دمشق.. ما بعد القنصلية

  • 2024/04/07
  • 1:42 م
العلم الإيراني وصورة قاسم سليماني أمام ركام القنصلية الإيرانية بدمشق- 1 من نيسان 2024 (رويترز)

العلم الإيراني وصورة قاسم سليماني أمام ركام القنصلية الإيرانية بدمشق- 1 من نيسان 2024 (رويترز)

حسام المحمود | حسن إبراهيم

اتجهت إسرائيل على مدار الأيام الماضية لزيادة جرعة استهدافاتها العسكرية لمواقع في سوريا، على مستوى الكم والنوع، حتى تحولت هذه الضربات والغارات الجوية التي يحدث معظمها تحت جنح الظلام، ودون تبنٍ أو إعلان مسؤولية، إلى حالة شبه يومية، وقد تتكرر في اليوم نفسه أيضًا.

هذه الضربات يرافقها واقع سياسي وميداني معقد يتخطى الحدود السورية، فرغم انشغال إسرائيل بحرب متواصلة منذ نصف عام تشنها على قطاع غزة، لم تكن الجبهة الشمالية للأراضي المحتلة (مع الجنوب اللبناني) بمنأى عن مناوشات لم تتطور إلى حرب مفتوحة، ولم تتراجع بما يوقف مخاطر توسعها.

القصف على مواقع ونقاط حساسة عسكريًا في سوريا، كمستودعات ومعامل عسكرية ومراكز بحوث علمية، أو نقاط تمركز إيراني، أخذ نسقًا متصاعدًا، ما دفع بأكثر من طرف للتدخل والاصطفاف مع إسرائيل أو ضدها فيما يتعلق بالضربات في سوريا، تحت تأثير ملفات سياسية أخرى بالنسبة للأطراف المعنية، كروسيا وإيران.

تناقش عنب بلدي في هذا الملف، مع خبراء ومحللين سياسيين مطلعين، جوانب هذا التصعيد الإسرائيلي ومستقبله، واحتمالية الرد عليه وأشكال هذا الرد، في حال حدوثه، إلى جانب الموقف الروسي القريب من طهران ودمشق، بينما عين موسكو على تفاهمات مع تل أبيب.

إسرائيل تترجم وعيدها

في 1 من نيسان الحالي، خرجت إسرائيل عن قواعد الاشتباك التي اتبعتها على مدار سنوات في سوريا، لتدمر مبنى القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق، في أحدث استهدافاتها وأشدها وطأة حتى إعداد هذا الملف.

وأعلنت حينها وزارة الدفاع في حكومة النظام السوري، مقتل وإصابة كل من كان داخل المبنى، عبر الاستهداف الذي جرى جوًا من اتجاه الجولان السوري المحتل.

وبعد ساعات من هذا الاستهداف، أعلن “الحرس الثوري الإيراني” مقتل اثنين من قيادييه مع خمسة من رفاقهما خلال استهداف القنصلية بدمشق، ونعى الجنرالين المستشارين محمد رضا زاهدي ومحمد هادي حاجي رحيمي، وخمسة مستشارين وضباط هم: حسين أمير الله، سيد مهدي جلالتي، محسن صداقت، علي آغا بابائي، سيد علي صالحي روزبهاني.

ونقلت وكالة “الطلبة الإيرانية” (إيسنا)، في 2 من نيسان، عن السفير الإيراني بدمشق، حسين أكبري، أن عدد القتلى ارتفع إلى 13 شخصًا منهم سبعة عسكريين إيرانيين، وستة مدنيين سوريين.

التفاعل مع الحدث بدأ من دمشق نفسها، حين زار وزير الخارجية، فيصل المقداد، موقع الحادث، الذي يقع في أحد الشوارع الحساسة بالعاصمة، ملاصقًا لمبنى السفارة الإيرانية، وأدلى بتصريحات تضامن مع طهران وهجوم على إسرائيل، فقال إن إسرائيل لا يمكنها التأثير على العلاقة بين سوريا وإيران.

وأضاف المقداد من مبنى السفارة الإيرانية، أن “المجازر التي ارتكبها الإسرائيليون في قطاع غزة والضفة الغربية تدل على أنهم ليسوا ببشر، ويحاربون الإنسان أينما كان، ولا يوجد أي حس بشري لدى القيادة الصهيونية”، وفق قوله، كما أجرى اتصالًا هاتفيًا بنظيره الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، وقدّم العزاء وشدد على وحدة الموقف.

وفي 2 من نيسان، أجرى رئيس النظام السوري، بشار الأسد، اتصالًا بالرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، للتعزية بـ”المستشارين العسكريين الإيرانيين” الذين قتلوا بما وصفه بـ”الهجوم الوحشي القذر” على القنصلية الإيرانية.

التأثير السياسي والدبلوماسي للاستهداف الإسرائيلي، الذي دفع ببعض الأطراف للإدانة، كحركة “حماس”، ودولة قطر، والأردن، وباكستان، والإمارات، وسلطنة عمان، دفع غيرها للتملص، إذ نقل موقع “إكسيوس” عن متحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، أن الولايات المتحدة لا دور لها في الضربة الإسرائيلية، وأضاف نقلًا عن مسؤول أمريكي كبير لم يسمِّه، أن واشنطن أبلغت طهران بذلك.

وعيد إيران بالرد والانتقام بنفس القوة والقسوة، وتصريحات متتابعة بهذا الصدد من طهران، واستعدادات إسرائيلية وأمريكية لامتصاص أي هجوم ورد فعل إيراني على الاستهداف، وإعلانات لا تنقطع من “المقاومة الإسلامية في العراق” عن ضربات في العمق الفلسطيني الذي تحتله إسرائيل، دون تصريح إسرائيلي بخسائر أو توثيق مصور لأضرار، وصواريخ من جنوبي لبنان نحو إسرائيل ورد عليها بالمثل، كل ذلك لم يشكل أي خروقات عن المألوف منذ استهداف القنصلية قبل أيام.

وإذا كان الاستهداف الإسرائيلي لمبنى دبلوماسي إيراني بدمشق خروجًا عن الأعراف الدولية واتفاقية “فيينا”، ويشكل خرقًا لسيادة بلدين في الوقت نفسه، فالخسائر البشرية فيه لم تكن قليلة بالنسبة لطهران، فمن القتلى محمد رضا زاهدي، أحد كبار قادة “الحرس الثوري”، والمسؤول عن “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري” في لبنان وسوريا.

خامنئي ينظر إلى توابيت قياديين وضباط إيرانيين قتلوا بغارة إسرائيلية على القنصلية الإيرانية بدمشق- 4 من نيسان 2024 (رويترز)

لماذا؟

قدّمت إسرائيل قبل يومين من استهداف القنصلية ومقتل زاهدي ورفاقه تهديدًا واضحًا على لسان وزير دفاعها، يوآف غالانت، في 29 من آذار، بتوسيع عمليات الاغتيال والاستهدافات في سوريا ولبنان، وذلك بعد ازدياد وتيرة الضربات في سوريا.

وخلال زيارة أجراها إلى مقر “القيادة الشمالية” للجيش الإسرائيلي، قريبًا من الحدود مع لبنان، قال غالانت، “لقد وصلت اليوم إلى القيادة الشمالية، لأراقب عن كثب عملية اغتيال ناجحة أخرى لقائد في (حزب الله)، وللحصول على نظرة عامة على العمليات التي يجري تنفيذها استعدادًا للاغتيالات وغيرها من الأعمال في سوريا ولبنان وأماكن أخرى”.

الباحث في الشأن الإيراني مصطفى النعيمي، أوضح لعنب بلدي أن التصعيد الحالي مبني على استهداف فائض القوة الإيرانية القادمة من طهران نحو سوريا، كون إيران تنتهك قواعد الاشتباك وترسل الأسلحة والتكنولوجيا غير السلمية إلى سوريا، وهو ما نتج عنه استهداف مركز للبحوث العلمية بريف دمشق مؤخرًا.

ويشكل هذا القصف رسالة إسرائيلية إلى إيران، مفادها أن تقديم الدعم اللوجستي للميليشيات الإيرانية عبر النظام يعني التعامل معها كأهداف حية، وتحمل النظام مسؤولية التموضع الإيراني في تلك المواقع.

وترجع كثافة التصعيد الإسرائيلي في هذه الفترة إلى تقدير المخاطر التي يمكن أن تنجم لقاء التساهل في التموضع الإيراني بسوريا، أو امتلاك الإيرانيين منظومات دفاع جوي منفصلة عن النظام السوري والروس، أو المضي قدمًا في مشاريع وبرامج تطوير المسيرات على الأراضي السورية، وهو ما يفسر تنوع الاستهدافات، وفق الباحث.

زاهدي.. حلقة الوصل

لم يصنّف محمد رضا زاهدي على أنه من كبار القادة الإيرانيين من قبل الجهات المعارضة للوجود الإيراني في سوريا وحسب، إنما صنفته إيران كذلك أيضًا، إذ قالت وكالة “مهر” الإيرانية، إن زاهدي يعتبر “أحد كبار قادة الحرس الثوري الإيراني”.

وبحسب الوكالة الإيرانية، فإن القيادي اسمه الكامل سردار محمد رضا زاهدي، من مواليد مدينة أصفهان وسط إيران.

انضم زاهدي إلى “الحرس الثوري” مبكرًا وكان أحد القادة المتوسطين فيه، وتولى قيادة لواء “قمر بني هاشم 44” سابقًا، كما كان قائد “الفرقة 14 للإمام الحسين”، وشغل منصب قائد القوات البرية في “الحرس الثوري” بين عامي 2004 و2007.

وانتهت مراحل تدرج زاهدي بالمناصب العسكرية والأمنية بالقطاع الخارجي من “الحرس الثوري” المعروف باسم “فيلق القدس”، إذ صار مسؤولًا في “الفيلق” عن ملفي سوريا ولبنان.

وبحسب وكالة “تسنيم” الإيرانية، فإن زاهدي من بين أربعة قادة إيرانيين هددتهم إسرائيل بالاغتيال، هم مسؤول فرع “فيلق القدس” في العراق، علي رضا نوبخت، ونظيره في اليمن، عبد الرضا يوسف شهلاي، وفي فلسطين (الضفة وغزة) عقد سعيد ايزيدي، وزاهدي في سوريا ولبنان.

صحيفة “معاريف” الإسرائيلية قالت من جانبها، إن محمد زاهدي كان “العقل المدبر لإيران في لبنان” وعلى تواصل يومي مع زعيم “حزب الله” اللبناني، حسن نصر الله، وهو ما أكدته صور تجمعه مع نصر الله، نشرها موقع “تبناك” الإيراني.

ونقلت الصحيفة الإسرائيلية عن مدير معهد “دراسات الأمن القومي” (INSS) في إسرائيل، تامر هيمان، أنه إذا قتل القائد الإيراني المسؤول عن سوريا ولبنان فعلًا، فإن هذه واحدة من أهم عمليات الاغتيال التي نفذتها إسرائيل، وربما أهم من اغتيال سليماني قائد “فيلق القدس”.

وأضاف أن زاهدي هو القائد الأعلى للجبهة الشمالية في “فيلق القدس”، والمسؤول عن نشاط “حزب الله” والميليشيات الشيعية في سوريا، ويعتبر من الناحية العملية الرجل الأقدم على هذه الجبهة.

صحيفة “الجارديان” البريطانية قالت من جانبها، إن زاهدي كان “شخصية حاسمة” في علاقة طهران مع “حزب الله” ورئيس النظام السوري، بشار الأسد.

وبالخسارة التي تكبدها “فيلق القدس”، صار يواجه تحديات الآن في استمرار عملياته، إذ قال الأستاذ المساعد للعلوم السياسية في جامعة “تينيسي” سعيد جولكار للصحيفة، إن مقتل زاهدي كان “أهم خسارة للحرس الثوري الإيراني منذ اغتيال قاسم سليماني”.

وأضاف، “لا يزال الحرس الثوري الإيراني يعتمد على رجل واحد وشبكاته”.

صورة قاسم سليماني على واجهة مبنى السفارة الإيرانية بدمشق، الملاصقة للقنصلية الإيرانية التي دمرتها غارة إسرائيلية- 1 من نيسان 2024 (رويترز)

ما طبيعة الرد الإيراني

يرى الباحث بالشأن الإيراني مصطفى النعيمي، أن هذه الضربات ستؤثر على مستقبل التنسيق الإيراني مع النظام السوري، بما يخص تموضع القوات وإدارة العمليات، والنظام السوري لن يرد بما يتعدى الإدانة والاحتفاظ بحق الرد، بينما يمكن أن يبنى الرد الإيراني على أحد ثلاثة احتمالات، أولها مسيرات لا تحدث تأثيرًا عسكريًا ملموسًا، لكنها تندرج ضمن إطار رسائل الردع السياسية لإشغال إسرائيل.

ويمكن أن تلجأ إيران إلى ضرب خواصر رخوة تتمثل بحلفاء الولايات المتحدة والقواعد الأمريكية في دير الزور والتنف، عبر مسيرات الغرض من استعمالها الإرباك أكثر من إلحاق الضرر.

والاحتمال الثالث، وهو الأخطر، يتجلى باستهداف القنصليات والممثليات الدبلوماسية الإسرائيلية المنتشرة حول العالم، مع ترجيح الباحث أن تركز إيران ضرباتها على محيط القنصلية الأمريكية في أربيل، إلى جانب مكاتب تقول إنها تضم عناصر لـ”الموساد”.

من جهته، يرى الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش، أن ما بعد 7 من تشرين الأول 2023 (هجوم “حماس” وبدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة)، أصبحت هناك بيئة جديدة أكثر تصعيدًا بالحرب الإسرائيلية- الإيرانية في سوريا.

وقال الباحث لعنب بلدي، إن إسرائيل ترسل عبر هذه الاستهدافات رسالة لطهران، مفادها أنه لا خطوط حمراء لاستهداف الوجود الإيراني في سوريا، وهو ما تجلى فعلًا بضربة غير متوقعة طالت القنصلية بدمشق.

وتتجه إسرائيل لوضع أو فرض قواعد اشتباك جديدة مع إيران في سوريا، و”حزب الله” على الحدود اللبنانية الجنوبية، الشمالية الفلسطينية، إذ ترى في البيئة الإقليمية الحالية فرصة لفرض قواعد اشتباك جديدة تعزز موقفها أمام إيران.

وحول مستقبل هذا التصعيد واحتمالية توسعه بشكل أكبر مما هو عليه حاليًا، بيّن الباحث محمود علوش، أن مسار الاستهدافات الإسرائيلية تصاعدي، ويرتبط بالحرب في غزة، إذ يشكل استمرار الحرب وعدم التوصل لتهدئة قريبة حالة مواتية لتصعيد أكبر ضد إيران في سوريا.

كما لفت الباحث إلى تزايد مخاطر انفجار الصراع بين إسرائيل وإيران والتحول باتجاه المواجهة المباشرة، بين فعل ورد فعل، ما يخلق وضعًا لا يساعد في تطويق الصراع، فالإسرائيليون واضحون في تصريحاتهم ورسائلهم، وسيمضون قدمًا فيما يتعلق بتقويض قدرة إيران على استخدام الأراضي السورية لتشكيل تهديد لما تسميه إسرائيل “أمنها القومي”.

ثلاثة سيناريوهات

وضع تقرير لمركز “المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة” أعدّه الباحث في الشأن الإيراني شريف هريدي، ثلاثة سيناريوهات قد تترتب على استهداف مقر القنصلية الإيرانية في دمشق، هي:

الرد المباشر: لأنه استهداف مباشر للقنصلية ومنزل السفير الإيراني في سوريا، وهذا الحادث يضع طهران في موقف محرج ويمثل انتهاكًا لسيادتها، وليس بالضرورة أن يكون الرد داخل إسرائيل، فهو احتمال غير مرجح، لأن إيران حريصة على عدم الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع الجانب الإسرائيلي، خاصة أن الأخير يثبت أنه لا يضع في الحسبان خطوطًا حمراء، وعلى استعداد للانخراط في أي مواجهة، وعلى أي جبهة من الجبهات والرد خارج حدوده.
وبحسب التقرير، فإن الرد الإيراني المباشر قد يكون من خلال استهداف سفن تابعة لإسرائيل في الخليج أو البحر الأحمر، أو استهداف مقار دبلوماسية أو مراكز دينية كما حدث من قبل في بعض دول أمريكا اللاتينية، أو استهداف مقار تتبع لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وفق المنظور الإيراني، كما فعلت من قبل باستهداف مقار في كردستان العراق.

تأجيل الرد: لأن التهديدات الإيرانية يدور أغلبها في التهديد بـ”الرد في الوقت والزمان المناسبين”، وهي صيغة قد تحمل في مضمونها تعليق الرد في الوقت الحالي، وإمكانية الرد مستقبلًا. وبالنظر إلى حوادث سابقة، فإن طهران ترجح هذا السيناريو، إلا أن تكلفته سواء الداخلية (سخط محلي) أو الخارجية ربما تكون مرتفعة، وقد يصوّر إيران على أنها “دولة ضعيفة” لا تستطيع حماية مصالحها.

التصعيد من خلال الوكلاء: وربما يكون هذا هو السيناريو المفضل لدى إيران، على الأقل في الوقت الحالي، فقد تدفع “حزب الله” اللبناني إلى إطلاق مزيد من الصواريخ على أهداف إسرائيلية، وتشجع “الحوثيين” على المضي في استهداف السفن الإسرائيلية والأمريكية، إلى جانب حث وكلائها في العراق وسوريا على مهاجمة الأهداف الإسرائيلية والأمريكية.

روسيا تعيد التموضع

عكّرت رياح الغزو الروسي لأوكرانيا صفو العلاقات “الطيبة” بين روسيا وإسرائيل بعد اتخاذ الأخيرة موقفًا منحازًا إلى أوكرانيا ومن خلفها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، على حساب موسكو، وصولًا إلى خلافات واضحة تبدت أكثر بعد شن إسرائيل حربًا على قطاع غزة في 7 من تشرين الأول 2023، إثر هجوم شنته فصائل فلسطينية أبرزها “كتائب القسام” على المستوطنات الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة.

منعطف جديد في العلاقات، بدت ملامحه أكثر على الأرض السورية مؤخرًا، بعد أن كثّفت موسكو تصريحاتها التي تندد باستهداف إسرائيل لمناطق متفرقة في سوريا، على خلاف المسار الذي سلكته خلال السنوات الماضية، إذ كانت تعليقاتها متباعدة زمنيًا ومكررة إلى حد بعيد.

ويعد تعليق موسكو على الضربات الإسرائيلية عدة مرات في وقت قصير أمرًا لافتًا، خاصة أنها التزمت الصمت أمام عشرات الضربات السابقة، بينما لم تتوقف هجمات إسرائيل عن مواقع متفرقة ونقاط عسكرية في العاصمة دمشق وريفها وحلب وأرياف حماة وطرطوس وحمص.

ومنذ نحو أربع سنوات، تكاد التصريحات الروسية المتعلقة بإدانة الاستهداف الإسرائيلي لمواقع في سوريا تعد على الأصابع، لأن التفاهمات التي جمعت بين الطرفين لم تكن حبيسة الغرف المغلقة، وخرجت على لسان  رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، نفتالي بينيت، عقب لقائه بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في 24 من تشرين الأول 2021، وقال حينها إن روسيا أبدت اهتمامًا واضحًا باحتياجات إسرائيل الأمنية فيما يتعلق بالوضع في سوريا.

وفي 2 من تشرين الثاني 2021، تحدثت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية عن توافق روسي- إسرائيلي على إخراج إيران من المشهد السوري، جرى خلال لقاء بينيت وبوتين، وذكرت أن إسرائيل تعمل على “المهمة الصعبة المتمثلة بتدمير أحلام إيران بالهيمنة الإقليمية”، عبر شنّ مئات الضربات الجوية ضد مواقعها في سوريا.

صور القياديين الإيرانيين الذين قتلوا في استهداف إسرائيلي طال القنصلية الإيرانية بدمشق- 4 من نيسان 2024 (رويترز)

خطاب روسي شديد اللهجة

في 21 من آذار الماضي، قال مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة ،فاسيلي نيبينزيا، إن الغارات الإسرائيلية على سوريا “تهدد بمواجهة إقليمية شاملة”، مضيفًا أن موسكو تشعر بالقلق بشكل خاص إزاء تكثيف الهجمات الإسرائيلية، وأن مثل هذه الأعمال “غير المسؤولة تحمل خطر جر سوريا وعدد من جيرانها إلى مواجهة إقليمية واسعة النطاق”.

بعد ثمانية أيام من حديث نيبينزيا، وعقب ضربات إسرائيلية استهدفت أحد المواقع بريف العاصمة دمشق، ومناطق متفرقة في مدينة حلب، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، إن الضربات الإسرائيلية على سوريا “غير مقبولة على الإطلاق”، وإن موسكو تدين هذه التصرفات وتعتبرها استفزازية ومحفوفة بالمخاطر، وتحمل عواقب خطيرة للغاية في سياق تدهور وضع المنطقة.

وعقب استهداف القنصلية الإيرانية في 1 من نيسان الحالي، قال المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، إن الغارة تعد انتهاكًا لجميع أسس القانون الدولي وعملًا من أعمال العدوان، بينما وصف مدير جهاز المخابرات الخارجية الروسي، سيرجي ناريشكين، الهجوم بأنه “إرهابي وخطوة إجرامية قبيحة”.

وقال سفير روسيا لدى طهران، أليكسي ديدوف، إن للضربة الإسرائيلية على دمشق عواقب سلبية لا يمكن التنبؤ بها، مشيرًا إلى أن موسكو ستراقب الوضع عن كثب، كما دعت روسيا لعقد جلسة طارئة في مجلس الأمن إثر الهجوم على القنصلية الإيرانية.

وخلال جلسة لمجلس الأمن، في 2 من نيسان، قال نيبينزيا، إن روسيا تتوقع أن يقدم أعضاء مجلس الأمن الدولي تقييمًا عادلًا لهجوم إسرائيل على القنصلية الإيرانية في دمشق، وطالب بتضامن أعضاء المجلس، وتنديدهم بالهجمات على المؤسسات الدبلوماسية.

وأعلن النائب الأول لمندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، ديمتري بوليانسكي، أن موسكو وزعت على مجلس الأمن مسودة بيان صحفي يستخدم تقليديًا في مثل هذه الحالات ويدين استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق.

وأضاف أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة رفضتا مجرد مناقشة الأمر، لعدم وجود توافق في الآراء خلال الاجتماع، كما أنهما إلى جانب الوفد الفرنسي لم يدينوا استهداف القنصلية، ما يعني ضمنًا أن إيران هي المسؤولة وحدها.

من جانبها، رفضت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا البيان الروسي الذي يدين الهجوم على القنصلية، وتُتهم إيران إسرائيل بتنفيذه.

ونقلت وكالة “رويترز” عن دبلوماسيين لم تسمهم أن الولايات المتحدة بدعم من فرنسا وبريطانيا، أبلغت زملاءها في مجلس الأمن أن حقائق ما حدث في 1 من نيسان في دمشق لا تزال غير واضحة بالكامل.

مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز “الدراسات العربية الأوراسية”، الباحث ديمتري بريجع، يرى أن الهدف من التصريحات الروسية هو التأكيد أن الأعمال العسكرية الإسرائيلية تشكل تهديدًا للاستقرار الإقليمي، وتزيد من توتر الوضع في سوريا.

ويعتقد الباحث بريجع، وفق حديثه إلى عنب بلدي، أن هناك إمكانية أن يحمل توقيت التعليق دلالات متعلقة بأربعة احتمالات، الأول تفاهمات محتملة مستقبلية بين روسيا وإسرائيل فيما يتعلق بالوضع في سوريا، والثاني إشارة إلى ضرورة التصعيد الدبلوماسي بدلًا من التصعيد العسكري.

والاحتمال الثالث، وفق بريجع، هو محاولة روسيا لتخفيف التوترات وإيجاد حلول سلمية للنزاعات القائمة في سوريا، والرابع رغبة في الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين رغم الاختلافات في النهج تجاه الأزمة السورية.

الباحث في مركز “جسور للدراسات”، عبد الوهاب عاصي، يرى أن روسيا تريد من خلال الانتقادات المستمرة أن تؤدي دورًا استراتيجيًا في الوساطة بين إيران وإسرائيل، وهي تُقدّم نفسها كطرف ضامن للأمن الإسرائيلي والإقليمي، في استكمال لمساعيها التي بدأتها عام 2018 وتعثرت بها، حيث استمرت الخلافات مع الولايات المتحدة، وبدا أنها غير قادرة أو راغبة على ضبط أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة الجنوبية.

وقال عاصي لعنب بلدي، إن اقتصار موقف روسيا بشأن الضربات الإسرائيلية على الانتقادات دون وصوله إلى درجة تعليق التعاون والتنسيق المشترك مع إسرائيل يُشير إلى استمرار رغبتها في تعرض المواقع الإيرانية للاستهداف، بما يحقق وجودًا إيرانيًا ضعيفًا، لكن لا يؤدي إلى إنهائه، فموسكو لا تزال بحاجة للدور الإيراني في سوريا، وهي بحاجة إلى إضعافه وتتجنب القيام بذلك بنفسها.

ولفت عاصي إلى أن دور روسيا بعد حرب غزة تنامى على نحو ملحوظ في إرساء الاستقرار على الحدود بين إسرائيل وسوريا، حيث قامت بتثبيت 11 نقطة مراقبة على طول الخط الفاصل مع هضبة الجولان، وسيّرت عدة دوريات في المنطقة، بدعوى ضمان خفض التوتر في المنطقة بين الميليشيات الإيرانية وإسرائيل.

وبحسب مركز “الإمارات للسياسات“، فإن موسكو تستغل الحرب الإسرائيلية على غزة لتسليط الضوء على قصور السياسات الأمريكية، وجني مكاسب في الجبهة الأوكرانية التي أصبحت شبه منسية، وتسعى في الوقت نفسه لتجديد نفوذها من خلال البوابة السورية، وذلك عبر زيادة نشاطها الدبلوماسي الغائب منذ حرب أوكرانيا، وعبر العمل على منع توسع الحرب الإسرائيلية إلى حرب إقليمية.

الروس إلى الجنوب

مع بداية الحرب الروسية- الأوكرانية في شباط 2022، تراجع الوجود الروسي نسبيًا في الجنوب السوري، بعد أن أعادت موسكو تخصيص مواردها وتركيز طاقاتها، وفتح الانسحاب الباب أمام ميليشيات إيرانية تغلغلت في المنطقة، ما تركها عرضة لاستهدافات متكررة من قبل إسرائيل التي قصفت المنطقة بشكل متكرر، واستهدفت أفرادًا في هذه الميليشيات.

ومنذ بدء الحرب الإسرائيلية المتواصلة على غزة منذ نحو نصف عام، عززت روسيا وجودها على طول مرتفعات الجولان، من خلال إنشاء عدد من مراكز المراقبة، كما أعادت تسيير دورياتها العسكرية في الجنوب مطلع تشرين الثاني 2023، بعد غياب استمر لأكثر من عام، حيث تجولت دورية عسكرية روسية جنوبي القنيطرة بين بلدة المعلقة وغدير البستان بالقرب من سرية “الصفرة” التابعة لـ”اللواء 90″ لدى النظام جنوبي المحافظة.

أحد تحركات موسكو في جبهة الجنوب كان في 1 من نيسان الحالي، حين أنشأت روسيا نقطة عسكرية بالقرب من المنطقة الفاصلة بين القوات الإسرائيلية والسورية في مرتفعات الجولان، وهي النقطة العسكرية الروسية الثالثة من نوعها منذ مطلع العام.

وقال نائب رئيس “المركز الروسي للمصالحة”، يوري بوبوف، تعقيبًا على إنشاء النقطة، إنها جاءت في إطار الجهود المبذولة لمراقبة الوضع على طول “خط برافو” في المنطقة الفاصلة، مضيفًا أن العمل جارٍ لمراقبة “الالتزام بوقف إطلاق النار بين الطرفين”.

مركز “إنتل تايمز” البحثي الإسرائيلي، قال إن أعين وزارة الدفاع الروسية على إسرائيل، وإنها توثق أنشطة الشرطة الروسية في هضبة الجولان ليس لمراقبة الاستفزازات العسكرية بل لجمع معلومات استخباراتية وتكنولوجية وعسكرية عن قدرات الجيش الإسرائيلي، وعن أداء “حزب الله” اللبناني.

ولا يعتقد الباحث بريجع أن تتجاوز وظيفة النقاط العسكرية الروسية جنوبي سوريا مهمة المراقبة، لأنه هناك تفاهمات عدم التصعيد بين روسيا وإسرائيل، تعود جذورها في هذا الشأن إلى عام 2018، حين جرت محادثات بين رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وفلاديمير بوتين.

وفي أيلول 2018، أصدر مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي ​​تعليماته للجيش بمواصلة اتخاذ إجراءات ضد محاولات إيران لإقامة وجود عسكري في سوريا مع مواصلة التنسيق الأمني ​​مع روسيا.

واعتبر تحليل لمركز “مالكوم كيركارنيغي” للشرق الأوسط، أن الجنوب السوري بؤرة صراع على طريق الاشتعال، وأن تعزيز الحضور الروسي جنوبي سوريا من شأنه أن يزيد الضغط على إيران، أو يساعد على تخفيف وطأة المواجهة الإيرانية- الإسرائيلية جنوبي سوريا، حتى لو لم تتمكن موسكو من استبدال النفوذ الإيراني أو إلغائه.

وبحسب “كارنيغي”، فإن روسيا فشلت ببناء شبكة قوية من الوكلاء المحليين مثلما فعلت إيران، ولذلك، في حال استمرت إيران في تعزيز موقعها قرب الجولان المحتل، أو في نشر المزيد من السلاح هناك، فالصراع مع إسرائيل قد يصبح واقعًا لا مفر منه.

ورغم أن الجنوب السوري لا يزال يشهد هدوءًا نسبيًا في ضوء التركيز الإسرائيلي على غزة وجنوبي لبنان، فإن التحرك نحو تحقيق تفاهم مبدئي في جنوبي سوريا أمر ضروري وفق مركز “الإمارات للسياسات“، لأن التطورات الميدانية يمكن أن تتسارع وتخرج عن السيطرة.

وفي حال كان هناك تصعيد قبل التوصل إلى تفاهم، فقد تضطر روسيا إلى اتخاذ موقف مؤيد لإيران في سوريا من أجل عدم تعريض علاقتها بإيران للخطر من أجل تفاهم غير موجود، ولكن إذا كان هناك اتفاق مبدئي، فستكون روسيا أكثر اهتمامًا باحتواء إيران بدلًا من دعمها.

مقالات متعلقة

تحقيقات

المزيد من تحقيقات