تعا تفرج
المعارك مستمرة يا جماهيرنا يا حرة
خطيب بدلة
يمكن اعتبار حديثنا، لهذا اليوم، امتدادًا للفكرة الرهيبة، المدمرة، التي ناقشناها في زاوية “تعا تفرج” السابقة، وهي أن أمتنا تحتقر الإنسان الفرد، تهينه، وتقلل من شأنه، وأحيانًا تقتله، لكي تحيا الجماعة!
من أجل استمرار عملية السحق، والدعس على رأس الفرد، اخترعت الجماعة، عبر العصور، سلسلة طويلة من الحجج، والذرائع، كالقول بأن العالم كله، بجهاته الأربع، متآمر علينا، يريد اقتلاعنا من جذورنا، وبالأخص الغرب الاستعماري، الإمبريالي الذي زرع الكيان الصهيوني في قلب وطننا العربي الكبير، ليكون خنجرًا في خاصرة أمتنا، خير أمة أخرجت للناس.
منذ ثلاثة أرباع القرن، أي منذ أن ظهرت إسرائيل، وأمتنا ماضية في اختراع الكلمات التي تنتمي إلى القيم العليا، مثل: الوطن، الأمة، القضية، المعركة… ولا يزال إعلاميو الجماعة، وقادتها، ومنظروها، يصوغون الشعار تلو الشعار، بقصد أن يبقى الفرد الذي يحتقرونه مشوشًا، تائهًا، مسطولًا، لا يعرف شرقه من غربه، ولا كوعه من بوعه. يقولون: كل شيء للمعركة، ولا صوت يعلو على صوت المعركة، والمعارك مستمرة، يا جماهيرنا يا حرة. وهذه الجملة الأخيرة، أقصد “يا حرة” ليست صحيحة، فجماهيرنا لم تكن “حرة” في يوم من الأيام، وكل ما في الأمر أن الكلمة جاءت على القافية.
المشكلة الحقيقية التي تعاني منها هذه الشعوب، أو هذه الجماهير الغلبانة، أنها لا تتوقف عند أي كلمة، أو عبارة، أو جملة تأتي في صيغة شعار، لتسأل عن معناها، ومدلولاتها، ولكن، قد يظهر وسط هذه الجماهير البائسة، فرد واحد يمتلك الحد الأدنى من العقل، أو من الوعي، فيمسك بمطلقي هذه الشعارات من ياقتهم، ويسألهم: شو يعني معركة؟ معركة مَن مع مَن؟ ولماذا يجب علينا أن نخوض معركة أنتم تحددون العدو وساعة الصفر فيها؟ وإذا تغاضينا عن هذا كله، نريد أن نعرف: لماذا يجب علينا أن نخسر كل المعارك التي تأخذوننا إليها؟ وعلى أي أساس تريدوننا أن نصدق سلسلة الأكاذيب والفبركات التي تطلقونها لكي تقنعونا بأن الخسارة كانت أمرًا لا مندوحة عنه؟
المعضلة الأكبر، ضمن هذه الخلطة العجيبة من الشعارات الرنانة، أنها ولودة، قادرة على تفريخ شعارات أخرى تزيد من طين الإنسان (الفرد) بلة. فمن مفهوم القضية العادلة، والوطن الجريح، والمعركة التي لا يعلو صوت على صوتها، يظهر مفهوم التضحية، وهو واضح لا لبس فيه، ملخصه: أن يضحي الفرد في سبيل الجماعة.
ولكن هذا المفهوم، على الرغم من مأساويته، ينطوي على جانب مضحك، وهو أن دعاة التضحية، في غالبيتهم، يعرفون أن الإنسان يعيش حياة واحدة، ولا يمكن له أن يخسرها بهذه السهولة، مهما كان الهدف نبيلًا، ولذلك اخترعوا تلك الفكرة الرهيبة الأخرى: التضحية بالآخرين!
ومفهوم التضحية، بالنظر إلى خطورته، تجده اليوم مثار جدل بين المزايدين، وتجار القضايا، وكل واحد منهم يتباهى على غيره بضخامة حجم التضحيات التي قدمها، فيقول: أنا ضحيت بابني، أو بثلاثة من أبنائي، وقد استشهد 50 شابًا من أسرتي. ولكن الغريب، أن الواحد من هؤلاء، يستحيل أن يضحي بنفسه. فتأمل!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :