حسن إبراهيم | خالد الجرعتلي | ريم حمود
لم يشكل إغلاق صناديق الاقتراع بانتخابات الرئاسة التركية في أيار 2023 أو انتخابات البلدية، نهاية آذار الماضي، فارقًا في حياة السوريين الموجودين على أراضيها كما كانوا يأملون، إذ لا يزال التضييق على حياتهم ساريًا، ولا تزال عمليات الترحيل مستمرة.
وباتت عمليات الترحيل نهجًا متبعًا تثبته أرقام المعابر والمنظمات الحقوقية وشهادات المرحلين إلى الشمال السوري، رغم امتلاكهم أوراقًا ثبوتية، أو استناد السلطات إلى أبسط الأخطاء والمخالفات التي يمكن أن يرتكبها السوري، والتي لا يعاقب عليها بالترحيل وفق قانون “الحماية المؤقتة” الخاضع له.
في المقابل، تنفي الحكومة التركية وجود عمليات ترحيل قسري، وتصف سياستها بـ”النموذجية” في التعامل مع اللاجئين، لكن ذلك لم يمنع منذ سنوات أن يكون السوري حاضرًا في خطاب العنصرية لأحزاب معارضة، استخدمت وجود اللاجئ ورقة في حملاتها الانتخابية، متوعدة بإعادتهم إلى بلادهم، ووصلت في بعضها إلى اعتداءات وجرائم قتل لم تجد طريقها نحو محاكم محايدة، رغم مرور سنوات على وقوعها.
وعرّفت رئاسة الهجرة قانون “الحماية المؤقتة” الذي يعيش بموجبه السوريون في تركيا، على أنه شكل من أشكال “الحماية”، طورته تركيا لإيجاد حلول فورية في حالات التدفق الجماعي للاجئين.
تستعرض عنب بلدي في هذا الملف أرقام المرحلين إلى الشمال السوري، وحالات لسوريين وصلوا قسرًا إلى الشمال، وتناقش مع باحثين وقانونيين مسألة الترحيل، ومدى أن تكون ثابتة في السياسة التركية وتمثل توجهات الدولة، والتزاماتها الخارجية التي تمنعها من ذلك، ودور مؤسسات المعارضة السورية في متابعة قضايا الترحيل، وحفظ حقوق اللاجئين السوريين.
شتات بين تركيا والشمال
المعابر تستقبل المرحلين
يشعر عدنان بالقلق على أسرته المقيمة في تركيا بعد أن رحلته السلطات التركية إلى إدلب، في 19 من آذار الماضي، رغم امتلاكه أوراقًا ثبوتية تمنع ترحيله، وذلك خلال خروجه لشراء وجبة السحور.
خرج عدنان نعمو (34 عامًا) من دمشق عام 2012 إلى السعودية بعد تلقيه عقد عمل، وبعد انتهاء عقده عام 2015 انتقل إلى تركيا برفقة والديه وأخته، وأسس شركة للاستيراد والتصدير في اسطنبول، بالإضافة إلى عمله في مجال تداول العملات، ومنذ شهر تم ترحيله إلى إدلب.
وقال عدنان لعنب بلدي، إنه أظهر أوراقه للشرطة التركية في اسطنبول، وأخبرهم أن دائرة الهجرة وعدته أيضًا بمنحه إقامة إنسانية باعتباره معيلًا لوالديه وأخته (من ذوي الإعاقة)، لكن العناصر أصروا على نقله إلى إدارة الهجرة، وبعد وصوله لم يسمحوا له الاتصال بأهله أو بمحامٍ، وثار جدل بين الموظفين فمنهم من يريد نقله لإدارة الهجرة المركزية، ومنهم يريد ترحيله.
بعد جدال لساعات، أُجبر عدنان على التوقيع على أوراق لـ”العودة الطوعية” وأخرى لم يعرف مضمونها، وتم ترحيله إلى إدلب عبر معبر “باب الهوى”.
عدنان يعيش حالة قلق على عائلته، فهو المعيل الوحيد لها، معتبرًا أن ظروف ترحيله تندرج تحت إطار العنصرية والقسوة في المعاملة.
من جهته، انتقل حمدي الغزلاني (55 عامًا) من الغوطة الشرقية إلى تركيا عام 2017، برفقة أسرته المكونة من زوجة وطفلين، وأسس شركة لنجارة الخشب العجمي (أرابيسك) في اسطنبول.
خلال عودة حمدي من عمله مساء، أوقفته دورية للشرطة التركية في اسطنبول، ونقلته بشكل تعسفي إلى إدارة الهجرة حتى دون النظر إلى أرواقه الرسمية، بطاقة “الحماية المؤقتة” (الكملك) التي بحوزته، ورحلته إلى إدلب قسرًا بعد أن أُجبر على البصم على أوراق “العودة الطوعية”، حسب قوله.
وأضاف حمدي في حديثه لعنب بلدي أن عناصر الشرطة رفضوا سماع أي حديث منه، وأنه تعرض للإهانات اللفظية منهم، وذكر أن المحامي الذي يتعامل معه (بسبب إجراء العقود المتعلقة بشركته) قدم اعتراضات على توقيفه، لكن دون أي نتائج.
تقيم عائلة حمدي في اسطنبول، ولا تخرج إلا للضرورة خوفًا من الترحيل، بينما أُغلقت شركته “أرابيسك” منذ ترحيله، وهو يبحث وكذلك عدنان (المرحّل الآخر) عن أي طريقة قانونية للدخول إلى تركيا، لإكمال حياتهم والالتحاق بعائلاتهم، وتجنب التبعات المالية المكلفة من إيجارات ومصروف، أو الدخول على الأقل لأيام من أجل تصفية ارتباطاتهم وحساباتهم.
وتشهد المعابر الحدودية مع تركيا حركة عبور يومية لسوريين مرحلين قسرًا من معابر “باب الهوى” و”باب السلامة” و”تل أبيض”.
وقال مدير معبر “تل أبيض”، فايز الكاطع، لعنب بلدي، إن المعبر استقبل 4100 شخص منذ مطلع عام 2024 حتى 5 من نيسان الحالي، موضحًا أن نصف العدد تقريبًا مرحلون قسرًا.
وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2024، بلغ عدد المرحلين قسرًا من تركيا إلى الشمال عبر معبر “باب الهوى” 6420 شخصًا، بحسب إحصائيات المعبر.
مدير المكتب الإعلامي لمعبر “باب الهوى”، مازن علوش، قال لعنب بلدي، إن عام 2023 شهد حركة عبور من تركيا إلى الشمال لـ20319 شخصًا، منهم 11079 شخصًا دخلوا “عودة طوعية”، و7653 شخصًا مرحلون قسرًا، بينما دخل 1587 شخصًا تحت إطار “المرحلين حديثًا”، وهم أشخاص دخلوا بطريقة غير نظامية (تهريب) إلى تركيا، وألقي القبض عليهم حديثًا قرب الحدود وتمت إعادتهم.
وتتحفظ بعض المعابر، ومنها “باب السلامة”، على ذكر مفردات “ترحيل” أو “إعادة قسرية”، ويُدرج المرحّلون تحت بند “العائدين طوعًا”، رغم اقتياد السلطات التركية هؤلاء الأشخاص وتسليمهم إلى سلطات المعبر.
وشملت إحصائية “العائدين طوعًا” خلال آذار الماضي 2811 شخصًا، و2324 شخصًا خلال كانون الثاني الماضي، جميعهم من “باب السلامة”.
“الحماية المؤقتة” والترحيل القسري
يحمل قانون “الحماية المؤقتة“، الذي أقر في نيسان 2014، بنودًا تصب في حماية اللاجئين المقيمين في البلاد وإدارة ملف اللاجئين، أبرزها “عدم الإعادة القسرية”، لكنه البند الأبرز الذي يُخرق بشكل متكرر منذ أكثر من عامين.
وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على إقامة السوريين في تركيا بموجب “الحماية المؤقتة”، لا يزال القانون غير واضح، وتحدث خروقات عدة يصنفها البعض بأنها “أخطاء فردية” عدا عن تحول اللاجئين السوريين لمادة للسياسة الداخلية التركية.
وكانت أول مجموعة من السوريين دخلت إلى تركيا عبر معبر “يايلداغ” في مدينة هاتاي، كانت مكونة من 252 شخصًا في 29 من نيسان 2011.
الترحيل القسري يخالف الحقوق الأساسية للاجئين السوريين، وبموجب “القانون الدولي العرفي”، يمنع مبدأ “عدم الإعادة القسرية” أي دولة مضيفة من إعادة أي شخص إلى بلده، سواء كان طالب لجوء أو حاصلًا على اللجوء، دون الأخذ بعين الاعتبار إن كان قد دخل إلى هذه الدولة بشكل قانوني أو غير قانوني.
بناء على القانون الدولي، تُعتبر عملية إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم انتهاكًا للقانون الدولي، ولاتفاقية اللاجئين لعام 1951 التي تعد الدولة التركية طرفًا فيها.
تنص المادة رقم “33” من اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين على أنه “لا يجوز لأي دولة متعاقدة أن تطرد لاجئًا، أو أن تعيده قسرًا بأي صورة من الصور إلى حدود الأقاليم التي تكون حياته أو حريته مهددتين فيها بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه إلى فئة اجتماعية معيّنة، أو بسبب آرائه السياسية”.
إعادة اللاجئين توجه حكومي
خلال الانتخابات الرئاسية التركية في أيار 2023، تكرر ظهور شخصيات حكومية تركية، أبرزها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، للحديث عن نسبة السوريين العائدين، أو المرحلين من تركيا، على أنها من الإنجازات التي قدمتها الحكومة، في إطار مكافحة “الهجرة غير الشرعية”.
وحتى بعد فوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية، عاد في خطاب عقب الإعلان عن نتائج الاقتراع ليقدم وعودًا تصب في المجرى نفسه، وهو عودة السوريين بشكل “طوعي”.
وتكررت الأحاديث الحكومية عن “العودة الطوعية” لدى صناع القرار في تركيا حتى في الفترة التي أعقبت الانتخابات الرئاسية، إذ كان يظهر وزراء الدفاع والداخلية بشكل متكرر للحديث عن إنجازات الحكومة في إعادة السوريين مقدمين أرقامًا في هذا الصدد.
وتسعى تركيا منذ أيار 2022 للدفع بمشروع “العودة الطوعية” للاجئين السوريين إلى سوريا، بعد تصريحات أطلقها أردوغان، تضمنت حديثًا عن إقامة منازل وتأمين مأوى وسبل حياة في المناطق التي يعود إليها اللاجئون في شمال غربي سوريا.
الناشط في مجال حقوق اللاجئين في تركيا طه الغازي، اعتبر أن انتخابات الرئاسة والبلدية أفضت إلى تضييق على حياة اللاجئين، لكن لا يمكن اعتبار أن الانتخابات كانت سببًا رئيسًا للتضييق نفسه.
وقال الغازي لعنب بلدي، إن السياسة المتبعة من قبل الحكومة التركية ظهرت بشكل “جلي وواضح” على أنها متفق عليها من قبل جميع التيارات السياسية التركية (حكومة ومعارضة)، وتركزت على إلزامية إعادة اللاجئين السوريين.
وأضاف أن تعامل بعض الأحزاب والتيارات مع ملف اللاجئين السوريين بعنصرية وصفها بـ”المقيتة”، تجلت بالحملة الانتخابية التي أطلقها حزب “الشعب الجمهوري” (ثاني الأحزاب التركية من حيث الشعبية)، وتضمنت لافتات علّقت بالشوارع، حملت وعودًا بترحيل اللاجئين، وأخرى أطلقتها أحزاب وشخصيات تعرف بمعاداتها للاجئين تحمل الطابع نفسه، كانت ذات أثر على حياة اللاجئين في البلاد.
وعلى الضفة الأخرى، يرى طه الغازي أن الخطاب الحكومي الذي يبدو لمراقب غير مطلع على تفاصيل الأحداث أنه داعم لوجود اللاجئين، لكن لم يكن يختلف من حيث المضمون عن خطاب المعارضة.
وفي أحدث تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، في آذار الماضي، قال نائب مديرة الشرق الأوسط في المنظمة، آدم كوغل، إن العودة “الطوعية” التي تنفذها تركيا إلى “المناطق الآمنة” غالبا ما تكون عودة قسريّة محفوفة بالمخاطر ويشوبها اليأس.
سياسة أكثر تشددًا
في الوقت الذي انتهى به الاستحقاق الانتخابي للبلديات التركية، حافظت الإجراءات الأمنية على شكلها الطبيعي في الشوارع التركية لملاحقة اللاجئين في البلاد، أحدثها كان رفع عدد “مركبات الهجرة المتنقلة” التي نفذتها إدارة الهجرة بوزارة الداخلية لتسهيل الكشف عن المهاجرين غير الشرعيين إلى 97 في ولاية اسطنبول وحدها، حيث أكبر تجمع للسوريين في البلاد.
ورغم أن الحديث عن اللاجئين انخفضت وتيرته بشكل ملحوظ في وسائل الإعلام التركية، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، فإن التشديد القانوني على حياة اللاجئين لا يزال ملحوظًا أيضًا.
يعتقد الناشط طه الغازي أن تركيا، منذ مطلع 2023، بدأت تنتهج سياسة أكثر تشددًا نحو اللاجئين، وهو ما لا يمكن ربطه بالانتخابات وحدها، مضيفًا أن السياسة المتشددة التي اتبعتها رئاسة الهجرة، ووزارة الداخلية التركية، أفضت لانتهاكات عديدة تعرض لها اللاجئون السوريون في مراكز الترحيل، وظهور عمليات ترحيل “قسرية”.
وذكر أن السياسة الحكومية نفسها تؤكد أن الجميع على الصعيد الداخلي التركي متفقون على ضرورة ترحيل اللاجئين السوريين.
وفي أيار 2023، كشف وزير الخارجية التركي السابق، مولود جاويش أوغلو، عن خريطة طريق لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، مشيرًا إلى أن مسألة عودة اللاجئين السوريين كانت القضية الأولى في مفاوضات تركيا مع النظام بوساطة روسية.
وجاء حديث الوزير في مقابلة تلفزيونية على قناة “Habertürk” التركية، تطرق فيها إلى ضرورة تأمين ظروف “العودة الآمنة”، مشيرًا إلى مباحثات جارية مع حكومة النظام السوري لتأمين البنية التحتية اللازمة لعودة اللاجئين.
الناشط طه الغازي، استحضر حديث وزير الخارجية التركي السابق، للإشارة إلى أن تركيا سبق وأعلنت انخراطها بمفاوضات تهدف لترحيل اللاجئين، كما سبق وأعلن الوزير نفسه عن انخراط بلاده مع العراق ولبنان والأردن بخطة لإعادة اللاجئين منتصف عام 2023.
واعتبر أن التضييق على اللاجئين وترحيل جزء منهم “قسرًا” صارًا توجهًا حكوميًا، أكثر مما هو سياق قانوني.
تضييق أبعد من الانتخابات
على رأس مشكلات السوريين في تركيا دائمًا ما يتكرر الحديث عن “إذن السفر” الذي تفرضه تركيا على اللاجئين الراغبين للسفر نحو مدن تركية أخرى غير المسجلين فيها، حتى لقضاء إجازة، أو لزيارة العائلة، في حين ترفض طلبات استخراج الإذن لولايات مثل أنقرة واسطنبول.
ويُمنع السوريون منذ عام 2016 في تركيا من مغادرة الولايات المسجلين فيها، أو الإقامة في ولايات أخرى من دون “إذن سفر” صادر عن “إدارة الهجرة التركية”، بينما يستطيع الحاصل على إقامة سياحية التنقل بين الولايات التركية براحة دون الحاجة لاستخراج “إذن سفر”.
وشكّل هذا القانون دافعًا بالنسبة للعديد من السوريين، لتغيير نوع إقامتهم في تركيا من لاجئ تحت نظام “الحماية المؤقتة” نحو استخراج إقامة سياحية لمن يملك القدرة القانونية والمادية، ما أوقعهم في شرك نظام تجديد الإقامات، والرفض المتكرر لطلبات التجديد.
وإلى جانب قضية “إذن السفر”، لا يسمح للسوريين في الإقامة بالأحياء التي يختارونها، حتى ضمن الولايات المسجين فيها، إذ سبق وفرضت الهجرة التركية خطة تحت اسم “تخفيف الضغط” تركت اللاجئين عرضة لاستغلال أصحاب المنازل، ودفعت بعضهم للإقامة في أماكن بعيدة عن أماكن عملهم، وآخرين يدفعون أضعاف إيجار منزلهم، كونهم لا يملكون خيار الانتقال لمنزل في منطقة أخرى.
التزامات تركيا في ملف اللاجئين
ترتبط تركيا بالتزامات عديدة وفق اتفاقات دولية مع الاتحاد الأوروبي، فيما يتعلق بملف اللاجئين المقيمين لديها، ومن بينها ما هو متعلق بمنع عبور اللاجئين نحو اليونان، التي تشكل بوابة أوروبا، إلى جانب أخرى متعلقة بدعم مالي تتلقاه تركيا مقابل حفاظها على الاتفاق الأول.
وبينما تلزم أوروبا دولًا مثل لبنان بالحفاظ على وضع اللاجئين السوريين بوضعه الراهن، لم تتدخل بشكل معلن فيما يتعلق بعمليات ترحيل اللاجئين القسرية من تركيا، واقتصرت إدانات هذا السلوك على المنظمات الحقوقية والقانونية.
الحقوقي السوري، ومدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد، قال لعنب بلدي، إن أسبابًا سياسية بحتة منعت دول الاتحاد الأوروبي من التدخل في انتهاكات ارتكبت بحق اللاجئين في تركيا، وعمليات ترحيلهم إلى مناطق النزاع.
وأضاف أن التزام أوروبا باتفاق مع تركيا لمنع تدفق اللاجئين نحوها، واستخدام تركيا لورقة اللاجئين ضد دول الاتحاد، منعت الأخير من التدخل في عمليات الترحيل من تركيا نحو سوريا.
الأحمد أضاف أن نأي الاتحاد الأوروبي بنفسه عن قضية اللاجئين في تركيا، وتدخله في دول أخرى، يمكن إسقاطه على المنظمات الحقوقية العاملة في هذا المجال، والمعارضة السورية أيضًا، إذ تتوالى البيانات والإدانات في حال حصول أي عملية ترحيل من لبنان، بينما تغيب الأصوات عن الجهات نفسها عند وقوع الحدث نفسه في تركيا.
ويرى الحقوقي السوري أن الاتحاد الأوروبي “متواطئ” مع تركيا في عمليات الترحيل “القسرية”، كونه لا يتدخل في هذا الملف بدوافع سياسية.
ويرى أن تركيا تتعامل مع أرقام السوريين لديها في مسارين، الأول داخلي متعلق بإرضاء الشارع التركي المتأثر بالخطاب، إذ يحاول تصوير أن مليون سوري عادوا إلى بلدهم خلال العامين الماضيين على أقل تقدير، والثاني دولي، إذ لا تنخفض الأرقام نفسها عندما تريد تركيا الحصول على مساعدات من أوروبا لدعم ملف اللاجئين.
وتقدم تركيا أرقامًا رسمية عن أعداد السوريين لديها على لسان مسؤولين، لكن هذه الأرقام غالبًا ما تكون مغايرة لتلك المتوفرة على موقع رئاسة الهجرة التركية.
ويكرر الرئيس التركي أردوغان أن بلاده أعادت أكثر من مليون سوري نحو “المنطقة الآمنة”، متوقعًا زيادة عودة اللاجئين إلى سوريا، مع تقدم مشروع بناء منازل الطوب الذي تدعمه قطر في الشمال السوري.
اللاجئون السوريون في تركيا
يقيم في تركيا ثلاثة ملايين و118 ألفًا و499 لاجئًا سوريًا، بحسب أحدث إحصائية صادرة عن الرئاسة العامة لإدارة الهجرة التركية.
وبالنظر إلى الإحصائيات نفسها، في أيار 2022، كان يقيم في تركيا ثلاثة ملايين و763 ألفًا و447 لاجئًا سوريًا.
أنقرة ملزمة.. لكنها تتجاهل
في 20 من آذار 2016، وقعت تركيا اتفاقية مع أوروبا تهدف لكبح تدفق اللاجئين نحو أراضي الأخيرة، وتضمنت شروطًا أبرزها إعادة توطين لاجئ سوري واحد في الاتحاد الأوروبي مقابل كل سوري يُعَاد إلى تركيا من الجزر اليونانية.
وتتولى تركيا أيضًا بموجب الاتفاقية مسؤولية السيطرة على الطرق البرية والبحرية، وحراستها من أجل إبقاء المهاجرين غير النظاميين الساعين للوصول إلى أوروبا.
وتعهد الاتحاد الأوروبي بتقديم مساعدات مالية بقيمة ستة مليارات يورو حتى عام 2018 للحكومة التركية، لتمويل إقامة مشروعات للاجئين السوريين، ثم مددتها لاحقًا.
ووافقت أطراف الصفقة على عنصر آخر يتمثل في العمل على تحسين الأوضاع الإنسانية داخل سوريا.
وبينما تجاهلت أوروبا الشرط الذي يتحدث عن إعادة توطين السوريين في أراضيها من تركيا مقابل المرحلين من اليونان في الكثير من الأحيان، خففت تركيا منذ عام 2020 القيود على حدودها مع اليونان.
وإلى جانب ما سبق، تعتبر تركيا طرفًا في الاتفاقيات الدولية التي تتحدث عن عدم ترحيل اللاجئين إلى مناطق النزاع، وهو ما تتجاهله تركيا منذ سنوات.
القانوني السوري بسام الأحمد، قال إن تركيا ملزمة من حيث الاتفاقيات بالحفاظ على وضع السوريين مستقرًا لديها، وعدم ترحيلهم قسرًا، خصوصًا نحو المناطق التي تعتبر غير آمنة، لكن المشكلة الأساسية في تركيا هو “تسييس ملف اللاجئين” من قبل الأطراف التركية وعلى رأسهم حزب “العدالة والتنمية” الحاكم.
ووفق تصنيفات دولية وأممية، تعتبر سوريا دولة غير آمنة لإعادة اللاجئين نحوها، إلى جانب منظمات دولية حقوقية تعتمد التصنيف نفسه لكامل الجغرافيا السورية بعيدًا عن مناطق توزع النفوذ والسيطرة.
وفي الوقت الذي اعتبرت فيه الأمم المتحدة، وبريطانيا، وأمريكا، والاتحاد الأوروبي، جميع المدن السورية غير آمنة، تصر تركيا على اعتبار مناطق نفوذها شمالي سوريا آمنة، وتطلق عليها في الخطابات الرسمية اسم “المنطقة الآمنة”.
ما دور المعارضة السورية
مع أي انتهاك يتعرض له اللاجئ السوري على الأراضي التركية، تتوجه الأنظار نحو مؤسسات المعارضة السورية وعلى رأسها “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة”، الذي من مسؤوليته متابعة قضايا وحماية حقوق السوريين بالاستناد إلى القانون، والعلاقات مع الجانب التركي.
وخلال السنوات الماضية، لم تحقق مؤسسات وشخصيات المعارضة نتائج ملموسة في حماية حقوق اللاجئين السوريين، أو تشكل منصة تدافع عنهم وتتابع شؤونهم، ورغم وجود “اللجنة السورية– التركية المشتركة” التابعة لـ”الائتلاف”، فإن جهودها خجولة أمام حجم التجاوزات لحق السوريين.
ويحاول حقوقيون وناشطون الدفاع عن السوريين، ونقل أصواتهم إعلاميًا أو تشكيل رأي عام بحسب علاقاتهم في المنظمات التركية أو في دوائر صنع القرار، كما نشطت مشاريع لسوريين لحل الإشكاليات القانونية التي يتعرض لها اللاجئ السوري في تركيا.
منسق مجموعة عمل اللاجئين والنازحين في “الائتلاف”، أحمد بكورة، قال لعنب بلدي، إن “الائتلاف” يعمل “بشكل مكثف” مع السلطات التركية والمنظمات الدولية والمجتمع المدني لضمان حماية حقوق السوريين المقيمين في تركيا.
وأوضح بكورة أن جهود “الائتلاف” لا تقتصر على “اللجنة السورية- التركية المشتركة” فقط، إنما هناك تعاون مع الأجهزة التنفيذية والتشريعية، إضافة إلى العمل مع البرلمان التركي واللجان المختصة بحقوق الإنسان واللاجئين.
وأضاف بكورة أن تحديات عدة تواجه “الائتلاف” في سبيل الدفاع عن حقوق اللاجئين السوريين، منها الخطاب السياسي والشعبي المناهض للاجئين، وصعوبات التنسيق بين الجهات المختلفة، لكن العمل لا يزال مستمرًا لحماية حقوق وكرامة اللاجئين السوريين في تركيا وفي عموم دول اللجوء، حسب قوله.
ويرى بكورة أن استغلال ملف اللاجئين كـ”أداة سياسية” في الحملات الانتخابية، أسهم في تفاقم المشكلات والتوترات الاجتماعية، ووضع اللاجئين في موقف صعب زاد من معاناتهم، معتبرًا أن الموقف الشعبي كان معاكسًا نسبيًا لذلك، وأن الشارع رفض خطاب الأحزاب التركية والحملات التي استخدمت “خطابًا مناهضًا” للاجئين بشكل واضح.
لا أرقام لإعادة المرحلين من الشمال
تبدأ عملية إعادة المرحلين من الشمال السوري إلى تركيا عبر عدة خطوات تشرف عليها “اللجنة السورية– التركية المشتركة”، إلا أنها تتسم بالتعقيد، ويراها المرحلون أنها غير مجدية، وتستهلك وقتًا وتتطلب إجراءات وتدخلهم في دوامة أوراق جديدة.
الخطوة الأولى هي تقديم طلب عبر مكتب “الائتلاف الوطني” في مدينة اعزاز بريف حلب الشمالي، يليه تقييم دقيق لكل حالة على حدة، للتأكد من استحقاقه “الحماية المؤقتة” وفقًا للقانون التركي، ليطلب منهم التوجه إلى البوابة السورية- التركية لإجراء الدخول.
بعد دخولهم الأراضي التركية، يُمنح الأشخاص وثيقة مؤقتة سارية المفعول، لإتمام مراجعة أوضاعهم مع دائرة الهجرة التركية بالمدينة التي يقيمون بها للحصول على بطاقة “الحماية المؤقتة” (الكملك)، وتتسم الإجراءات بالتعقيد، كما أن المدة الزمنية لذلك تسمر لأشهر.
وقال بكورة، إن من أسباب استغراق العملية مدة زمنية طويلة، هي متابعتها مع مؤسسات تركية متعددة أبرزها الجهات الأمنية، وذلك لمراجعة أسباب الترحيل وجميع تفاصيل الحالة قبل السماح بالعودة.
ولم يقدّم بكورة رقمًا دقيقًا لأعداد المرحلين الذين استطاعت “اللجنة” تسوية أوضاعهم وإعادتهم إلى تركيا، في حين اكتفى بذكر كلمة أن الأعداد متواضعة، معتبرًا أنها تعد بمنزلة خطوة نحو تحقيق العدالة واحترام حقوق الإنسان، مع وعود بتوسيع نطاق الجهود بهذا السياق.
لا كيان يدافع عن اللاجئين
مع تعرض اللاجئين لمشكلات قانونية منذ سنوات، يُطرح السؤال نفسه عن أسباب عدم إنشاء كيان حقوقي سوري يحميهم ويدافع عن قضاياهم بعد أكثر من 13 عامًا على وجود اللاجئين السوريين في تركيا.
الباحثة في مركز “الحوار السوري” كندة حواصلي، أرجعت عدم قدرة السوريين على تأسيس كيان يدافع عن حقوقهم في تركيا إلى عدة أسباب، أهمها أن تجربة السوريين باللجوء نسبيًا جديدة، وخاصة أنه ليس لديهم اطلاع ومعرفة بكيفية التعامل مع قضايا اللجوء وقوانينها.
وقالت حواصلي لعنب بلدي، إن الأعوام الماضية شهدت حالة “استنزاف الجهود”، إثر تتالي الأحداث والمجاوز والكوارث التي جعلت أنظار المعارضة ومنظمات المجتمع المدني والناشطين تتوجه نحو الداخل السوري، ما أبقى ملف اللاجئين ثانويًا.
وأضافت أن تراجع التمويل وعدم وجود اهتمام من المانحين لدعم الأنشطة المتعلقة بحماية اللاجئين، أو إنشاء كيانات للدفاع عنهم، لعب دورًا بإبقاء العمل محصورًا ضمن الجهود التطوعية الفردية.
“تجربة إنشاء الكيانات القانونية والروابط الحقوقية جديدة على الشعب السوري، إذ برزت حالة وعي في السنوات الأخيرة بسبب حجم الحاجة إلى الحراك القانوني للدفاع عن حقوقهم”.
كندة حواصلي
باحثة في مركز “الحوار السوري”
وعن عدم قدرة السوريين على تأسيس كيان يدافع عن حقوقهم في تركيا، أرجع المحامي السوري غزوان قرنفل ذلك إلى عدة أسباب، أهمها غياب الموارد المالية والبشرية للقيام بتنظيم هذا الكيان.
وأضاف في تصريح سابق لعنب بلدي، أن 97% من أعضاء “تجمع المحامين السوريين في تركيا” هم بالأصل خاضعون لنظام “الحماية المؤقتة”، وليسوا قادرين على المغامرة بمواقف أو تصريحات قد تُحسب عليهم بأنهم يعادون الدولة التركية، ما يعرضهم أيضًا لخطر الترحيل إلى شمال غربي سوريا.
عوامل لنجاح حماية اللاجئين
معرفة قوانين اللجوء، أو قانون حقوق الإنسان، ضرورة بالغة للاجئ السوري في تركيا أو الجهات التي تعمل على الدفاع عن حقوقهم، للاطلاع على ما هو انتهاك يخالف القانون، وما يعتبر تصرفًا طبيعيًا لا يخرق بنود القانون.
وذكرت الباحثة كندة حواصلي ثلاثة عوامل تؤثر في نجاح دور الجهات السورية المعنية بحماية اللاجئين في تركيا، وهي:
- غياب الوعي بمعرفة قوانين اللجوء، لأن المعلومات غير متوفرة بالشكل الكافي لدى اللاجئين أو الناشطين أو القائمين على المنظمات الحقوقية.
- التعامل مع قضايا اللاجئين بسياسة عاطفية وانفعالية من قبل المؤسسات السورية طيلة السنوات الماضية، إذ قد تثير عاطفة الطرف الثاني دون تحركه لصناعة قرار لا يخدم مصالحه، بل يجب التوجه إلى صناع القرار وإقناعهم بأن الخطوات الحالية مضرة عبر تقديم بيانات وحقائق للاستناد إليها، وإظهار مقترحات تدعم مصلحة اللاجئين والسلطات في آن واحد.
- تعزيز دور المؤسسات المعنية بحماية حقوق اللاجئين يكمن في إنشاء شبكات مع جهات مختصة معنية باللاجئين تركية وغيرها.