يا حيف” للمغني سميح شقير ابن السويداء، التي أطلقها في بداية الحراك الشعبي تضامنًا مع درعا، مهد الاحتجاجات السورية، نالت شهرة واسعة. تزامنت معها أغنية الموسيقىر الحمصي مالك جندلي “وطني أنا”، التي أثارت النظام ودفعته لاقتحام منزله في حمص والتعرض لوالديه بالضرب.
عبد الباسط ساروت.. المنشد الأول
حارس نادي الكرامة السوري، ومنتخب سوريا للشباب، ومنشد الثورة الأول الذي ذاع صيته في كل الوطن العربي، حين تميز بإحياء المظاهرات بصوته الشجي وأغانيه التي لاقت صدًى كبيرًا عند الناس، أشهرها “جنة جنة جنة… جنة يا وطنا”.
كان الساورة يعتلي منصة “الليالي الثورية” ليحي أمسية في حي الخالدية الحمصي حيث يقطن، ترافقه الممثلة السورية فدوى سليمان، والتي تنتمي للطائفة العلوية، ليوصلا بوقوفهما سوية جنبًا إلى جنب في الاحتفالات الثورية السورية أكبر رسالة للنظام السوري، مفادها أن العلوي والسني وكافة مكونات الشعب السوري واحدة وترفض الطائفية، وليؤكدان على أن ثورة الشعب هي ضد نظام الأسد.
قاشوش حماة.. وسيمفونية “يلا إرحل يا بشار “
أخذت المظاهرات في حماة شكلًا فريدًا في الثورة السورية، وجذبت حشود “المليونية”، التي تكررت على مدى شهرين في أيام جمع متتالية في ساحة العاصي، كل الأنظار إليها، حتى اقتحم جيش النظام المدينة مع بداية رمضان 2011 لينهي الحراك السلمي فيها.
كان المنشد الحموي الملقب بالقاشوش، أو المعروف بالرحماني، هو الرمز الأكبر في هذه الملحمة الوطنية، والحنجرة الأكثر شهرة، والذي أطلق أغان خلدها تاريخ الثورة بعفويتها وبساطتها، كان أشهرها “سوريا بدها حرية” و”يلا ارحل يا بشار”، والتي باتت رمزًا للاحتجاجات، وصلت شهرتها للعالمية، وخلدها الموسيقىر مالك جندلي بسمفونيته الشهيرة.
نال القاشوش من الشهرة ما جعل اسمه لقبًا يطلق على أي منشد في الثورة، حتى تاريخ اللحظة، ليقال قاشوش درعا، وقاشوش إدلب.. الخ.
وبحسب مقربين منه “كانت جرأته على الظهور كاشفًا وجهه أمام الحشود، هي السبب الرئيسي في نيله هذه الشهرة العالمية”.
وعليه، أصبح القاشوش الهدف الأول للنظام عندما اقتحم جيشه مدينة حماة، وسرعان ما ذاع خبر قتله في القنوات الإعلامية، ونشرت صور لجثة مرمية عند نهر العاصي مقتلعة الحنجرة، اعتُقد أنها لمنشد الثورة السورية، ونال خبر مقتله شهرة جعتله موضع نقاش في أروقة الأمم المتحدة.
مطرب الثورة الحلبي “أبو الجود”
مع اقتحام جيش النظام لمدينة حماة، بدأت المظاهرات تكتسح أحياء حلب وجامعتها، وكانت الكلمة الأولى فيها للأهازيج والأغاني، فبرز مطرب الثورة الحلبي جهاد سقا “أبو الجود”، الذي لقب بمطرب الثورة.
وحول تلك الفترة، تحدث سقا لعنب بلدي قائلًا “نحن في حلب لا غنى لنا عن الطرب، وكان الوسيلة التي نعبر فيها عن مطالب ثورتنا، وكنت أغني في المظاهرات وكثيرًا ما كان يرافقني منشدون آخرون أبرزهم عبد الوهاب الملا”.
الشاب سقا، ليس له تجارب سابقة في الغناء، بل كان مجرد هاو يتقن العزف على آلتي البيانو والعود، ويشارك بها في الاحتفالات. وبعد انطلاق الثورة نشط السقا في الأعمال الفنية تمثيلًا وغناءً. يقول “لدي الآن سبعة أغان مكتوبة وملحنة، لحنتها بنفسي، من بينها الأغنية الثورية التي كنت أغنيها في المظاهرات، لكن لم أسجل هذه الأغاني في ألبوم حتى اللحظة لأنها بحاجة لتمويل، ينقصها التوزيع الموسيقي والعازفين، لتحصل على تسجيل احترافي”.
ويشير السقا إلى أن سوريا تمتلك الكثير من المواهب التي برزت في الثورة، من مطربين وملحنين وكتاب، لكن سرعان ما خسرتهم وهاجر معظمهم بسبب ضعف الإمكانيات المادية، وبسبب تمدد المتطرفين.
عبد الوهاب الملا.. وغدر داعش
لمع نجم عبد الوهاب الملا بعد دخول الجيش الحر لأحياء حلب، وانتقال الثورة إلى العسكرة.
كان ثائرًا بروح مرحة، محبوبًا في أوساطه، حلو المعشر خفيف الظل، لا يسكت عن حق، ينتقد الجميع، ويسلط سخريته على المسيئين من كل الفصائل مهما علت سطوتهم، حسبما يقول أصدقاءه والمقربون منه، حتى بدأ بإنتاج برامج ساخرة تركز على أخطاء الثورة، وتنتقد المسيئين نقدًا لاذعًا. يقول عنه زميلة جهاد سقا “كثيرًا ما كنت أنبهه من عواقب نقده العلني محذرًا إياه بأننا نعيش في غابة، لكنه لم يكن يخشى أحدًا”.
أنتج الملا عدة برامج تلفزيونية ناقدة وساخرة، أبرزها “ثورة 3 نجوم” الذي كان طاقمه من معدين ومقدمين ومخرجين نشطاء من حلب، وعرض على قنوات تلفزيونية ونال شهرة واسعة.
ومما تميز به برنامج “ثورة 3 نجوم” هو تناوله لقضايا فكرية وجدلية شائكة، كانت مثار جدل واسع في المناطق المحررة حينها، مع بداية دخول “المتطرفين” بقوة ومحاولة فرض فكرهم وعقيدتهم، وما كان له من أثر عميق في شق الصف بين الثوار. فاستطاع الملا دحض الكثير من حججهم بالرغم من البساطة المتناهية في تعاطيه معها، إلا أنها كانت تحمل حججًا قوية، ما جعله الهدف الأول لتنظيم “الدولة”.
وسجل الملا العديد من الأغاني الثورية، ولاقت صدًى كبيرًا بالرغم رغم بساطة إعدادها وتسيجلها.
وكانت نهاية الملا الاعتقال على يد تنظيم “الدولة” تشرين الثاني 2013، واقتياده إلى جهة مجهولة عندما غادر حلب، ولا يزال مجهول المصير حتى اللحظة.
ألبومات “أبو مالك الحموي” تتحول إلى أعمال فنية خالدة
أطرب الناشط أبو مالك الحموي، الحشود بصوته منذ بداية الثورة، واشتهر بالإنشاد خلال المظاهرات، ولا يزال يؤدي هذه الطقوس حتى اليوم، رغم انحسار مساحات المظاهرات.
اختارته إذاعة “هوا سمارت” المحلية لتسجل له ألبومًا غنائيًا، في خطوة لدعم فناني الثورة، وأنتجت ألبومها بداية العام 2015 ويضم مايقارب عشرة أغاني.
يقول عروة خليفة، أحد معديّ البرامج في الإذاعة، “كان تسجيل هذا الألبوم خطوة منا لدعم الفنانين السوريين الثورين، الذي نعتبره أحد أهداف إذاعتنا، وضم الألبوم أغانٍ للمنشد أبو أسامة الحموي أيضًا، بالإضافة إلى وجود أغنية مشتركة للمنشدَين سويةً”.
وكانت السمة الرئيسية لهذا الألبوم هي وصف حالة الشباب الثوار داخل سوريا، والحديث عن حياتهم وأمانيهم، كما وضح خليفة.
وتميزت جميع أغاني الألبوم بالجدية والحداثة عن تلك التي غناها سابقًا، وشارك في كتابة كلمات بعض منها شباب من الثوار، كما ذكر خليفة، وأضاف “سُجلت الأغاني في استوديو مختص في مدينة اسطنبول، كما تم تسجيل البعض منها في الأردن”.
يصف خليفة العمل بالاحترافي، وقال “إن تلحين الأغاني وإنتاجها تم من قبل موسيقيين محترفين، بالإضافة إلى مشاركة أبو مالك وآخرون في بعض الألحان”.
تابع قراءة ملف: الفن السوري في المناطق المحررة… أوركسترا بلا قائد.
– “الغناء للوطن” مع شرارة الثورة الأولى.
– فن الثورة السورية وموت “حارس البوابة”.
– حركات فنية وأهازيج توحّد خطاب السوريين السياسي.
– أغان ثورية وصلت شهرتها إلى العالمية.
– تحرر الأغنية الثورية من تزكية مخابرات النظام.
– تطور فن الغناء من الفردي إلى الجماعي في المناطق المحررة.
– بناء مسرح للأطفال في إدلب وتعليم الخط العربي.
– دخول العسكرة والتشدد قيّدا فكر الثورة.. لكن لرسامي الكايكتير كلمة!
– رسام حوران: الألم يولد فنًا وإبداعًا.
– مجلة أكرم رسلان.. تغطية أحداث الثورة برسوم الكاريكاتير.
– فنانوا الغوطة يحوّلون أدوات الموت إلى تحفٍ فنيةٍ.
– رسائل “ثورية” على جدران بنش.
– غياب النخب والكوادر الفنية وشركات الإنتاج قيّد العمل الدرامي لصالح النظام.
– محاولات فنية من لا شيء.. فرقة طريق الخبز.
– “بقعة ضوء” الثوار.. كوميديا سوداء.
– راديو فريش في إدلب تدخل تجربة الإنتاج المرئي.
– وزارة الثقافة المؤقتة.. دور “معدوم” في تطوير الفن الثوري.
– الفن وعلاج الأطفال.. حكايا من الداخل السوري.
– يارا صبري: نحن بحاجة لمؤسسات وطنية تجمع الكوادر الفنية.
– الفن السوري الكردي يرسخ هوية سوريا الجامعة.
– الفن السوري والنزع الأخير.. صراع من أجل البقاء.