حسن إبراهيم | جنى العيسى | رزام السوادي
تسيطر أربعة أجسام مدنية وعسكرية على مفاصل الحياة في مدينة إدلب شمال غربي سوريا وأجزاء واسعة من ريفها، وجزء من ريفي حلب الغربي واللاذقية، وسهل الغاب شمال غربي حماة، تتمثل بحكومة “الإنقاذ” و”مجلس الشورى العام” و”جهاز الأمن العام” و”هيئة تحرير الشام”، وتتقاسم المهام خدميًا واقتصاديًا وأمنيًا وعسكريًا، بينما تفرض “الهيئة” نفسها كصاحبة الكلمة الأقوى وقائدة الدفة في معظم الملفات.
في المدينة التي خرجت من قبضة النظام السوري عام 2015، ظهرت حكومة “الإنقاذ” و”مجلس الشورى”، وهما جسمان مدنيان تشكّلا بدفع من “الهيئة”، ولم ينفكا عن الارتباط بها على الأقل في قضايا خدمية واقتصادية وحتى تعليمية، ولم يبتعدا (بإرادة أو دونها) عن منح قائدها “أبو محمد الجولاني” صدارة المشهد وإطلاق الألقاب عليه من “الشيخ” و”الأخ” إلى لقب “قيادة المحرر”.
هذه الكيانات وما تمخض عنها من دوائر وتشكيلات أصغر، تحكم اليوم مدينة إدلب بمركزية شديدة، وتراتبية واضحة، وضبط محلي، وأطر صورية، وخطاب تخلى عن لهجته الحادة منذ سنوات، ودبلوماسية في التعاطي مع الملفات السياسية، وتواجه اليوم حراكًا غير مسبوق، ومطالب بإسقاط رأس الهرم “الجولاني” ومنع احتكار القرار.
في هذا الملف، تسلط عنب بلدي الضوء على الأجسام المدنية والعسكرية في إدلب، وتناقش مع مسؤولين فيها مهامها وآلية عملها وطرق الولوج إليها، وتناقش مع خبراء ومتخصصين آلية الحكم في إدلب، ومآلات القرار في الملفات.
تحرير إدلب وإقصاء الفصائل
في آذار 2015، خرجت مدينة إدلب عن سيطرة النظام السوري على يد عدة فصائل شكّلت غرفة عمليات مشتركة حملت اسم “جيش الفتح”.
وعقب انتهاء معارك إدلب والوصول إلى تخوم الساحل السوري، سرعان ما تفكّك “جيش الفتح” في نهاية عام 2015، وأخفقت جميع المحاولات اللاحقة لترميمه، رغم جهود بعض الفصائل لإيجاد بديل له.
ودبّت الخلافات بين فصائل “جيش الفتح”، أبرزها الاتهامات التي وجهت إلى “جند الأقصى” بالتعاون مع تنظيم “الدولة الإسلامية”، قوبلت من “جند الأقصى” بتخوين بعض فصائل “جيش الفتح”.
وانسحب فصيل “جند الأقصى” من التجمع حينها، وسمح لبقية عناصره بالتوجه إلى مناطق سيطرة تنظيم “الدولة”، تلاه بعد عدة أشهر إعلان “فيلق الشام” انسحابه من “جيش الفتح”، ليتلاشى التشكيل بخروج الفصائل منه.
استمرت الخلافات بين عدة فصائل، أبرزها مواجهات شهدتها مدينة إدلب بين “جبهة فتح الشام” (جبهة النصرة سابقًا، هيئة تحرير الشام حاليًا) وفصائل المعارضة المسلحة أبرزها “أحرار الشام” عام 2017، واستمرت “الهيئة” بقتال الفصائل تحت مبررات “شق الصفوف، والتبعية، والعمالة، والبغي”، وقوّضت حركة المقاتلين الأجانب حتى برزت كقوة كبرى.
وتعود جذور “تحرير الشام” إلى نهاية عام 2011، حين ظهرت تحت مسمى “جبهة النصرة لأهل الشام”، وهي فصيل تميّز بخروجه من رحم تنظيم “القاعدة”، أبرز الفصائل “الجهادية” على الساحة العالمية، وأعلنت لاحقًا انفصالها عن أي تنظيم، واعتبرت نفسها قوة سورية محلية.
“تحرير الشام” تفرض سيطرتها
خسرت “تحرير الشام” أجزاء واسعة من أرياف إدلب وحماة، أبرزها مدن وبلدات خان شيخون، ومورك، ومعرة النعمان، وكفرنبودة، وقلعة المضيق، وكفرنبل وسراقب، بسبب العمليات العسكرية لقوات النظام وروسيا بين عام 2018 ومطلع عام 2020.
وتوقفت العمليات العسكرية في المنطقة، وباتت تخضع لاتفاق “موسكو” أو اتفاق “وقف إطلاق النار” الموقع بين روسيا وتركيا في 5 من آذار 2020 بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره التركي، رجب طيب أردوغان، رغم خرق هذا الاتفاق، إذ تتعرض المنطقة لقصف شبه يومي.
توجهات “الهيئة” لتثبيت حكمها بشكل أكبر في المنطقة بدأت منذ 2017، إذ أصدرت في آب من العام نفسه مبادرة وبيانًا دعت فيه إلى تشكيل إدارة مدنية لـ”المناطق المحررة”، ثم عملت على استقطاب مؤيدين ودمجهم في هيئة عامة تتولى إشهار الإدارة المدنية.
وحاولت التواصل مع عدد من الشخصيات المعارضة لها، لإقناعهم بالعدول عن موقفهم تجاه “الهيئة” والانضمام للمشروع، ثم دفعت لتشكيل حكومة “الإنقاذ”، تبعها بعامين ظهور وتأسيس “مجلس الشورى” الذي كان بمنزلة “برلمان”.
“الإنقاذ” و”الشورى” غطاء سياسي
شُكّلت حكومة “الإنقاذ” بدفع من “تحرير الشام”، في 2 من تشرين الثاني 2017، من 11 حقيبة وزارية، برئاسة محمد الشيخ، ولم تكتسب الشرعية لقيادة الدفة، حينها، كونها منبثقة عن “الهيئة” التي كانت تخوض قتالًا مع فصائل معارضة، وسط تعقيدات كانت تعيشها المنطقة، وتدخلات دولية وتجاذبات داخلية.
رغم عدم نيل ثقة الشارع في إدلب، بدأت الحكومة بفرض سيطرتها على المنطقة، ووجهت، في 12 من كانون الأول 2017، إنذارًا إلى “الحكومة السورية المؤقتة” يقضي بإمهالها 72 ساعة لإغلاق مكاتبها في محافظة إدلب شمالي سوريا والخروج من المنطقة.
يترأس محمد البشير حكومة “الإنقاذ” منذ 13 من كانون الثاني الماضي، بعد “منحه الثقة” من قبل “مجلس الشورى العام”، الذي قال إن أعضاءه صوّتوا بالأغلبية المطلقة للبشير بعد أن عرض سيرته الذاتية وخطته للدورة الجديدة، وأُعطي البشير مهلة مدتها 30 يومًا لتشكيل حكومته.
نائب رئيس “مجلس الشورى العام”، عبد الكريم بركات، قال لعنب بلدي، إن آلية اختيار رئيس الحكومة تكون بترشيح أعضاء “المجلس” إحدى الشخصيات، ومن شروط دخول المرشح إلى التصويت أن يجري تقديمه من قبل عشرة أعضاء أو أكثر.
وفي حال حقق ذلك أكثر من شخص، يجري التصويت بالانتخابات ضمن جلسة يعقدها “مجلس الشورى”، وينال الثقة الفائز بين المرشحين.
وفي حال كان المرشح شخصًا واحدًا، يصوّت له من قبل أعضاء “المجلس”، وإن تمكن من الحصول على أصوات الأغلبية (ثلثا الأعضاء)، يمنح الثقة ويكلف بتشكيل الحقائب الوزارية ضمن فترة أقصاها 30 يومًا.
وبحسب بركات، توجد شروط أخرى لمنح الثقة، سواء لرئيس الحكومة أو وزرائه، ومن هذه الشروط أن يكون المتقدم سوريًا متزوجًا من سورية، ولا يحمل هو أو زوجته جنسية سواها، وعليه أن يتمتع بـ”الصفة الثورية”، وبتاريخ ثوري قبل 1 من كانون الثاني 2015، وأن يحوز شهادة علمية أقلها إجازة جامعية، ومن الشروط أيضًا إقامته في الداخل السوري.
ويجب أن يتمتع المتقدم بالسيرة الحسنة والسمعة الطيبة، وألا يكون محكومًا سابقًا بأي جرم شائن، ولا تكون زوجته أو أحد أولاده مقيمًا في مناطق سيطرة النظام السوري.
11 وزارة
بعد 46 يومًا من تنصيب البشير، منح “مجلس الشورى” الثقة لـ11 حقيبة وزارية قدمها، وشهدت تغييرًا لوزارتين فقط، إذ منحت الثقة في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لعبد المنعم عبد الحافظ بدلًا من سعيد عادل مندو، وفي وزارة الصحة للدكتور مازن دخان بدلًا من حسين بازار، وجاء فادي القاسم وزيرًا للتنمية خلفًا للوزير السابق محمد البشير (رئيس الحكومة حاليًا).
وعلى مدار السنوات الماضية، لم تشهد المناصب في “الإنقاذ” تغييرات جذرية، سواء على مستوى الوزراء أو رئاسة الحكومة، إذ حافظت معظم الوجوه على الظهور في التشكيلة.
مدير العلاقات العامة في حكومة “الإنقاذ”، جمال شحود، قال لعنب بلدي، إن هناك معايير حددتها القوانين يجب أن تتوفر فيمن يرشح للحقائب الوزارية، كالمؤهل العلمي والسن وغيرهما، دون توضيح ماهيتها بدقة.
وأضاف أن اختيار أي وزير لحقيبة ما يتم من خلال جلسات تشاورية مع لجان الشورى واللجان المجتمعية والنخب والنقابات ذات الصلة، لافتًا إلى أن أمر الترشيح من هذه اللجان مفتوح، وتتم مقابلة المرشحين من قبل رئيس الحكومة المكلف، واختيار من يراه أصلح وأنسب ليتم عرضه على “مجلس الشورى العام” لمنحه الثقة من قبلهم.
من جانبه، قال نائب رئيس “مجلس الشورى العام”، عبد الكريم بركات، إن النظام الداخلي للمجلس يحدد مدة تولي الحكومة سنة واحدة فقط، وهذه المدة هي عبارة عن فترة تجريبية، فمن تثبت جدارته فله أن ينال الثقة لفترة ثانية وثالثة.
وأضاف بركات أن أقل فترة حكومية في العالم هي أربع سنوات، و”لكن نحن في ظروف استثنائية، لذلك كانت فترة الحكومة مقتضبة”.
وإلى جانب حكومة “الإنقاذ”، توجد “إدارة المناطق المحررة”، وتعد كيانًا خدميًا موازيًا أو أقل درجة من “الإنقاذ”، إذ تقسم مناطق سيطرتها إداريًا إلى ثماني إدارات هي: الوسطى، الشمالية، سرمدا، حارم، جسر الشغور، أريحا، أطمة، إدلب.
“مجلس الشورى” بمنزلة “برلمان”
في شباط 2019، طرحت حكومة “الإنقاذ” فكرة تشكيل “مجلس الشورى”، ضمن مؤتمر عام سُمي حينها “المؤتمر العام للثورة”، عُقد في معبر “باب الهوى” برعايتها وترتيب من “تحرير الشام”، ورفضت فعاليات مدنية ضمن المنطقة الانخراط في الانتخابات، معتبرة أن الخطوة ناقصة ومدفوعة من الكيان العسكري.
رئيس “المؤتمر العام للثورة”، فاروق كشكش، قال حينها، إن المجلس من شأنه تحديد شكل الحكومة المستقبلية في المحافظة، سواء بتغيير شكلها أو تسميتها والمرتكزات القائمة عليها، بينما ذكر رئيس “مجلس الشورى” (2019–2020)، بسام صهيوني، لعنب بلدي، في وقت سابق، أن “هناك خطة لإدارة المحرر أُعدت مسبقًا لإشراك جميع المناطق في الهيئة التأسيسية التي تعتبر بمنزلة برلمان”.
وفي 30 من آذار 2019، أعلن القائمون على الانتخابات انتخاب 107 أعضاء في المجلس، من بينهم 55 من مناطق الشمال السوري، و23 من المهجرين، و29 من العشائر والمخيمات والنقابات.
نائب رئيس “مجلس الشورى العام”، عبد الكريم بركات، قال لعنب بلدي، إن المجلس يضم حاليًا 77 عضوًا بمن فيهم رئاسة المجلس، لافتًا إلى أن الأعضاء من جميع شرائح المجتمع السوري (أهالي الشمال ومهجرون ونقابات وعشائر وناشطون وإعلاميون).
وأضاف أن كل شريحة مجتمعية يمثلها 15 عضوًا من وجهاء وأعيان المنطقة المختلفة جغرافيًا أو النقابات أو القبائل السورية، وكل شريحة تنتخب ممثلها في المجلس، عن طريق الانتخابات في حال تقدم أكثر من مرشح، أو عن طريق التزكية، لافتًا إلى أن الانتخابات تجري وفق قانون معدّ من قبل لجنة تتشكل قبل انتخابات “مجلس الشورى”.
يكلف “المجلس” بعدة مهام، منها إعداد القوانين والأنظمة وإقرارها، ومنح أو حجب الثقة عن رئيس الحكومة ومن ثم وزاراته، وقبول استقالة الحكومة أو أحد أعضائها، والتصديق على الخطط العامة للحكومة.
ومن مهامه أيضًا، متابعة عمل الوزارات والرقابة عليها ومساءلتها إن اضطر الأمر، وذلك من خلال لجان مختصة ضمن “المجلس”، والتصديق على مراسيم العفو العام، واستقبال شكاوى المواطنين وإحالتها للجهات المختصة ومتابعتها، وفق بركات.
“شورى جديد” لم يبصر النور
في 24 من آذار الماضي، شهدت مدينة إدلب انعقاد ورشة ثالثة خاصة لمناقشة التعديلات على نظام “مجلس الشورى العام”، بما يحقق تمثيلًا أوسع لجميع شرائح المجتمع، وزيادة صلاحيات المجلس أمام المؤسسات التنفيذية، بمشاركة نحو 30 أكاديميًا وناشطًا.
وكان من أبرز مخرجات الجلسة تشكيل “اللجنة العليا” للانتخابات، واعتماد شكل “مجلس الشورى” بناء على التقسيم الجغرافي للمحافظات السورية، لتمثيل جميع الجغرافيا السورية، وطرح عدة أطروحات تتعلق بآلية الانتخاب، ومعايير الانتخاب والترشح.
في 4 من نيسان الحالي، قالت “اللجنة العليا” للانتخابات، إنها حددت آلية التمثيل في “مجلس الشورى الجديد”، وتقوم على تمثيل جميع المحافظات، وسيتم تقسيم كل محافظة إلى فئتين وهناك صندوق خاص بالعشائر، دون توضيح دقيق لماهية هذا التمثيل أو طبيعة التقسيم.
وقال رئيس “اللجنة العليا”، عصام الخليف، إن اللجنة ستقوم بتوزيع دوائر انتخابية في المناطق بحسب الكثافة السكانية، ما يضمن سهولة الوصول للدوائر، وتعتمد لجان ترشيح في كل منطقة، ولجان انتخاب فرعية، لافتًا إلى أن “اللجنة العليا” هي المشرفة على العملية الانتخابية.
وذكر أن الانتخابات ستبدأ خلال فترة لا تزيد على 20 يومًا، بينما الحد الأقصى للانتهاء من تشكيل مجلس شورى جديد هو حزيران المقبل.
وظهرت بنود متداولة على أنها مخرجات “اللجنة العليا”، وهي مأخوذة من إحدى صور الاجتماعات التي نشرها “مجلس الشورى” وشملت:
تغيير اسم “مجلس الشورى”.
تغيير نسبة التمثيل العامة بحسب عدد السكان.
تمثيل العسكريين في “المجلس”.
تمثيل المرأة.
تمثيل الأقليات.
تمثيل المجالس المحلية.
مصدر من “مجلس الشورى” (غير مخوّل بالتصريح الإعلامي) أوضح لعنب بلدي أن المخرجات لا تزال أولية في طور النقاش، لكنها متفق عليها بنسبة جيدة.
منذ 26 من شباط الماضي، تواجه “تحرير الشام” حراكًا سلميًا ومظاهرات من مدنيين وناشطين وعسكريين وشرعيين، يطالبون بإسقاط “الجولاني”، ويرفضون سياسة احتكار القرار، والتفرد بالسلطة.
شرارة المظاهرات كانت عمليات التعذيب في سجون “الهيئة”، وحالة قتل وإخفاء مصير (كُشفت لاحقًا) لعنصر من فصيل عسكري على يد “تحرير الشام”.
قوبلت المظاهرات بوعود وإصلاحات واجتماعات مكثفة لـ”الجولاني” و”الإنقاذ” و”الشورى”، منها عفو عام عن المعتقلين بشروط واستثناءات، وتشكيل لجان للاستماع إلى الأهالي، وإلغاء رسوم عن الأبنية وإعفاء جزء منها وفق شروط.
بعد ذلك، جاءت حزمة من الوعود وبدأ العمل على تنفيذها، وهي إعادة تشكيل “جهاز الأمن العام” ضمن وزارة الداخلية في “الإنقاذ”، وتشكيل مجلس استشاري أعلى للنظر في السياسات العامة والقرارات الاستراتيجية في المنطقة، ودعوة لانتخابات “مجلس الشورى العام” في المنطقة، وتشكيل ديوان المظالم والمحاسبة، وتشكيل جهاز رقابي أعلى، وإعادة النظر في السياسات الاقتصادية، ومكافحة الفساد ومنع الاحتكار، وتفعيل دور المجالس المحلية والنقابات المهنية.
“الأمن العام”.. استقلالية صورية
رغم وجود وزارة داخلية، نشط “جهاز الأمن العام” منذ 2020 في إدلب كجهة مسؤولة عن عمليات ملاحقة المطلوبين أمنيًا، وصار يعلن بشكل دوري عن إلقائه القبض على مطلوبين و”خلايا نائمة” أو “عملاء للنظام”، وكان مكتب التواصل في “هيئة تحرير الشام” نفى لعنب بلدي، في وقت سابق، تبعية “الجهاز” لها، لكن مع مرور الوقت ظهر على أنه الذراع الأمنية لها.
وبعد عام من تشكيله، قال المتحدث باسم “الجهاز”، ضياء العمر، لعنب بلدي، إن “الأمن العام” مستقل لا يتبع لأي فصيل عسكري، ويتألف من عدة وحدات ومكاتب، من مهامها “جمع المعلومات عن المجرمين، والرصد ومتابعة الأحداث والمراقبة، وتنفيذ مهام التوقيف والتحقيق”، أي أن الجهاز “جهة تنفيذية”، وليس من مهامه تحديد العقوبة التي هي من اختصاص الجهات القضائية.
مع مرور الأيام، رسخت عمليات “الأمن العام” حقيقة أنه “عصا الهيئة” لضبط المنطقة، فإلى جانب مهامه المذكورة، لاحق “الجهاز” منتقدي “تحرير الشام” وزجهم بالسجون، ولاحق غيرهم ممن لا يتماشون مع سياسة “الهيئة”، ومارس التعذيب وفق شهادات وصور المفرج عنهم مؤخرًا بتهمة “العمالة”، حتى بات السؤال عن مصير “القابعين” بقبضة “الأمن العام” أمرًا ليس له جواب.
في 20 من آذار الماضي، أصدرت “الإنقاذ” قرارًا بإحداث “إدارة الأمن العام” وتعمل تحت إشراف وزارة الداخلية، وجرى تسمية مديرها بقرار من رئيس مجلس الوزراء، وبناء على اقتراح من وزير الداخلية، وتُصرف النفقة الناجمة عن القرار من الاعتمادات المرصودة لدى الوزارة.
وزير الداخلية في “الإنقاذ”، محمد عبد الرحمن، أوضح لعنب بلدي أن الإدارة الجديدة ليست بديلًا أو تحديثًا لـ”جهاز الأمن العام”، لافتًا إلى أنها عبارة عن إعادة تشكيل لـ”جهاز الأمن العام” ضمن الوزارة.
وقال الوزير، إن هذه الإدارة هي الجهة المختصة بالأعمال التي كانت موكلة إلى “جهاز الأمن العام” سابقًا، كجهة اختصاصية من حيث ملاحقة خلايا تنظيم “الدولة” وكذلك “عملاء النظام” وخلايا الخطف والسطو المسلح ونحو ذلك.
وذكر عبد الرحمن أن كل هذه الأعمال أصبحت تحت إشراف الوزارة في الشق الأمني، ضمن الإدارة الجديدة المستحدثة.
الباحث في الجماعات “الجهادية”، عرابي عرابي، قال لعنب بلدي، إن “الهيئة” نفت تبعية الجهاز لها حين تم تشكيله لأنها من مطالب المرحلة في ذلك الوقت، وكان سلوكًا طبيعيًا، خاصة مع وجود فصائل أخرى في المنطقة من “أحرار أو جبهة وطنية أو غيرهما”، وإعلانها تبعية “الجهاز لها” يتسبب لها بمشكلات واتهامات باستفرادها بالقرار، لذلك تطلب الأمر الإعلان أنه جهاز مستقل.
وعن إعادة تشكيل “الأمن العام” ضمن وزارة الداخلية في “الإنقاذ”، يرى عرابي أن “الهيئة” لن تخسر قوتها الأمنية، وستكون يدها الضاربة، لأنها تملك حضورًا قويًا وسيطرة على وزارة الداخلية.
“الأمير الجولاني”.. مركزية كاملة تغلفها الكيانات
بدا جليًا تركيز “الهيئة” على تثبيت ركائزها في إدلب، وبعد عام 2020، كثف “الجولاني” الذي لا يزال مُدرجًا ضمن المطلوبين لأمريكا بمكافأة تصل إلى عشرة ملايين دولار أمريكي لمن يدلي بمعلومات عنه، ظهوره في معظم القضايا والملفات، من تدشين بئر وطريق أو تجول في الأسواق أو وعود بدعم الخبز ودعم العملية التعليمية مع زيارات لوجهاء المنطقة.
وتكرر ظهور “الجولاني” بصفته من الأشخاص المسؤولين عن موارد وشؤون الناس في الشمال السوري، وتحدث عن مشكلة الأمن الغذائي، وطرح حلولًا ووعودًا بتحسن الاقتصاد، والانتعاش التدريجي، ولم يفارق لسانه الحديث عن منجزات “الهيئة وقوة المشروع الثوري”.
ولم تغفل “تحرير الشام” الجانب الخارجي، إذ بدأ سياق تقرب “الجولاني” من الغرب منذ أواخر عام 2019، حين أعلن بداية مرحلة جديدة قائمة على قتال إيران وروسيا، تبع ذلك مقابلة صحفية مع “مجموعة الأزمات الدولية”، ذكر فيها تخليه عن طموحاته الجهادية العابرة للحدود، وتركيزه فقط على حكم المنطقة الواقعة تحت سيطرته.
وفي 3 من أيلول 2020، دعا رجل الدين البارز في “تحرير الشام”، عبد الرحيم عطون، إلى تطبيع العلاقات مع الدول الغربية، خلال حديثه لصحيفة “Le Temps” السويسرية الناطقة بالفرنسية.
القيادي المنشق عن “تحرير الشام”، جهاد عيسى الشيخ، تحدث سابقًا لعنب بلدي حول تفرد “الجولاني” بوضع استراتيجيات “الهيئة” وتغيير خطابها وتواصلاتها مع الجهات الخارجية، ومن يشاركه في هذه العملية، واصفًا “الجولاني” بأنه “القائد الأوحد”.
وخلال اجتماع “الجولاني” في 12 من آذار الماضي، قال، “هنالك مطالب لا يسمح بها الآن، وستؤثر على حياة الناس، وهنالك خطوط حمراء يجب أن يعرفها الجميع، لن نسمح لأحد على الإطلاق بأن يمس المحرر بسوء”.
“المحرر لا يمكن أن يسير دون قيادة (…)، إن كنتم راغبين باختيار شخص الآن أنا جاهز (…) المحرر لا يتحمل ساعتين دون قيادة (…) من يرى بنفسه الكفاءة فليقف (…) لا يوجد خلاف على السلطة، تستطيعون الاتفاق على شخص تسمعون إليه أغلبكم بنسبة 60 و70%، وأنا معه، وأسلمه كل ما عندي، وليقد المحرر ويأخذه إلى بر الأمان، وإذا اتفقتم عليه في هذا الجلسة فأنه معه، وإذ اتفقتم على الذي تكلمنا عنه فالواجب أن نستمر في مسيرتنا دون إعاقة”.
قائد “تحرير الشام”
“أبو محمد الجولاني”
قُتل الرجل الثاني وانشق الثالث
منذ عام عصفت أزمة “العمالة والتواصل مع جهات داخلية وخارجية” في صفوف “الهيئة”، وكانت أبرز المطبات والمنعطفات في وجه “تحرير الشام”، ورسمت صراعًا بين تيارات الفصيل وملامح تفكك، اعتقل على إثرها الرجل الثاني في “الهيئة”، “أبو ماريا القحطاني” وكبار قيادات الصف الأول.
وأسفرت عن انشقاق القيادي الثالث جهاد عيسى الشيخ (أبو أحمد زكور)، وكشف الأخير عن قضايا مسؤول عنها “الجولاني”، منها تفجيرات وتعاون مع استخبارات أجنبية.
هدأ الملف إعلاميًا، وبقي “الجولاني” وانشق “أبو أحمد زكور”، وقُتل “القحطاني” في 4 من نيسان الحالي، بحزام ناسف داخل مضافة في إحدى مزارع مدينة سرمدا، وذلك بعد شهر من الإفراج عنه عقب اعتقاله ستة أشهر.
وقالت “الهيئة”، إن شخصًا فجّر نفسه كان من بين ثلاثة أشخاص، تمكن الاثنان الآخران من الهروب، وإنهم يتبعون لتنظيم “الدولة الإسلامية”، لكن التنظيم لم يتبنَّ حتى لحظة نشر هذا الملف، في حين ظهر “الجولاني” في تسجيل مصور إلى جانب جثة “القحطاني” متوعدًا بالثأر والقصاص لدمائه.
الباحث في الجماعات الجهادية والحركات الدينية عبد الرحمن الحاج قال لعنب بلدي، إن مقتل “القحطاني” يمثل هدية ثمينة لـ”الجولاني”، ومع أن عدة أطراف لديها مصلحة في الانتقام من “القحطاني”، من الواضح أن المستفيد الأكبر هو “الجولاني”.
ورغم أن مقتل “أبو ماريا” حصل ببصمات تنظيم “الدولة”، يجعل السياق أصابع الاتهام تتجه إلى “الجولاني” وهذا أمر مفيد للأخير، رغم أنه قد لا يكون الفاعل، وفق الباحث، معتبرًا أن “الجولاني” هو الرابح الأكبر من مقتل الشخص الذي بات يشكل خطرًا حقيقيًا عليه.
واعتبر الباحث أن الاعتقاد بأن “الجولاني” هو الفاعل مع وجود دلائل على خلاف ذلك يجعله (الجولاني) في موقع المهاجم، ويبث الرعب في خصومه، بينما رجّح أن يكون خصوم “الجولاني” أهدافًا تالية، في حال كان الأخير وراء اغتيال “القحطاني”.
“نظام رئاسي” في إدلب يقوده “الجولاني”
الباحث السياسي ومدير الأبحاث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، معن طلاع، قال، إن السلطة في إدلب باللغة القانونية تعد سلطة أمر واقع، وهذا النمط من السلطة يتسم بأن تكون فيه السلطة مركزية، ومراحل صنع القرار فيها هي مراحل سريعة جدًا ومركزية جدًا، فالعلاقة بين الجسم السياسي والجسم التنفيذي علاقة سلسة وسريعة.
وأوضح طلاع في حديث إلى عنب بلدي، أنه باعتبار منطق اللاحل هو المنطق العام في سوريا، بدأت تظهر أنماط حكم جديدة فيها، تتحكم عبرها جهات وجماعات في منطقة ما، معتبرًا أن النمط المعتمد في إدلب نمط حكم يراعي أن يكون هناك شكل من أشكال صنع التشريع، وشكل من أشكال التنفيذ، وشكل من أشكال الإدارة المحلية، وشكل من أشكال الإدارة الاقتصادية أيضًا، على أن يكون بمكان ما هناك منظومة يتفاعل من خلالها المواطنون مع هذه المراكز.
ويرى طلاع أن منطق تجميد القتال يساعد سلطات الأمر الواقع على أن تكون ضابطة لكل هذه التفاعلات بما يراعي بالدرجة الأولى شأنها الأمني، وثانيًا كسب مشروعية من خلال إنتاجاتها في الأطر الحوكمية.
يمكن تجاوزًا أن نصف منظومة الحكم بشكل عام في إدلب بأنها نظام رئاسي في كل القنوات التنفيذية والتشريعية والعسكرية، مردها إلى عصب “أبو محمد الجولاني”، الذي يحاول من جهته أن يبني هذه السلطات، ويتضح أنه يمسك خيوط اللعبة بشكل كامل من ناحية اتخاذ القرار.
معن طلاع
باحث سياسي
“مرجعية القائد”
الباحث في شؤون الحوكمة والخبير المتخصص بشؤون إدارة منظمات المجتمع المدني، الدكتور باسم حتاحت، قال لعنب بلدي، إن الجماعات الإسلامية المتطرفة تبني رؤيتها على بناء الدولة الخاصة بها، ومن خلال تجارب العديد من هذه الجماعات وفي كل مكان وجدت فيه سابقًا، بنت مؤسسات الدولة التي تنتمي في نهاية الأمر إلى فكر ضيق جدًا وإلى مرجعية ضيقة جدًا.
وأشار حتاحت إلى أن هذه المرجعية قد تكون، بشكل علني، شخصًا، ولكن بكل تأكيد، هناك ما يسمى مجلس الشورى أو الأمراء الذين يحيطون بالقائد الذي يعتبر الإمام لهم والذي لا يخالَف رأيه.
كل الجماعات الإسلامية تبني رؤيتها للدولة على ما يسمى بالمركزية الكاملة، وهو ما يسمى في النظم القانونية بسلطة الأمر الواقع.
باسم حتاحتباسم حتاحت
باحث في شؤون الحوكمة
ويرى حتاحت أن “أبو محمد الجولاني” تطور نوعًا ما في هذا السياق، بأن أوجد رؤية الدولة “المدنية الدكتاتورية”، أي الدولة المدنية التي تنتمي إلى شخصه بشكل مباشر أو إلى رؤيته أو إلى فهمه العقدي في عملية إدارة الدولة.
ومن خلال هذه الرؤية، أوجد “الجولاني” حكومة “الإنقاذ” و”مجلس الشورى” والمجالس المحلية وغيرها من الكيانات التي توحي ببناء الدولة المدنية، مبتعدًا نوعًا ما عن فكرة “الأمير المباشر”، وإن كانت هذه الفكرة واضحة لا سيما أنه يتحكم بكل قرارات هذه الكيانات، وفق الباحث.
وتعمل كل هذه المؤسسات والإدارات واللجان بشكل مباشر بأمر من “الجولاني”، حتى وإن أعطاها نوعًا من الصلاحيات والحرية في الإدارة العامة وليس في الإدارة المركزية، إذ ربط الإدارة المركزية بشخصه أو بالمجلس الصغير الذي يديره.
المركزية لمصلحة السلطة
تعرف المركزية على أنها تجميع السلطة بيد عدد محدود من الأفراد، مع عدم استقلال الوحدات الإدارية في مجال اتخاذ القرارات الإدارية بعيدًا عن السلطة المركزية في الأقاليم، وهي عكس اللامركزية حيث لا يقتصر الحكم على فرد بعينه.
قد لا يصلح قياس ثنائية المركزية واللامركزية وفق معاييرها في بيئة مثل البيئة السورية المتشكلة اليوم، لأنهما لا تزالان خاضعتين لمنطق سلطة الأمر الواقع، بحسب ما يرى الباحث السياسي معن طلاع.
وأشار طلاع إلى أن سلطة الأمر الواقع ستتمسك بمركزية القرار، إذ ليس من شأنها أن يكون هناك لامركزية، لأنها قد تؤخر صنع القرار، وبالتالي تؤخر التدخل على أنواعه، سواء كان تدخلًا سياساتيًا أو اجتماعيًا أو أمنيًا.
بهذا المعنى لا يمكن النظر إلى الموضوع بأنه إيجابي أو عدم إيجابي وفق طلاع، لأن هذه عادة معظم سلطات الأمر الواقع المتشكلة في سوريا، ولا سيما “هيئة تحرير الشام”، التي لا يمكن أن نشهد فيها تداولًا لرأس الهرم كغيرها من السلطات.
الباحث في شؤون الحوكمة باسم حتاحت، يرى أن هناك عدة سلبيات وإيجابيات تنتج عن مثل هذا الشكل في الحكم، مشيرًا إلى وجود سلبيتين أساسيتين في هذا السياق.
تتمثل السلبية الأولى بأن هذا النوع من الحكم غير مقبول إقليميًا أو محليًا أو دوليًا، وهو ما يسمى بالدولة أو المنطقة غير المستقرة أو المشتعلة، التي تكون عرضة للمحاربة من قبل المحيط أو الإقليم أو المشروع الدولي ككل.
بينما تتعلق السلبية الثانية بأن النظم والقوانين واللوائح والدساتير الموجودة في المنطقة التي تحكمها سلطة الأمر الواقع متغيرة في أي دقيقة، ومن الممكن أن تنتج عنها قرارات لا تنتمي إلى مفهوم ومشروع الدولة التي تبنى على قواعد صحيحة.
رحيل “الجولاني” يضعضع “الهيئة”
منذ عام، تشهد “تحرير الشام” خلافات على خلفية ملف “العمالة”، ووجود اختراقات كبيرة في صفوف الفصيل، والتعامل مع جهات خارجية وداخلية، منها النظام السوري وروسيا والتحالف الدولي.
ووصلت هذه الخلافات إلى كبار رجالات الفصيل، فأعلنت “الهيئة” تجميد صلاحيات “أبو ماريا القحطاني” واعتقاله ثم الإفراج عنه بعد ستة أشهر، كما أعلن الرجل الثالث “أبو أحمد زكور” انشقاقه عن “تحرير الشام” والتبرؤ منها، وكشف ملفات وقضايا حمّل “أبو محمد الجولاني” مسؤوليتها.
احتوت “الهيئة” هذا الملف وطوقته إعلاميًا وأمنيًا، ولم يصل إلى مرحلة تفكك “تحرير الشام”.
يرى الباحث معن طلاع أن منظومة الحكم ستتأثر برحيل “الجولاني”، لأنه يسمك بكل الصلاحيات، وهو الجزء الأكبر من “هيئة تحرير الشام”، خاصة بعد التصدعات التي أحدثها بنفسه من خلال الاعتقالات لأفراد ينتمون لتيارات تناوئه في الحكم.
من جهته، أشار الباحث باسم حتاحت إلى أنه رغم المركزية الكاملة لمنظومة الحكم في إدلب والمتعلقة بشخص “الجولاني”، فإن هناك العديد مثل هذه الجماعات والحركات الجهادية كتنظيم “القاعدة” أو تنظيم “الدولة الإسلامية” ممن ارتبطوا بشخص واحد لحين موته، وعند ذهابه وجدت بديلًا عنه.
ويعتقد حتاحت أن هذه الجماعات تفكر بالمركزية الضيقة ولكن دائمًا لديها البديل، موضحًا أن “هيئة تحرير الشام” مرتبطة بشكل كامل بشخص “الجولاني”، إلا أن موته أو القضاء عليه قد لا يعني غياب “الهيئة”، إذ قد يخلفه شخص يمتلك ذات النهج والإدارة.