“كان يضربني كل الليل، وفي الصباح ينسى ما حدث، وحين أذكره يعتذر مني ويعدني بترك المشروب والتوقف عن ضربي”، أمضت “لينا” (39 عامًا) سنة كاملة على هذا المنوال، قبل أن تقرر النجاة وترك أطفالها الثلاثة وأكبرهم 13 عامًا، والعودة إلى منزل أهلها كمطلقة، الوصمة التي يبتزها أشقاؤها الذكور بسببها كلما حاولت المضي قدمًا في حياتها.
تغالب “لينا” (اسم مستعار) التي تعيش في أحد أرياف محافظة اللاذقية، مطالبة بعدم ذكر اسم قريتها، دمعة تمسحها، وقالت إنها لا تتأثر سوى بفراق أطفالها الذين رفض أهلها استقبالهم معها، ولأنها لم تكن تعمل لم تجد حلًا سوى تركهم لوالدهم وهي تدرك أنهم سيتعرضون للتعنيف أيضًا.
روت “لينا” تفاصيل ما حدث، حين ترك زوجها العمل الذي كان يؤديه في سوق “الهال”، وبقي في المنزل، وأدمن المشروبات الكحولية التي كان يشتريها بالدَين من المحال التجارية، وفي كل مرة يسكر بها كان ينهال ضربًا على جسدها الهزيل، وعلى الرغم من صراخها فإن أحدًا من الجيران لم يكن يتدخل، فسمعة الزوج السيئة ولسانه السليط كانا كافيين ليصمت الجيران عن تعنيفه لزوجته.
اتخذت “لينا” قرار الطلاق، حين طلب إليها زوجها بطريقة غير مباشرة أن تتصرف بطريقة غير أخلاقية لتحضر له ثمن المشروب، فلم تجد خيارًا.
اليوم بدأت الأم الشابة عملًا جديدًا في إحدى ورشات الخياطة، إلا أن الراتب لا يزال غير كافٍ للاستقلال في منزل خاص وأخذ أطفالها من زوجها، مع ذلك تقول إنها تمتلك أملًا كبيرًا بتغيير هذا الواقع.
سيدة تدفع ضريبة العطالة
لـ”ولاء” (28 عامًا) معلمة مدرسة، قصة لا تختلف كثيرًا، حيث تلقت أول صفعة من زوجها بعد زواجهما بنحو العامين، ازدادت الأمور سوءًا بعد استدعاء الزوج للخدمة العسكرية الاحتياطية، ما أبقاه حبيس المنزل كونه يعتبر بحكم الفار، ويخشى الخروج كي لا يتم القبض عليه على أحد الحواجز “الطيارة” داخل مدينة اللاذقية.
فقد الزوج عمله الحكومي، ولم يستطع تأمين أي عمل، ومع بقائه في المنزل ازداد ضغطه على الزوجة التي وجدت نفسها مسؤولة عن تربية طفلهما وشراء احتياجات المنزل، والصبر على التعنيف المستمر سواء اللفظي أو الجسدي.
لجأت “ولاء” (اسم مستعار) إلى والديها، اللذين أخبراها أن “بنت الأصول تصبر على زوجها”، وعادت مكسورة إلى المنزل الذي خرجت منه بعين متورمة وكدمات باللون الأزرق تملأ جسدها.
“يضربني بالعصا، أو بيده، حتى بأواني المطبخ، بأي شيء يتوفر أمامه”، قالت الشابة التي طلبت من عائلة زوجها التدخل، وبعد جهد نجحوا في إحداث فرق بسيط، وهددوه بأنه حين يضربها سيأخذونها والطفل للعيش معهم، ليتحول العنف إلى العنف اللفظي فقط.
“أخوكِ معصب”
أكثر ما يؤلم “سامية” (23 عامًا)، وهي خريجة قسم التاريخ من جامعة “تشرين”، هو أنها تتعرض للضرب من شقيقها الذي يكبرها بعامين ونصف تقريبًا على الملأ أمام الجيران وأصدقائه، حيث لا يوفر فرصة لتعنيفها والتعامل معها بطريقة مهينة.
ترى سامية أن السبب الرئيس لذلك هو أن شقيقها غير متعلم ولم يجتز مرحلة الثانوية، وتبرر وجهة نظرها هذه بأنه في كل مرة يضربها يقول لها “مفكرة حالك جامعية وبدك تشوفي حالك عليي، أنتِ وجامعتك وصرمايتي سوا”.
وقالت الشابة إنها لا تمتلك أي طريقة لثنيه عن ضربها سوى بتحاشيه، فحين تشتكي لوالدتها تخبرها أنها حالة طبيعية “يمكن أخوكِ معصب من شي شغلة”، أما والدها فيوجه له بعض الانتقادات، ثم يخبرها بأنه أخوها ويمون عليها، ثم يطمئنها بأنه حين يتزوج سيتغير كل شيء.
ماذا يقول القانون؟
لا يوجد في القانون السوري مواد خاصة بتجريم العنف ضد النساء، إنما يضم قانون العقوبات مواد عامة تتعلق بتجريم ضرب وإيذاء الأشخاص عمومًا، كما في المواد من “540” إلى “543”.
كما لا تمتلك النساء القدرة على تقديم شكوى غالبًا، خصوصًا حين لا يكون لديها خيار آخر سوى منزل زوجها أو والديها، والرجوع إلى حضن معنفها، إذ لا مراكز مجتمعية تحتضن هذه الشريحة من النساء في سوريا.
ويقتصر عمل غالبية الجمعيات والمنظمات النسوية في الداخل السوري على تقديم التوعية التي تفتقر للمساعدة في التمكين الاقتصادي الذي يعتبر حاسمًا في مساعدة النساء.
وتشهد مناطق متفرقة بمختلف جهات السيطرة في سوريا انتهاكات بحق النساء، منها جريمتا قتل في مدينة رأس العين شمال غربي الحسكة بحجة “غسل العار” أو “الشرف”، قُتلت فيهما ثلاث نساء خلال الفترة من 9 إلى 12 من تشرين الأول 2023.
وفي شباط الماضي، تعرضت فتاة (15 عامًا) للضرب من ثلاثة رجال وطفل، يحمل كل منهم عصًا بيده، وينهالون عليها بالشتائم والضربات، وسط صمت المتفرجين، ورغم صرخات الفتاة الراجية بالتوقف، جاء صوت أعلى يقول “اضرب بحيل اضرب”، محفزًا الرجال والطفل على الاستمرار، بذريعة خلافات عائلية.
مهن خطرة
فرض الواقع الاقتصادي والمعيشي المتردي انخراط النساء بمختلف مناطق السيطرة في سوريا بمهن خطرة محفوفة بالمخاطر، لا تتناسب مع شكل وطبيعة المرأة.
وتلجأ بعض النساء، خصوصًا من المقيمات في مخيمات النازحين في أرجاء الشمال، لأعمال تعرف محليًا بأنها من تخصص الرجال، أو نشاط محفوف بالخطر كالبحث بين أكوام القمامة عن البلاستيك، مع انتشار المقذوفات غير المنفجرة من مخلفات الحرب.
وأشار تقرير “WILPF” (الرابطة النسائية الدولية للسلام والحرية) حول “النساء في الاقتصاد السوري”، أن ظروف الحرب حملت النساء السوريات “مسؤوليات اقتصادية مركبة، مع غياب المعيل التقليدي وتحول قسم كبير منهم إلى الإعاقة الجسدية في معظم الأحيان، خاصة في المناطق الشمالية الغربية الخارجة عن سيطرة النظام”.
وذكر التقرير الصادر في آذار 2021، أن الأوضاع الاقتصادية السيئة، فرضت العمل على النساء بشكل لم يألفه المجتمع السوري التقليدي، بهدف تأمين مستلزمات الحياة في ظل ظروف بالغة القسوة والشدة.
انتهاكات لا تتوقف
تواجه المرأة السورية في مختلف مناطق السيطرة عدة تحديات بما في ذلك قلة المشاركة السياسية، وانتهاكات منها الاعتقال والتعنيف وغيرها.
وأحصى تقرير لـ”الشبكة السورية لحقوق الإنسان” الانتهاكات الجسيمة التي تعرضت لها المرأة في سوريا منذ عام 2011، على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة.
وبحسب التقرير الصادر في 8 من آذار الماضي، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، تعرضت نحو 16 ألفًا و442 سيدة للقتل على يد أطراف النزاع، نحو 12 ألفًا منهن قتلن على يد قوات النظام، وهو المسؤول عن نحو 73% من حالات القتل خارج نطاق القانون مقارنة ببقية أطراف النزاع.
ولا تزال نحو عشرة آلاف و205 سيدات قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري، منذ آذار 2011، بينهن ثمانية آلاف و497 سيدة لدى قوات النظام السوري.
ووثق التقرير مقتل ما لا يقل عن 115 سيدة بسبب التعذيب، قتلت منهن 95 سيدة على يد قوات النظام، و14 سيدة على يد عناصر تنظيم “الدولة الإسلامية”، وسيدتان على يد عناصر “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ومثلهما على يد فصائل المسلحة، وحالة على يد “هيئة تحرير الشام”، وأخرى على يد جهات أخرى.
ووقعت ما لا يقل عن عشرة آلاف و63 حادثة اعتداء جنسي ضد السيدات، كانت سبعة آلاف و76 حالة منها على يد قوات النظام، و2451 حالة على يد عناصر “الدولة الإسلامية”، و16 منها على يد “قسد”، و19 حالة ارتكبتها فصائل المعارضة المسلحة و”الجيش الوطني”، وحالة على يد “تحرير الشام”، ما يجعل النظام مسؤولًا عن نحو 75% من حالات العنف الجنسي المسجلة لدى “الشبكة”.
شارك في إعداد التقرير مراسلة عنب بلدي في اللاذقية ليندا علي
–