حسن إبراهيم | هاني العبد الله | نور الحاج
منذ عقود، كانت القضية الفلسطينية حاضرة في قاموس وأدبيات النظام السوري، الذي تمسك بسردية “المقاومة والممانعة”، فكانت فلسطين “قضية مركزية” في خطاب حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار، الذي هاجم بلسانه تحت عباءة القضية دولًا عربية وأجنبية، متبنيًا بكلامه فكرة الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، مستندًا إلى أن سوريا جزء من “محور المقاومة”.
موقف داعم للفلسطينيين عرّته الأزمات المتتالية التي طالت أبناء فلسطين على أرضهم وانتهاكات بحقهم على الأراضي السورية، في وقت تستمر فيه الحرب الإسرائيلية منذ نحو 200 يوم على قطاع غزة، مسجلة مقتل أكثر من 33 ألف شخص، وقوبلت من النظام السوري بتنديد وحداد ونقل أخبار، تخللها انطلاق قذائف مجهولة المصدر من الأراضي السورية باتجاه الجولان المحتل، وردود حبيسة البيانات.
إلى جانب عدم تجاوز التصريحات، فإن الملموس هو نأي الأسد بنفسه عما يحدث في غزة، وما يحدث فوق الأراضي السورية أيضًا، بعد اشتعال فتيل ملامح مواجهة إسرائيلية- إيرانية في دمشق، وبينما توجهت أنظار العالم إلى رد طهران على استهداف إسرائيل قنصليتها في سوريا، كان الأسد يقضي أيام عيد الفطر في الساحات.
لم تتجاوز جميع مواقف النظام السوري سقف التصريحات، وتعكس نأيًا بالنفس وابتعادًا عن الانخراط في أي صدام أو تدخلات مجدية، وتكذّب رواية بشار الأسد حين قال بعد أن أدى القسم الدستوري في 17 من تموز 2021، إن سوريا تخسر عندما تصدق أن النأي بالنفس هو سياسة، وتربح عندما تفهم أن أقرب تلك القضايا هي قضية فلسطين و”أن الفلسطينيين هم أشقاؤنا وأن التزامنا تجاه قضيتهم وحقوقهم ثابت لا تبدله أحداث أو ظروف ولا غدر أو نفاق”.
تسلط عنب بلدي في هذا الملف الضوء على العلاقة بين النظام السوري والحركات الفلسطينية، وتستعرض مؤشرات ومواقف اتخذها الأسد للتملّص من حرب غزة داخليًا وإقليميًا، وتناقش مع باحثين متخصصين وخبراء الأسباب وراء ابتعاده عن اتخاذ خطوات فعلية، والخسائر والمكاسب التي جناها من ذلك.
علاقة “مصلحة” مع الحركات الفلسطينية
نشأت “منظمة التحرير الفلسطينية” عام 1964، وكان الهدف منها إعادة تنظيم الشعب الفلسطيني وإبراز كيانه شعبًا موحدًا لا مجرد لاجئين، لكن وضعها في سوريا كان شائكًا وسط علاقة معقدة مع النظام السوري في حكم الأسدين.
ورغم إعلان “منظمة التحرير الفلسطينية” حيادها السياسي تجاه الشأن السوري، صدرت مواقف عن قيادات في المنظمة أسهمت بالتغطية على الجهات المسؤولة والمتورطة في جرائم النظام السوري من القصف العشوائي، والحصار، والتجويع، والاعتقال بحق الأهالي في مخيم “اليرموك”، كما تورطت فصائل موالية للنظام (القيادة العامة، الصاعقة، فتح الانتفاضة، جبهة النضال الشعبي) إلى جانب ميليشيات أخرى، و”جيش التحرير الفلسطيني” بالمشاركة الفعلية بالقتال إلى جانب قوات النظام.
وظهرت تصريحات أطلقتها شخصيات قيادية في “فتح” و”منظمة التحرير” مثل أحمد مجدلاني، وعباس زكي، وليلى خالد، كانت أكثر تبريرًا لجرائم النظام السوري في المخيم.
ورغم أن “جيش التحرير الفلسطيني” يعد مؤسسة عسكرية تتبع لمنظمة “التحرير“، فإن السلطات السورية سيطرت منذ عهد حافظ الأسد على قياداته ووحداته (العاملة في سوريا منذ عام 1969)، واستغل النظام السوري “جيش التحرير” منذ عام 2011، وزج به في الجبهات القتال ضد فصائل المعارضة.
أما “حركة المقاومة الإسلامية” (حماس) فترتبط بعلاقات تاريخية مع جماعة “الإخوان المسلمين” التي عارض فرعها السوري سيطرة عائلة الأسد على الحكم في سوريا، وبعد انطلاق الثورة في سوريا، عام 2011، أيد قادة من “حماس” علنًا الاحتجاجات التي شهدتها سوريا، وقطعت الحركة العلاقات مع حكومة النظام وأغلقت مكاتبها في دمشق، وغادرت الأراضي السورية.
وفي 2021، اتجهت للتقارب مجددًا مع النظام، بوساطة من “حزب الله” اللبناني، ثم أجرى وفد من الفصائل الفلسطينية زيارة إلى دمشق للقاء الأسد، في 19 من تشرين الأول 2022، واتفق الطرفان على عودة العلاقات مجددًا و”طي صفحة الماضي”، لكن في آب 2023، وصف بشار الأسد موقف “حماس” بأنه “مزيج من الغدر والنفاق”، لأنها كانت تدّعي المقاومة، وأن العلاقات بينهما ضمن المبدأ العام.
الباحث السوري في دراسات النزاع محمود الحسين، يرى أن تعاطي النظام السوري مع الوجود الفلسطيني منذ عقود (من عهد الأب حافظ إلى الابن بشار) لم يختلف، وهو بصيغة استثمارية بحتة، بحيث لا يعنيه منها سوى المنفعة، أي بما يخدم وجوده.
انتهاكات بحق الفلسطينيين في سوريا
اتبعت قوات النظام بحق الفلسطينيين سياسة على الأرض مغايرة لخطابات الأسد، حالهم في ذلك حال الشعب السوري، إذ وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 3207 لاجئين فلسطينيين على يد قوات النظام، منذ آذار 2011 وحتى تشرين الأول 2022، بالإضافة إلى وجود 2721 لاجئًا فلسطينيًا لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري.
ووثقت “مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا” مقتل 4261 لاجئًا فلسطينيًا في سوريا، واعتقال 3087 شخصًا بينهم 333 شخصًا في عداد المفقودين، منذ آذار 2011 حتى كانون الأول 2023، بمختلف مناطق توزعهم في سوريا.
خارج المعادلة
كان أول تصريح لبشار الأسد في 12 من تشرين الأول 2023، بعد مقتل 1537 شخصًا وإصابة 6612 آخرين في كامل قطاع غزة، أي بعد خمسة أيام على بدء الحرب الإسرائيلية، اكتفى خلاله بالتنديد بالجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين.
وأعقبت التصريح سلسلة بيانات أصدرتها وزارة الخارجية السورية، وأدانت فيها ما يجري في القطاع المحاصر بحق الفلسطينيين، لكن لم تخرج اللغة الدبلوماسية التي سارت عليها عن نطاق الإدانة والاستنكار.
داخليًا، تعمد النظام السوري في البداية التضييق على الوقفات التضامنية مع غزة، ثم قرر لاحقًا منعها من الخروج إلا بموافقة أمنية.
وخرجت أول مظاهرة تضامنية مع غزة بعد عملية (طوفان الأقصى)، في 10 من تشرين الأول 2023، في ساحة “عرنوس” وسط دمشق، لكن حين ارتفعت وتيرة الهتافات واشتدت حماسة المتظاهرين، سارع عناصر الأمن إلى تفريقهم، وسرعان ما ارتفعت صور بشار الأسد وراحوا يهتفون له بدل الهتاف لغزة.
وقالت “مجموعة العمل من أجل فلسطينيّي سوريا“، إن التعليمات جاءت بناء على تقديرات أمنية وسياسية من الأسد تشير إلى أن تنظيم تلك الوقفات قد يثير غضب إسرائيل وأمريكا، ويعرّض سوريا لخطر التدخل العسكري من قبلهما، موضحة أن منح الموافقة الأمنية يستغرق أسابيع وقد يأتي بالرفض.
وخلال القمة العربية والإسلامية التي احتضنتها الرياض في تشرين الثاني 2023، قال الأسد، “إن غزة لم تكن يومًا قضية، فلسطين هي القضية وغزة تجسيد لجوهرها وتعبير صارخ عن معاناة شعبها عن القضية الفلسطينية”، داعيًا الدول العربية لامتلاك أدوات سياسية فعلية لا بيانية وفي مقدمتها إيقاف أي مسار سياسي مع إسرائيل.
واكتفت وسائل إعلام النظام خلال تغطية الحرب على غزة، بالتركيز على ما تقوم به إسرائيل من اعتداءات، مع تجاهل تام لـ”حماس”، التي تتصدّر المشهد السياسي الفلسطيني خلال الحرب بشكل مطلق، ما اعتبره محللون ومراكز أبحاث أنه استمرار لحالة “نقمة” من النظام السوري على الحركة.
نشاط اجتماعي في عالم آخر
تكرر ظهور بشار الأسد، خلال فترة عيد الفطر (10 حتى 12 من نيسان)، بالتزامن مع حديث مكثف حول احتمالية رد إيران على إسرائيل بعد قصفها مبنى ملاصقًا للقنصلية الإيرانية بدمشق مطلع نيسان الحالي.
وأدى الأسد صلاة عيد الفطر في جامع “التقوى” بالعاصمة دمشق، في 10 من نيسان، ثم استمع إلى خطبة استمرت نحو عشر دقائق، وطغى عليها الخطاب السياسي منذ بدايتها، وحملت رسائل مفادها أن سوريا “محور المقاومة”، ومحاربة للتطرف ومهاجمة لـ”الليبرالية الحديثة”.
ثم ظهر الأسد وزوجته أسماء الأسد في أول أيام عيد الفطر عبر تسجيل مصور مع أطفال “جمعية المبرة النسائية” و”بيوت لحن الحياة”، تضمن مشاهد متعددة ظهرا فيها يلعبان مع الأطفال.
وفي 12 من نيسان، بينما كان العالم منشغلًا باحتمالات الرد الإيراني والرد الإسرائيلي المحتمل، وإمكانية توسع الصراع إلى حرب مفتوحة، ظهر الأسد مع زوجته وأولاده في شوارع دمشق القديمة، وكأنه في عالم آخر، دون ذكر تفاصيل إضافية حول المكان الذي زاره الأسد بالتحديد هناك، محاولًا إيصال موقف لا مبالٍ من التهديدات المستمرة بين طهران وتل أبيب على الأرض السورية.
بعيدًا عن “أركان المحور”
منذ بداية التصعيد الإسرائيلي، ارتفعت وتيرة تحركات “محور المقاومة والممانعة” على مستوى التواصل واللقاءات السياسية مع شخصيات وقياديين في “حماس”، سواء مع مسؤولين إيرانيين أو آخرين في “حزب الله” اللبناني، بينما لم يعلن النظام السوري التواصل مع أي ممثلين سياسيين في الحركة، ولم يذكر اسمها في وسائل الإعلام الرسمية والمقربة، كمان كان الأقل حضورًا على مستوى اللقاءات مع أطراف المحور.
وعلى الصعيد العسكري، لم يُشن منذ “طوفان الأقصى” سوى ما بين 20 إلى 30 هجومًا صاروخيًا أو بقذائف متنوعة من سوريا على الأراضي المحتلة جنوبي سوريا، وسقطت جميع هذه الصواريخ تقريبًا في “مناطق مفتوحة” ولم تؤدِّ إلى وقوع إصابات، بينما ترد إسرائيل بقصف مدفعي، وبعض الغارات الجوية على مواقع الإطلاق.
الصحفي المختص في الشأن الإسرائيلي خالد خليل، اعتبر أن أبرز مؤشر أظهر تنصل الأسد من حرب غزة، كان عدم تعليقه أو إلقائه أي كلمة أو خطاب في يوم “القدس”، في 5 من نيسان الحالي، بغية تعزيز الرسائل التي يريد إيصالها للعالم، بأنه يقف على الحياد على عكس ما كان متوقعًا منه كونه “جزءًا من محور المقاومة”.
وغاب الأسد عن أي تعليق تجاه ذلك اليوم، بينما شارك فيه باقي أركان “محور المقاومة”، وهم الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، والأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصر الله، ورئيس المكتب السياسي لـ”حماس”، إسماعيل هنية، ومسؤول جماعة “الحوثيين” في اليمن، عبد الملك الحوثي، وممثل للمقاومة الإسلامية في العراق.
وأضاف خليل لعنب بلدي أن الأسد يحاول بشكل مستمر إيصال رسائل ومؤشرات تؤكد وقوفه على الحياد وعدم انخراطه في حرب غزة، ففي ذروة التوتر الذي حصل مؤخرًا بين إيران وإسرائيل (بعد استهداف الأخيرة مبنى القنصلية الإيرانية وسط دمشق)، ظهر الأسد بعد أسبوع مع زوجته وهما يتناولان الإفطار في طرطوس، وبعد عدة أيام ظهر مجددًا داخل مطعم في باب شرقي، ليقول للعالم إنه “خارج المعادلة”.
حياد الأسد برز حتى على الصعيد العسكري، إذ كثفت إسرائيل خلال الأشهر الماضية من ضرباتها العسكرية في سوريا، وحتى وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) كانت سابقًا تُعلن عن التصدي للضربات الإسرائيلية، بينما لم تعلن عن ذلك بالضربتين الإسرائيليتين في نيسان، وفق خليل الذي تساءل عن أن الأسد الذي لم يدافع عن بلده ضد الضربات التي يتلقاها من تل أبيب، كيف سيشارك في الرد على إسرائيل لشنها حربًا همجية على غزة؟
ظروف معقدة
في 7 من تشرين الأول 2023، نفذت كتائب القسام” الذراع العسكرية لـ”حماس” عملية “طوفان الأقصى” على مستوطنات في غلاف قطاع غزة دون تمهيد مسبق، ما قوبل بتصعيد إسرائيلي عنيف أنتج استهدافًا جويًا للأحياء السكنية والمرافق الحيوية واجتياحًا بريًا وقصفًا متواصلًا حتى اليوم.
هذه العملية وما تبعها من رد إسرائيلي متواصل، جاءت في وقت يزداد فيه المشهد السوري تعقيدًا، وحرب يخوضها النظام على الأراضي السورية منذ 13 عامًا في سبيل الحفاظ على مفاصل الحكم، ضد مطالب السوريين التي تنادي بإسقاطه منذ عام 2011.
تداخلات إقليمية ودولية وقوى عسكرية مختلفة على الأراضي السورية وواقع اقتصادي منهك، ودول “حليفة” و”محور مقاومة” ودول “معادية” وعلاقات مضطربة، جميعها مرتبطة بموقف النظام السوري حيال ما يحصل في غزة.
حتى تموز 2023، بلغ عدد المواقع العسكرية للقوى الخارجية في سوريا 830 موقعًا، تتوزع تحت هيمنة الدول والجهات المؤثرة على الأرض (التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وروسيا وتركيا وإيران).
وشهد الاقتصاد في سوريا أزمات وصلت به إلى حالة العطب، وقدّرت خسائر الاقتصاد بـ442 مليار دولار أمريكي خلال ثماني سنوات من الحرب، وفق تقرير للأمم المتحدة في 2020، توزعت بين 117.7 مليار دولار من قيمة الدمار المادي لرأس المال، و324.5 مليار دولار للخسارة في الناتج المحلي الإجمالي.
ومنذ آب 2023، تواصل محافظة السويداء احتجاجاتها الأهلية السلمية المطالبة بالتغيير السياسي وإسقاط النظام السوري.
من “محور المقاومة” إلى الحلفاء الجدد
بعد سنوات من القطيعة، برز ظهور بشار الأسد على الساحة العربية، من خلال عودة النظام إلى جامعة الدول العربية في أيار 2023، عقب تجميد عضويته 12 عامًا، تلتها دعوة الرياض له لحضور القمة العربية، ومنذ ذلك الوقت، شهد الملف السوري حالة نشاط وحراك سياسي، تصدرته السعودية، التي حملت على عاتقها مسؤولية إعادة النظام إلى “الحضن العربي”.
قبل ذلك، شهد آذار 2022 زيارة بشار الأسد للإمارات العربية المتحدة (التي تمتلك علاقات مع إسرائيل)، وكانت الزيارة الأولى له إلى دولة عربية منذ انطلاق الثورة 2011.
وقال مسؤول إماراتي حينها، إن زيارة الأسد كانت جزءًا من استراتيجية جديدة أوسع للتحدث مع الجميع في المنطقة ومحاولة “عدم وجود أعداء”، لافتًا إلى نهج جديد تتبعه الإمارات قائم على الدبلوماسية وخفض التصعيد.
كما برز النشاط الأردني في الملف السوري مع الحديث عن “مبادرة” في 2021 حملت اسم “لا ورقة”، وعاد بقوة خلال عام 2023، من خلال ما سمّي بـ”المبادرة الأردنية” التي تقدمها عمان للحل السياسي في سوريا، بما فيها من مطالب ومقترحات وتفاصيل تطالب النظام بكثير من الإجراءات على الأرض من جهة، وما يصبو النظام لتحقيقه عبر بوابة هذه “المبادرة” من جهة أخرى، وكانت تسير على مبدأ “العرض والطلب”.
تحذير بعدم التدخل
بعد يومين من “طوفان الأقصى”، نقلت الإمارات تحذيرًا إسرائيليًا لبشار الأسد، للبقاء بعيدًا عن الحرب الدائرة في غزة، وعدم السماح باستخدام الجنوب السوري منطلقًا لعمليات تستهدف إسرائيل، بحسب تسريب نقله موقع “أكسيوس” عن مصدرين مطلعين على الجهود الدبلوماسية الإماراتية.
ووجه مسؤولون إماراتيون رسائلهم إلى مسؤولين سوريين “رفيعي المستوى”، وأطلعوا إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، على اتصالاتهم مع السوريين، وفق الموقع.
ومع أي حديث عن تدخل الأسد في صراع أو حرب مع إسرائيل، تعود إلى الواجهة محاضرة شهيرة موثقة أمام “الكونجرس” الأمريكي لأندرو إكسوم، الذي شغل سابقًا منصب نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي لسياسة الشرق الأوسط، مفادها أن انهيار النظام السوري يهدد أمن إسرائيل ويشكل خطرًا على مصالح أمريكا في المنطقة.
وذكر إكسوم أن أمريكا هي من بادرت بالتواصل والتنسيق مع روسيا للتدخل في سوريا، بعد أن أوشك النظام على السقوط، لافتًا إلى أنه في نهاية عام 2015، بدأت أمريكا وإسرائيل تخشيان من انهيار نظام الأسد.
الباحث محمود الحسين قال لعنب بلدي، إن علاقة النظام السوري مع إسرائيل مضبوطة تمامًا، ولم يشكل النظام يومًا خطورة أو تهديدًا على أمن إسرائيل، بل على العكس كان دائمًا حريصًا على تقديم خدماته الأمنية لتل أبيب مقابل حفاظه على بقاء الأسد.
ولفت الباحث إلى أن طبيعة هذه الخدمات، من خلال تقديمه للمعلومات أو ربما مساهمته بطريقة ما بتنفيذ الاغتيالات التي يقوم بها الإسرائيليون تجاه الشخصيات الإيرانية الموجودة في سوريا.
وأضاف الحسين أن النظام السوري إن لم يكن بمقدوره ضبط الوجود الإيراني على أراضيه، فهو حريص على تقديم هذه الخدمات الأمنية للإسرائيليين، كرسالة قديمة جديدة، مع يقين إسرائيل بأن هذا النظام لا ولم ولن يشكل أي خطر على أمنها ووجودها.
يُعتبر النظام السوري حليفًا استراتيجيًا لروسيا وإيران، وأسهمت هاتان الدولتان في الحفاظ على الأسد وإبقائه على رأس السلطة، كما تحمل دمشق أهمية حيوية واستراتيجية لموسكو وطهران، كما تنسجم مواقف الأسد مع مصالح هاتين الدولتين.
وتمتلك إيران 570 موقعًا عسكريًا في سوريا حتى تموز 2023، وهي ذات نفوذ وحضور واسع على الأراضي السورية، وهو أكبر حجم نفوذ خارجي في الخريطة السورية، بينما تمتلك روسيا 105 مواقع عسكرية.
الباحث في مركز “عمران للدراسات” معن طلاع، قال لعنب بلدي، إن النظام السوري يحاول التماهي مع الاستراتيجية الإيرانية الرامية لتأطير الصراع والحد كذلك من امتداده خارج الحدود الفلسطينية.
ويرى طلاع أن سلوك النظام يقوم على عدم تجاوز قواعد اللعبة، في ظل الأزمات المعقدة والمترابطة التي تعيشها المنطقة، ويدرك أن تداخل خيوطها ليس في مصلحته، وسيجر تدخلًا لسوريا لا يريده ولا يحتمله.
ويتفق الباحث السوري في دراسات النزاع محمود الحسين مع وجهة نظر طلاع، ويرى أن موقف النظام مع الحرب على غزة، يتسق تمامًا مع سياسة حلفائه، ولا يتعارض معها مطلقًا، من ناحية كون أمن إسرائيل خطًا أحمر لا يجوز المساس به أو حتى الاقتراب منه.
“مكافآت الحياد”
كشفت الأزمات التي تمر بها سوريا على جميع الأصعدة وحتى الكوارث، عن بحث وسعي النظام لمكاسب سياسية أو اقتصادية حتى لو كانت على حساب الأرواح، وهذا ما كشف عنه زلزال 2023 المدمر، حين طغى الجانب السياسي على الاستجابة الإنسانية.
ولا يقتصر الأمر على ما يحدث داخل سوريا، إنما يبحث النظام عن مكاسب من أي ملف إقليمي أو دولي يرتبط بسوريا أو مع حلفائها بما يتقاطع مع مقايضة أو تبادل مصالح أو منافع، الأمر الذي يطرح تساؤلات عن مكاسب النظام وخسارته من موقفه مما يجري في غزة.
الباحث المتخصص في العلاقات العسكرية المدنية بمركز “عمران للدراسات” محسن مصطفى، قال لعنب بلدي، إنه لا يمكن الجزم حتى الآن بأن النظام قد حقق مكاسب من حرب غزة، وربما هناك مكاسب مادية من الإمارات بمقابل عدم التصعيد ضد إسرائيل.
وبحسب مصطفى، يمكن القول إن وقوف الأسد على الحياد ساعده على ضمان عدم تعرّض قواته لمزيد من الخسائر المادية والبشرية على الصعيد العسكري، في حال شنّت إسرائيل هجمات على أهداف عسكرية في سوريا.
من جهته، يرى الباحث الفلسطيني محمود زغموت في حديثه لعنب بلدي، أن سلوك النظام السوري في النأي بنفسه عما يحصل في غزة، يحمل أبعادًا ومصالح عديدة، مرجحًا أن يكون النظام يرمي من خلاله للحصول على مكافأة، إما من خلال دعمه سياسيًا، عربيًا ودوليًا، أو اقتصاديًا عبر رفع أو تخفيف العقوبات الأمريكية والغربية المفروضة عليه منذ سنوات، والمضي في خطوات جادة نحو دعم مشروع (إعادة الإعمار) الذي يسعى إليه ويروج له منذ وقت.
أما الباحث معن طلاع، فذكر أن أهم المكاسب التي يريد الأسد تحقيقها مقابل وقوفه على الحياد في حرب غزة، هو التفرّغ التام للقضايا الداخلية، مستغلًا ثبات الجغرافيا وركود الجبهات العسكرية في سوريا، ما يساعده على التهرب من العقوبات والضبط الأمني وتمكين بعض الشبكات الاقتصادية والاجتماعية وتحكمه بالسلطة وتهيئة القطاع المدني ليكون شريكًا له.
وأضاف طلاع لعنب بلدي، أن تنصل الأسد من حرب غزة، يساعده أيضًا في إرسال رسائل إلى دور الجوار تهدف إلى إعادة تعويمه وإنعاش علاقاته الاقتصادية معها، والحفاظ على شكل المنظومة الأمنية الإقليمية، وهذا يحقق له مكسب كبير وهو احتلال قواعد اللعبة الأمنية في المنطقة، والتأكيد على أنه جزء من هذه المنظومة التي تراعي الأمن العام.
بدوره ذكر الصحفي خالد خليل أن النظام السوري حاول النأي بالنفس مما يحصل في غزة، من أجل تسهيل الاندماج في المحيط العربي، والاستفادة من أي تسوية إقليمية ترعاها القوى العظمى تسهم في ترسيخ حكمه ومساعدته بملف إعادة الإعمار.
ماذا خسر الأسد؟
يرى الباحث معن طلاع، أن بشار الأسد خسر ما يُعرف بالدور الإقليمي الذي كان يميز السياسة الخارجية السورية سابقًا، التي كان لها دور فاعل في المنطقة، بينما الآن أصبحت ملعبًا لقواعد المنطقة.
في السياق ذاته قال خالد خليل، إن بشار الأسد خسر السردية السياسية والإعلامية التي أسسها والده على مدار عقود، بأن سوريا دولة “ممانعة”، والآن انكشفت هذه العورة ولم يعد يستطيع المساومة بالورقة الفلسطينية كما كان يفعل سابقًا، لكن عمومًا النظام السوري لا يوجد ما يخسره، لأنه نظام مراوغ وبنفس الوقت خاضع لإيران، وتحولت العلاقة معها من مجرد حليف إلى الوصاية الكاملة.
وذكر تقرير لمركز “جسور” للدراسات، أن الأسد خسر قرار السلم أو الحرب لمصلحة روسيا والميليشيات الإيرانية، التي تُحاول الإمساك بقرار المواجهة مع إسرائيل انطلاقًا من جنوبي سوريا، على أمل أن يسهم ذلك في إبقاء حضوره بالمشهد الفلسطيني السياسي والإعلامي وعلى نحو أقل العسكري.
وبحسب المركز، فإن النظام السوري خسر فعليًا لمصلحة إيران إحدى أبرز أدوات القوة التي كان يُسوّق لها إقليميًا ودوليًا، وهي التأثير في القرار العسكري والأمني للفصائل الفلسطينية انطلاقًا من الجبهة السورية، على غرار ما حصل معه بعد خروج قواته من لبنان عام 2005، الذي أضعف قدرته على التأثير في “حزب الله” على حساب إيران.