غزوان قرنفل
لم يكن من الممكن لإيران أن تمرر ضربة موجعة بحجم استهداف القسم القنصلي بسفارتها في دمشق، وسقوط قادة ورموز كبار قتلى في هذا الاستهداف الإسرائيلي، الذي يعري خطاب المقاومة على نحو تظهر فيه العورات للعيان.
ولم يكن بالمقابل التورط في حرب تدرك إيران أن لا قبل لها بها ولا بنتائجها، وستكون بالضرورة كارثية ليس على إيران وحدها كدولة وإنما على مشروعها التوسعي بكليته الذي أنفقت لأجله أرواحًا بشرية وثروات هائلة، كان يمكن لو أحسن توظيفها واستثمارها أن تجعل لإيران مركزًا إقليميًا مهمًا ومميزًا ومؤثرًا في موازين التنمية والتطور والرفاه.
ما الحل إذًا؟ وكيف لها أن تغسل بعضًا من عارها وعريها وتهافت خطابها المقاوم، وهي في دائرة الاستهداف اليومي للطائرات الإسرائيلية، التي ما تركت مكانًا يوجد فيه أزلام إيران وعملاؤها في لبنان وسوريا والعراق إلا واستهدفته، فيما كانت طهران تكتفي بالشجب والاستنكار على الطريقة العربية دون أن تنسى الاحتفاظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين على الطريقة السورية.
لم يعد هناك بد من خطوة أو تحرك مدروس ومحسوب، لا تترتب عليه نتائج ولا يستدعي ردًا إسرائيليًا ماحقًا يؤدي إلى انهيار المشروع وربما الدولة الفارسية نفسها.
ربما ألهمتها تجربة “حزب الله” في حربه المفتوحة مع عمود الاتصالات المنتصب قبالة الحدود اللبنانية– الإسرائيلية، تضامنًا ودعمًا للمقاومين في غزّة، شكلًا معقولًا للرد على العربدة الإسرائيلية، فكان أن ابتكرت ردًا يستهدف أرضًا خلاء ومدرج مطار مهجور وبعض مستودعات متهالكة وخاوية داخل الأراضي الإسرائيلية نفسها، حتى يعطي للـ”Show” الإعلامي الذي لم يتجاوز بضع ساعات بعض قيمة ومتابعة، وهذا ما تم فعلًا بعد أن حصلت على موافقة أمريكية– إسرائيلية على هذا الاستعراض، حتى تحفظ بعضًا من ماء وجهها أمام قطيع “المقاومين”، فهزيمة محققة لإيران ومشروعها لن تكون في مصلحة أمريكا ولا إسرائيل طالما أنها تلتزم الحدود والنطاق المتاح لها ولمشروعها التوسعي في المشرق.
كان ما شاهدناه مجرد حرب تشبه كثيرًا تلك التي يمارسها الأطفال والمراهقون على أجهزة “بلاي ستيشن”، ويصدّعون رؤوسنا بأصواتها وصرخاتهم وهم يدمرون للعدو المفترض حصونه وآلياته، ليسدل الستار بعدها عن تلك الحرب المظفرة بالتصريح أن الرد الإيراني قد انتهى! والحصيلة أن تلك الحرب لم يقتل فيها إسرائيلي واحد ولم يدمر فيها مبنى واحد أو مطار أو معسكر أو حتى مخفر فيه بضعة جنود من حرّاس الحدود (وفق الإعلام الإسرائيلي).
المشكلة الرئيسة في كل هذا الصراع على مساحات الأدوار والنفوذ أنه يتم بين مشروعين، الأول مشروع صهيوني إحلالي مسكون بأساطير دينية، والثاني مشروع فارسي إبادي مسكون بوساوس وهلاوس طائفية، وأن تلك المشاريع تتم في بلادنا المستباحة وعليها، وتسفح فيها دماء عربية، بينما الغائب الوحيد عنها هم العرب الغارقون في غيبوبتهم التاريخية، والسبب أننا لا نملك مشروعًا أصلًا يحفظ أمن وسلامة الدول العربية ويدافع عن مصالحها ومستقبلها.
ومع إصرار حكامنا على إبقاء شعوبهم ودولهم على رصيف الحياة والتاريخ كمتفرجين ومصفقين، سنبقى إما مجرد طرائد وفرائس لأصحاب تلك المشاريع، وإما مجرد أدوات لتنفيذ أجنداتها التي تخصم أثمانها من رصيدنا المالي والبشري والتنموي.
مع بدايات الحرب على غزة، كتبت مقالًا بالكاد تمكنت من نشره، بعد رفضه من غير مؤسسة إعلامية، قلت فيه باختصار إن تلك الحرب ليست لأجل أهداف وطنية فلسطينية صرفة، بقدر ما هي شكل من أشكال المناكفة بين المشروعين الصهيوني والفارسي والصراع على مساحات الدور والنفوذ والاستحواذ على المنطقة. وما أزال عند نفس الرأي والرؤية بهذا الشأن، بالرغم من تعاطفنا مع إخوتنا الفلسطينيين الذين لم يبقَ أحد في المنطقة لم يقامر أو يتاجر بهم وبمستقبلهم وبحقوقهم المشروعة، حتى من قياداتهم نفسها مع الأسف. وما قلته بشأن تلك الحرب أقوله اليوم بشأن الحرب المحدودة المزعومة، هي ليست سوى نوع من المناكفة المتأتية ضمن سياق الصراع على الأدوار وأحجامها ونطاق ممارستها لا أكثر.
لعبة القط والفأر التي طالما أمتعت صغارنا في فرجتهم على الرسوم المتحركة هي تمامًا ما يحصل وما يتكرر في مشهد “الصراع” الفارسي– الصهيوني، وإذا ما حصل تفاهم جدي يومًا بينهما، تتحدد في المهام والأدوار، وسيختفي فجأة كل الهراء والنباح الإيراني عن فلسطين والقدس ومحور المقاومة، حينها سيكون العرب الذين لا يزالون اليوم يغطون في غيبوبتهم التاريخية قد تحولوا إلى مجرد سبايا وتحولت ثرواتهم إلى مجرد غنائم يظفر فيها الصهاينة والفرس على السواء.
الصراع الفارسي– الصهيوني ليس أكثر من لعبة شطرنج يعبث فيها اللاعبون على رقعتنا الجغرافية ويضحون دائما بنا بوصفنا مجرد بيادق.