“بدكن حرية؟”.. أكثر من عقد على مجزرة “البيضا” و”رأس النبع”
“كأنه يوم الحشر، لا أحد يرى الآخر الجميع يريد البقاء على قيد الحياة” بهذه العبارة اختصرت الناجية هالة الشغري، ابنة بلدة البيضا التابعة لمدينة بانياس هول ما رأته من مشاهد قبل 11 عامًا، إذ كانت الجثث المذبوحة والمحترقة تملأ الشوارع والمنازل.
في يومي 2 و3 من أيار 2013، اقتحمت قوات النظام منطقة البيضا وحي رأس النبع في مدينة بانياس الساحلية لترتكب مجزرة “مرعبة”، بحسب ناجين، وسط تباين أعداد القتلى المؤكدين لدى الجهات الحقوقية التي حاولت التوثيق.
وترواحت أعداد القتلى ما بين 300 و450 وفق لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة، و248 شخصًا وفق تقرير صادر عن منظمة “هيومن رايتس ووتش”.
بينما وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 495 شخصًا، مع إصرار من الناجين أن الأرقام الصحيحة لضحايا المجزرة أعلى بكثير.
محاولة إنقاذ
حوالي الساعة السابعة صباحًا، دخلت أرتال قوات النظام السوري و”الدفاع الوطني” و”حزب الله” إلى بلدة البيضا، بعد ساعات مما قالت الجهات الحكومية إنه كمين أودى بحياة ستة عناصر كانوا بمهمة للبحث عن “الإرهابيين”، إثر انتزاع قوى الأمن اعترافات من أحد السكان بوجود عناصر منشقين مختبئين في المنطقة، حسبما ذكر تقرير “هيومن رايتس ووتش”.
سمعت هالة الشغري، إحدى الناجيات من المجزرة برفقة زوجها أحمد محمد الشغري الذي راح ضحية المجزرة، أصوات تقدم قوات النظام والقصف المدفعي الذي كان يستهدف ساحة البلدة، إذ بدأت أصواته تتعالى، ورافقتها مشاهد نزول العناصر من الجبال إلى المنطقة لبدء عملية الاقتحام، بمشهد وصفته هالة بـ”غير الطبيعي”.
هرعت هالة الشغري وزوجها، وفق ما قالته لعنب بلدي، عند رؤية العناصر يداهمون المنطقة بأرتال كبيرة لإيقاظ الأطفال، ليهرّب زوجها الفتيات والأطفال الصغار إلى منزل والدته في القبو (طابق تحت الأرض) لحمايتهم من القصف المدفعي لتبقى هالة وزوجها برفقة شابين في المنزل بعد رفضه الاختباء.
في الساعة 12 ظهرًا، داهم العناصر منزل والدة أحمد الشغري، الذي كان مليئًا بالنساء والأطفال مختبئين من القصف المدفعي ليتعرضوا إلى محاولة قتل عبر إشهار الأسلحة النارية عليهم بهدف تصفيتهم، لكن العناصر تراجعوا في اللحظات الأخيرة وانتقلوا لتوجيه الإهانات للموجودين والركلات والضربات وسرقة المنزل ودراجة نارية للعائلة، وفق هالة الشغري.
محاولة أحمد محمد الشغري نجحت بإنقاذ أطفاله الصغار من الموت تحت القصف أو القتل بالإعدام الميداني، لكنها فشلت بحمايته لنفسه وأبنائه الشبان إذ داهموا منزله ليقتل مع أبنائه عثمان (16 عامًا) ومحمد (18 عامًا).
“ولاك اسجد لربك بشار الأسد ولاك”، بدأ العنصر الصراخ على أحمد الشغري في أثناء محاولته إقناع العناصر أن ما يحدث غير قانوني، ليركع الرجل ويطلق عليه العنصر النار في بطنه وتخرج بعض أمعائه أمام أعين زوجته وأبنائه الذين بدأوا الترجي لإفلات والدتهم.
“قطعوا رأسه أمامي”
بعد بدء الاقتحام ساق العناصر الرجال وبعض النساء والأطفال للإعدام، وأحرقوا البيوت وفجروا السيارات.
قالت هالة لعنب بلدي، إن محاولة إنقاذها من قبل ابنها قوبلت بالضحك والاستهزاء، إذ قال عنصر له، “لن نقتلها سنجعلها تبكي عليكم”، وهذا ما فعله العناصر في الحقيقة.
ظنت هالة الشغري أن ما تراه ليس حقيقيًا، وأضافت أنه حتى أفلام الخيال يكاد ألا تصلح لتمثيل تلك الأحداث بصورتها الحقيقة لصعوبة مشاهد القتل وروائح الجثث المتفحمة، إذ لم يتبق منها سوى الرماد بعد حرقها بالأسيد وصعوبة التعرف إلا على زوجها وابنها محمد لوجود تشوه كان ما زال ظاهرًا على ظفره.
تتابع هالة لعنب بلدي، أن إطلاق النار على زوجها وأبنائها لم يكن كافيًا بالنسبة للعناصر، إذ تعمّد العناصر قطع رأس زوجها أمام أعينها.
ولم تكن الوحيدة التي تعرضت لقطع رأس أقاربها أو أطفالها خلال مجزرة “البيضا”، فجارتها سوسن زوجة يوسف الهرس حاولت إخفاء ابنها الصغير عبر إلباسه غطاء صلاة ليكتشف العنصر بأنه ذكر ويقطع رأس الطفل وهو بحضن والدته ليبقى جسده بحضنها ورأسه مرميًا على الأرض، بمشهد لا تنساه هالة الشغري، على حسب قولها.
وفي تقرير عقب المجزرة بعنوان “لم يبقَ أحد“، قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، إن بعض عمليات الإعدام تمت داخل منازل الأهالي، ووقع بعضها الآخر أمام أحد المباني أو في الساحة الرئيسة للبلدة، وتم الإبقاء على حياة عدد من السيدات والأطفال، لكن غيرهم لم ينجُ.
مع حلول الليل، خرج من تبقى من الرجال لدفن الضحايا، مع استمرار تهديد دوريات قوى الأمن التي تجول في المنطقة، إلى أن انتهى المطاف بالقتلى في مقابر جماعية.
عقب انسحاب قوات النظام من البلدة، ظهر شاب سوري يدعى أحمد البياسي حاملًا هويته الشخصية ليثبت أنه مواطن سوري من أبناء البلدة، متحدثًا عن الاقتحام الذي بدأ بدخول قوات النظام إلى المنطقة لتفتيش أحيائها.
أدلة على المجزرة
بحسب تسجيلات مصوّرة نشرها ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبثتها قنوات تلفزيونية عربية وعالمية، أظهرت العشرات من المدنيين في القرية مكبلي الأيدي، بينما يركلهم عناصر المخابرات السورية، وسط صراخ في خلفية التسجيلات “بدكم حرية؟”.
أحمد الذي تحدثت وسائل إعلام عربية عقب ظهوره بأيام عن اعتقاله من قبل أجهزة الأمن السورية، ومقتله تحت التعذيب في إدارة المخابرات بمنطقة كفرسوسة بدمشق، ظهر عبر وسائل إعلام النظام نافيًا خبر مقتله، لكنه عاد واختفى بعد ظهوره الأخير، ولا يزال مختفيًا حتى اليوم.
كأول تعليق على الصور الواردة من المجزرة، قالت وسائل إعلام النظام السوري، في أيار 2013، إنها لم تحدث في سوريا، رغم أن لهجة المتحدثين في التسجيلات المصوّرة تُظهر أن معظمهم من أبناء الساحل السوري.
وبعد أيام على المجزرة، ظهر تسجيل مصوّر لقائد ميليشيا “المقاومة السورية” الرديفة لقوات النظام، معراج أورال، متحدثًا عن ضرورة تطويق بانياس و”تطهيرها من الخونة” باعتبارها منفذهم الوحيد نحو البحر المتوسط.
“نتناسى لا ننسى”
تستذكر هالة الشغري من السويد بلد لجوئها الجديد بعد تركيا، مشاعر ومشاهد المجزرة في كل وقت، إذ قالت إن من يقول بأنه نسي المجزرة “يكذب كذبة كبيرة”، لأننا “نتناسى لا ننسى”، فهي ذكرى لا يمكن نسيانها طيلة العمر.
لم تنتهِ مأساة البيضا ذلك اليوم، إذ وصلت أنباء عن نية اقتحام جديدة في الصباح، خرجت إثرها العديد من العائلات لاجئة إلى القرى المجاورة للاختباء في منازل عائلات، لتعاود فعلًا قوات الأمن اقتحام البيضا بالتزامن مع دخولها إلى حي رأس النبع في بانياس، لترتكب مجزرة جديدة بحق عائلات بأكملها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :