صحافة “البعث”.. التاريخ لا يشبه نفسه
علي عيد
في 7 من نيسان عام 1947، أُعلن عن تأسيس حزب “البعث” على يد ثلاثة سوريين هم ميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، وزكي الأرسوزي، لكن أول صحيفة حملت اسم ذلك الحزب ظهرت في 3 من تموز 1946، قبل تسعة أشهر من إعلان تأسيس “البعث” رسميًا في سوريا، وصدرت يوميًا بأربع صفحات من القطع الكبير، وأُغلقت للمرة الأولى في أثناء حرب فلسطين بأمر من رئيس الحكومة جميل مردم بك، والثانية بعهد حسني الزعيم في نيسان 1949، بعد حلّ حزب “البعث” واعتقال أمينه العام، بحسب “الموسوعة الدمشقية”.
عادت “البعث” إلى الصدور سنة 1950 بعد الانقلاب على حسني الزعيم ومقتله، وتحولت إلى أسبوعية لغاية إغلاقها مجددًا وللمرة الثالثة في عهد العقيد أديب الشيشكلي ونفي قادة الحزب إلى لبنان.
ظهرت “البعث” بنسختها الفلسطينية عام 1948، وأسسها عبد الله الريماوي وعبد الله نعواس، وتنقلت بين رام الله ثم القدس، واستمرت لبضع سنوات، إذ يظهر أرشيف “المكتبة الوطنية الإسرائيلية” نسخة نُشرت في 20 من نيسان عام 1951، وكتبت تحت شعار الصحيفة عبارة “جريدة يومية سياسية توجيهية قومية”، وافتتحت صفحتها الأولى بقصيدة للشاعر اللبناني إلياس فرحات، وكان مقيمًا في البرازيل، تقرّع زعماء العرب وهوانهم تجاه قضايا بلادهم واحتلال فلسطين، وعبرت القصيدة عن نهج “البعث” وقتها، إذ يقول آخر بيت فيها:
فستأكلون أكفكم ندمًا
وستشربون دموعكم حزنًا.
كان الشعار الذي تبنته “البعث” عند تأسيسها هو “وطن واحد وأمة واحدة”، ثم تم تغييره إلى شعار حزب “البعث”: “أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة”.
عادت “البعث” للصدور في سوريا بعد الإطاحة بحكم الشيشكلي ونفيه عام 1954، وعرفت بنهجها اليساري في الخمسينيات، لدفاعها عن الرئيس المصري الأسبق، جمال عبد الناصر، ومهاجمة الأنظمة العربية التي وصفتها بالرجعية، في إشارة إلى الأردن والعراق ولبنان.
توقفت الصحيفة مجددًا بعد حلّ حزب “البعث” طوعيًا في مطلع عهد الوحدة مع مصر سنة 1958، وعادت إلى الصدور بعد انقلاب الانفصال في 28 من أيلول 1961.
لعبت الصحيفة قبل عام 1963 دورًا مهمًا في نشر الوعي عبر مقالات لكتاب من مختلف التوجهات، وافتتحت مكاتب لها في عدد من الدول العربية، وعُرف من كتابها في سوريا ميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، وأكرم الحوراني، وخليل الكلاس، وسليمان العيسى، وجلال السيّد، ورياض المالكي، وبديع الكسم، وسامي الدروبي، وحافظ الجمالي، وعبد الله عبد الدائم، وشاكر الفحّام.
بعد تمكنه من السلطة أنهى “البعث” صحافة عهد الاستقلال (1946-1963)، إذ كانت تصدر في البلاد صحف ومجلات تمثل طيفًا من التيارات السياسية والفكرية، منها اليسار مثل “النضال” و”صوت الشعب”، والصحافة ذات التوجه القومي مثل “الأيام” و”الندوة” و”الاستقلال”، والصحف ذات التوجه الإسلامي مثل “المسلمون” و”النور”، والصحافة المستقلة مثل “الشرق” و”المفكرة”.
بسط “البعث” نفوذه، وأنشأ صحيفة “الثورة” عام 1963 مقابل منع بقية الصحف، وبدأت سياسة كمّ الأفواه وتقييد الحريات الصحفية والعامة، وطغى خطاب شعبوي يظهر مدى طغيان فكر “البعث” في الصحافة، إذ وصل الأمر إلى حد كتابة وزير الإعلام، محمد الزعبي، وعضو القيادة القطرية للحزب، مقالًا في صحيفة “الثورة”، بعنوان “أقسم باليسار”، وهو ما وصفه نائب الرئيس السابق، فاروق الشرع، في مذكراته “الرواية المفقودة” بطغيان “اليسار الطفولي” على ما عداه من الأفكار في أوساط القيادة، مقترحًا، الزعبي، أن المرء من الآن فصاعدًا لا يجوز أن يستمر في أداء قسم اليمين، ولا يجب أن يسير إلا على الجانب الأيسر من الطريق.
وبعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة، انفرد “البعث” بحكم الدولة في جميع مفاصلها ومؤسساتها، وتمثل هذا الانفراد في الدستور الذي صدر عام 1973، بعد ثلاثة دساتير مؤقتة عُمل بها منذ انقلاب “البعث” العسكري على الرئيس ناظم القدسي عام 1963، ونص الدستور الصادر بعد عامين من تولي الأسد سدة الرئاسة في مادته “الثامنة” على أن حزب “البعث” هو “القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب، ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية”.
ظهرت في تلك الأثناء، عام 1974، صحيفة “تشرين”، وكانت “ثالثة الأثافي” في ترسيخ صحافة السلطة وروايتها.
بعد تولي بشار الأسد مهام الرئاسة في عملية تغيير للدستور بطريقة وُصفت بأنها “غير شرعية” و”بلا أسباب موجبة”، لم تكن السنوات التي تلت أفضل حالًا لقطاع الصحافة، فما تم ترخيصه من صحف ومجلات ومحطات إذاعة وتلفزة، جميعها انخرطت في سياسة السلطة والترويج لها، لأنها كانت مملوكة من رجال أعمال يشكلون واجهة اقتصادية للنظام، ومن تلك الوسائل تلفزيون “الدنيا” وصحيفة “الوطن” ومجلة “أبيض أسود”، وغيرها من وسائل الإعلام التي جرى استخدامها لمصلحة القيادة والحزب.
حتى عام 2011، تبدأ رواية أخرى للصحافة في سوريا، وكأنها تعود بالتاريخ إلى دورة الاستقلال وما قبلها من نضالات الصحفيين السوريين الأفذاذ وصحافتهم من أجل الاستقلال والتنوير، لكن التاريخ لا يشبه نفسه هذه المرة، فالمستعمران العثماني والفرنسي لم يمنعا الصحافة الحرة من الصدور بشكل مطلق، على الرغم من الملاحقة والتضييق والنفي، أما هذه المرة فقد أنهت السلطة أي وجود لصحافة مستقلة، ولم تتحمل الكلمة، لكن التاريخ نفسه أتاح ظهور صحافة المنفى، ولا يبدو أن سلطة قادرة على إسكاتها بالمطلق.. وللحديث بقية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :