لمى قنوت
تتضاعف التحديات البيئية والجيوسياسية في سوريا بفعل فقدان الأمن المائي، إذ تعتبر منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “الحصول على مقدار كافٍ من المياه الآمنة بتكلفة معقولة لعيش حياة نظيفة وصحية ومنتجة، مع ضمان حماية البيئة وتحسينها”، حقًا أساسي لكل شخص، ويرتبط الأمن المائي بالأمن الغذائي، وانعدامهما يهدد الاستقرار والصحة والبيئة ويؤجج النزاعات.
منذ عام 1980 شهدت سوريا ثلاث موجات جفاف، اشتدت بين عامي 2006 و2011، وفي صيف عام 2021 تقاطعت موجة الجفاف الشديد مع إفقار وصلت فيه نسبة الأفراد الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى 90%، وبالتزامن مع آثار الصراع وتدهور القطاعات الصحية والزراعية والرعوية، لم تعد تعمل حوالي 50% من مرافق المياه والصرف الصحي، وانخفضت نسبة مياه الشرب إلى حوالي 40%، بينما في عام 2010 كانت المياه متوفرة بنسبة 98% لسكان المدن، وبنسبة 92% لسكان الريف.
عسكرة المياه
أسهمت سنوات الحرب في تزايد حدة ظواهر التغير المناخي، فأدت الزيادة في انبعاثات الغازات الدفيئة إلى تعزيز الاحترار المحلي وحبس الأمطار في الغيوم، وعطلت الهجمات العسكرية على مرافق المياه وصول الناس إليها، حيث وصل عدد الهجمات في عام 2019 إلى 46 هجومًا، وأدى تدمير محطات معالجة مياه الصرف في كل من دمشق وحلب في عام 2012 إلى تسرب مياه الصرف الصحي دون معالجة وتلوث المياه الجوفية، واشتد أثرها مع فقدان الكوادر الخبيرة في صيانة المحطات، التي قدرت نسبتهم بين 30 و40%، وأدى تضرر محطات الكهرباء، التي انخفضت قدرة توليدها بنسبة 60 و70%، إلى المزيد في نقص المياه.
قطع النظام الحاكم في سوريا ضخ المياه عن محطة عين البيضا في مدينة الباب (مساحتها 13 كيلومترًا مربعًا) منذ بداية عام 2017، فاعتمد السكان المقيمون فيها، والبالغ عددهم 300 ألف نسمة، على تعويض النقص من خلال استهلاك مياه الآبار الجوفية بشكل مكثف ما أدى إلى شح فيها، ومن أصل 13 بئرًا استخرجت المياه منها، جفت منها 5 آبار، وتعمل الثماني الباقية بمعدل تدفق 40 مترًا مكعبًا في الساعة، وتعاني المدينة، التي نزح إليها المهجرون قسرًا من عدة مناطق استهدفها النظام، من الجفاف ونقص في المياه، وتصحر الأراضي الزراعية (4500).
يواجه سكان مدينة الحسكة انخفاضًا في نسبة هطول الأمطار، وتراجعًا في المياه الجوفية، وفي نسبة الأراضي المزروعة التي وصلت إلى 53% خلال عام 2021، وذلك بسبب ضعف الموارد المائية وهجرة المزارعين، نساء ورجالًا، وأدى توقف ضخ المياه في محطة علوك التي تغذي مدينة الحسكة وريفها، وذلك إثر الاستهداف التركي لمحطة كهرباء منطقة عامودا، وسلسلة الانقطاعات المتكررة لضخ المياه فيها، إلى ازدياد معاناة حوالي 460 ألف نسمة.
الأثر الصحي ونوعية الحياة
تضطر الأسر إلى البحث عن المياه يوميًا، سواء من الآبار الجوفية أو الصهاريج المتنقلة أو خزانات المياه، وغالبًا ما تكون مياهًا ملوثة لا تصلح للشرب ولا حتى لغسل الملابس. ويشكل شراء الماء إرهاقًا ماديًا لا تستطيع الأسر المفقرة تحمل نفقاته، التي قدرت بربع دخل الأسر، فتلجأ إلى التقنين في استخدام المياه على حساب الصحة والنظافة الشخصية، وسواء استخدمت المياه الملوثة للري أو للشرب فهي تسبب مرض الكوليرا والتهاب الكبد والقوباء والإسهال والأمراض الجلدية وغيرها من الأمراض بالتزامن مع انعدام الأمن الغذائي.
قِدم مشكلات الصرف الصحي
في عام 2008، نشرت الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA) دراسة عن تطوير نظم الصرف الصحي في سوريا، شخصت فيه المعوقات الإدارية ومشكلات الصرف الصحي في 7 محافظات من أصل 14 محافظة، كمناطق ذات أولوية، هي: دير الزور، الرقة، الحسكة، درعا، ريف دمشق، طرطوس، اللاذقية. أشارت الدراسة إلى وجود عدد كبير من المشكلات في مرافق الصرف الصحي التي تم إنشاؤها بشكل رئيس في المناطق الحضرية، مثل استخدام أنابيب أسمنتية ذات نوعية منخفضة، ما أدى إلى تسرب مياه الصرف الصحي في عدد من الأماكن، وأن بعض محطات الصرف الصحي لا تشتغل بفعالية، وتم ترك بعضها دون تركيب المعدات الكهربائية والميكانيكية اللازمة، بسبب قيود سياسية ومؤسساتية على استيراد معدات غير متوفرة في سوريا، وقصور في إدارة بيانات مشاريع الصرف الصحي، ووجود العديد من الأقسام والوظائف المتعقلة بتنفيذ المشاريع المغطاة من عدة وزارات، ما جعل العمل غير فعال على الإطلاق.
وأوصت الدراسة بإعادة هيكلة وزارة الإسكان والتعمير، وإطلاق نظام يدعى “نظام الصرف الصحي الصغير” من أجل استخدام مياه الصرف الصحي في الري قرب المناطق الزراعية، وأشارت الدراسة إلى أن تطبيق القانون 50 المتعلق بالبيئة والصادر في عام 2002 كان ضعيفًا جدًا لأن تطبيق عقوبة المخالفات التي ترتكبها الشركات والفعاليات كان مستحيلًا، لأن معظم مياه الصرف الصحي المُلقاة في شبكة الصرف غير معالجة ولا تحقق نوعيتها المواصفات الخاصة بها. أما بالنسبة إلى الإطار التشريعي، فقد أوصت الدراسة بإصدار قوانين تدعم القانون 50.
إن هذه المشكلات القديمة التي تضاعفت بفعل الحرب والتدمير وسوء الإدارة وتغير المناخ بحاجة إلى حلول محلية تعاونية مبتكرة، فلا يوجد في المدى المنظور حل سياسي عادل لسوريا، وبالتالي لا يمكن التعويل الآن على مشروع وطني شامل لإعادة الأمن المائي، ولكن يمكن الاستفادة من التجارب العالمية وتراكم المعارف والتطور التكنولوجي والناشطية البيئية والمناخية والاجتماعية التي تقدم حلولًا فعّالة ومبتكرة لتنقية وتكرير المياه والري والزراعة بتكلفة معقولة بعيدًا عن مركزية التوزيع والإدارة.