عنب بلدي – نور مؤذن
“غادرنا السعودية في عام 2020، وغيّرنا نظامنا كله من أجل مستقبل الأولاد وتأمين حياة أفضل لهم، وابتعد الأبناء عن والدهم، لكن الأمر بات أكثر صعوبة اليوم”.
ريم فتال، ربة منزل (39 عامًا)، هي واحدة من مئات النساء السوريات اللواتي اضطررن للبعد عن أزواجهن نتيجة الظروف الاقتصادية، وبات عليهن حمل مسؤولية أطفالهن بشكل منفرد.
فرضت الظروف الحياتية والاقتصادية على العائلات السورية العيش في أماكن متفرقة، ما تسبب في تفكك كثير منها وتعقيد حياة أفرادها.
“زعزعة استقرار”
كحال عائلات سورية أخرى، انتقلت ريم من السعودية إلى تركيا، بينما بقي زوجها مرتبطًا بعمله في السعودية لتأمين ظروف معيشية أفضل، ومحاولة تأمين المستقبل الاقتصادي والعلمي لأطفاله، مع ارتفاع تكاليف الإقامة في ذلك البلد، بما في ذلك الرسوم الحكومية، وأصبح الراتب الشهري لا يكاد يكفي احتياجات المنزل.
“قبل (كورونا) كان الأمر مقبولًا، وبعد الجائحة خُفضت الرواتب وانقطعت لعدة أشهر، وبات الرحيل ضروريًا”، قالت ريم لعنب بلدي.
لكن رحلة ريم إلى تركيا وبقاءها وحيدة إلى جانب أطفالها لم تكن بالسهولة التي تمنتها، “المسؤولية كبيرة والمشكلات كثيرة”، قالت ريم.
أما “نورة” (اسم مستعار، تحفظت على ذكر اسمها الحقيقي لأسباب خاصة)، البالغة من العمر 33 عامًا، فوجدت نفسها تحمل مسؤولية الأسرة بمفردها بعد رحيل زوجها إلى ألمانيا، وبدأت بالعمل في ورشة خياطة لتحسين وضعها المعيشي.
والسبب الرئيس لهجرة زوج “نورة” إلى ألمانيا وترك أطفاله وزوجته في تركيا هو تأمين مستقبل أفضل للعائلة، وهو ما ضاعف من صعوبات الحياة اليومية، فإلى جانب عملها، يجب أن تهتم بأطفالها وتحل مشكلاتهم اليومية والمتكررة، ما يشكل ضغطًا إضافيًا عليها.
وفق “نورة”، فإن مدخول العائلة قبل هجرة الأب إلى ألمانيا لم يكن يكفي سوى تكاليف الحياة المعيشية فقط، من إيجار المنزل وفواتير والتزامات المدارس.
وعمل زوج “نورة” في وظيفتين، محاولًا تأمين استقرار مالي طوال معيشتهم التي استمرت في تركيا لعشر سنوات.
ولم تتمكن وعائلتها من تأمين وضع قانوني مستقر في ظل حيازتها على “كملك” (بطاقة الحماية المؤقتة) على حد قولها.
لـ”نورة” ثلاث طفلات، تبلغ الكبيرة منهن 14 عامًا، والوسطى 12 عامًا، و”آخر العنقود” ست سنوات، ولم تتوقع الأم أن يتأثر الأطفال بهذه الطريقة، إذ قالت إن ابنتها الكبيرة تعبت بشكل متواصل، واكتشفت بعد اصطحابها للطبيب أن مرضها ناتج عن عوامل نفسية، وأضافت أن الوضع الحالي “زعزع استقرار” الأطفال.
يؤثر غياب الأب في حياة الأسرة ككل، خاصة بمجتمعنا، إذ يعتمد الأب على أكثر من وظيفة أو عمل في الحياة الاجتماعية، وفق قول الباحثة الاجتماعية عائشة عبد الملك لعنب بلدي.
ثلاثة أدوار للأب
قسمت عبد الملك وظيفة الأب إلى ثلاثة أقسام، فهو المعيل والمنسق المالي واللوجستي.
ثانيًا، يعد الأب مصدر أمان للزوجة والأولاد، وهو جاهز لحماية العائلة عند حدوث أي مشكلة أو اعتداء وغيره.
ثالثًا، وهو الدور الأهم، كون الأب صاحب السلطة داخل البيت، إذ يحدث خلل في كامل الأسرة في حال عدم وجوده، وفق عبد الملك.
وتعتبر الأسرة بمنزلة الملاذ الآمن الذي يشجع على النمو الصحي والتطور الإيجابي لدى أفراد العائلة، ويُعتبر وجود الأب والأم معًا ورعايتهما للأطفال أمرًا بالغ الأهمية في هذا السياق، وفق تقرير لمنظمة الصحة العالمية عن تحسين تنمية الطفولة المبكرة.
يشعر الأطفال بالأمان النفسي والثقة بالنفس عند حضور الأب والأم، ويتطور نموهم العقلي والنفسي والوجداني والأخلاقي بشكل صحيح ومتوازن، وفق منظمة الصحة العالمية.
ومع غياب أحد الوالدين، يتغير هذا الملاذ، كما تواجه الأسرة تحديات جديدة تتطلب صمودًا وتحملًا من قبل الوالدة المتبقي.
تراجع المستوى التعليمي لأطفال “نورة”، وبحسب رأيها، فإن عدم الاستقرار والعوامل النفسية المترتبة على غياب الأب من الأسباب الرئيسة لهذا التراجع.
وتبحث “نورة”، وفق ما قالته لعنب بلدي، عن طريقة للحاق بزوجها ومغادرة تركيا.
وبلغ عدد السوريين المقيمين في تركيا، بحسب أحدث إحصائية أصدرتها رئاسة الهجرة التركية عبر موقعها الرسمي، ثلاثة ملايين و174 ألفًا و851 لاجئًا، ممن يحملون بطاقة “الحماية المؤقتة”.
ريم فتال قالت من جانبها لعنب بلدي، إنه في البداية كان الأطفال متحمسين جدًا لخوض تجربة جديدة، ولكن بعد خوض التجربة والغوص فيها، وفقدان الأب تأثرت نفسيتهم بشكل كبير، ولكن بعد مرور أربع سنوات، أصبح هناك تأقلم على الأوضاع واستيعاب للظروف.
فقد الأب أو السند، المثل الأعلى للطفل الذكر، والحبيب للطفلة الأنثى، يسبب تداعيات بالنقص في العواطف لدى الطفل، إذ توجد مشاعر مقيدة يجب وصولها للأب، لا تصل عند غيابه، بحسب قول الباحثة عبد الملك.
بسبب التعلق الشديد بالوالدين، تؤثر صحة الطفل النفسية بمناعته وزيادة الأمراض، في ظل غياب أحدهما، وفق عبد الملك.
وأضافت الباحثة أن غياب الأب يؤثر في الناحية التعليمية ودراسة الطفل ومستقبله، خاصة أن الأب هو مصدر الأمان والمسؤول.
ووفق دراسة أجرتها جامعة “هارفارد” البريطانية، فإن الأطفال الذين يعيشون في بيئة تفتقر لوجود الأب، يعانون من مشكلات في التطور النفسي، وزيادة معدلات القلق والاكتئاب، وصعوبات في التكيف وبناء العلاقات العاطفية القوية والتعبير عن مشاعرهم بشكل صحيح.
كما يواجه الأطفال الذين يعيشون دون أب صعوبات أكبر في الأداء الأكاديمي، ما يؤثر في مستواهم التعليمي بشكل عام، بحسب دراسة لمجلة “علم النفس التربوي والصحي والمجتمعي“.
الأم تدفع الثمن
“ما بنكر، مرت أيام ضعفت فيها وحسيت لحظات بالندم البسيط تجاه المسؤولية، بس برجع بقوي حالي وبتذكر إنو نحن خطينا هالخطوة كرمال الأولاد ولمعيشة أفضل لقدام”، قالت ريم لعنب بلدي.
وأضافت ريم أن مسؤوليات العائلة لم تكن مهمة سهلة، فهي ليست فقط الأم، بل أصبحت لأطفالها الأب أيضًا.
ويكمن التحدي في تربية البنات والعمل في الوقت نفسه، خاصة مع وجود بنات في سن المراهقة، وهي سن تتطلب طاقة أكبر.
في حال بُعد الزوج أو فقدانه تضيع المرأة التي تحاول أن تكون لأطفالها الأب والأم، فلا تستطيع أن تقوم بالدورين.
عائشة عبد الملك
باحثة اجتماعية
وبالرغم من تحملها لهذه المسؤولية، تواجه ريم تحديات يومية تجعلها تشعر بالإرهاق والتعب، إذ تقوم بجميع المهام المنزلية والعائلية من تدبير المنزل إلى رعاية الأطفال، بالإضافة إلى متابعة جميع شؤونهم اليومية من تربية ومتابعة أمور المدرسة وعند المرض وتحضير أمور المنزل، وفق قولها.
وأضافت ريم أن صحتها تأثرت مع زيادة المسؤوليات، إذ بدأت تعاني من آلام الظهر والأكتاف نتيجة القيام بالأعمال المنزلية، وحمل الأغراض الثقيلة.
تغيرت حياة “نورة” بعد المسؤولية التي تحملها بمفردها، سواء كانت مادية أو نفسية أو معنوية، واعتمادها على نفسها بشكل تام بعد هجرة زوجها إلى ألمانيا، وتوليها مسؤولية رعاية الأطفال والعمل في الوقت نفسه، وهو أمر ليس بالسهولة التي يبدو عليها، وفق قولها.
تتغير شخصية المرأة ونفسيتها بشكل كامل عند تحملها المسؤولية كاملة، إذ تجعلها إنسانًا صاحب سلطة، وفق قول الباحثة الاجتماعية عبد الملك، كما تتغير علاقة المرأة بزوجها، إذ ترتبك بعد عودة الرجل ثانية عقب اعتيادها تسلّم زمام الأمور لفترة طويلة، وتحولها خلال تلك الفترة إلى المنسق المالي والأمني والاجتماعي والتعليمي لأطفالها.
وتابعت الباحثة أن من الصعب على المرأة أن ترجع للوراء في ظل عودة الرجل وتسلمه هو زمام الأمور.
اللاجئات المعيلات وأنماط التكيف
تعاني الأمهات اللواتي يتحملن المسؤولية بمفردهن من العديد من التحديات اليومية، بدءًا من الأعباء المادية والنفسية والعاطفية، وصولًا إلى صعوبات يواجهها الأطفال في ظل غياب أحد الوالدين، حيث يفتقدون الدعم والرعاية الكاملة التي يحتاجون إليها.
وتحمل المرأة المسؤولية في ظل غياب الرجل، سواء كان ذلك بسبب السفر، أو العمل، أو ظروف أخرى، يعتبر تحديًا مُرهقًا ومُحوريًا في حياتها، وفق كتاب “لاجئات: عن تكيف اللاجئات المعيلات في اسطنبول”.
وتحت وطأة هذه الظروف، تجد المرأة نفسها وحيدة في مواجهة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، إذ تُجبر على تولي مهام الإعالة وتوفير الاحتياجات الأساسية للأسرة.
وتندرج التحديات تحت ثلاثة أنماط رئيسة، هي نمط التكيف المُنتج، ونمط التكيف بالاعتماد على المساعدات، ونمط التكيف السلبي (الذي يتضمن قبول الظروف دون تغيير فعال)، كما تؤثر في قدرة اللاجئة على التكيف إيجابًا أو سلبًا، وفق كتاب “تكيف اللاجئات المعيلات في اسطنبول”.
وهناك ثلاثة أنواع من العوامل وفق الكتاب، يتعلق الأول بالجندر، والثاني باللاجئة نفسها، بينما يتعلق النوع الثالث بسياق اللجوء المرتبط بسبل العيش.
وتتأثر قدرة المرأة على التكيف بعوامل عدة، بما في ذلك التفاعل مع التحديات اليومية، والتواصل مع المجتمع المحيط، بالإضافة إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية العامة.