خطيب بدلة
ينظر العرب والمسلمون إلى الإنسان العربي المسلم (الفرد) باستعلاء، ويعتبرونه كائنًا عديم القيمة والملامح. وهم لا يخجلون من ذلك، ولا يقدمون لمواطنهم أي نوع من الاعتذار، بل إنهم يفخرون ويتباهون بكثرتهم، وجماعاتهم، وبأنهم جماهير غفيرة، تعد بالملايين، ويرون الفرد نكرة، تافهًا، حقيرًا، يمكن الاستغناء عنه، أو قتله، لمصلحة الجماعة، وقد اختصر المفكر التنويري الكبير طه حسين هذا التمايز بين الغرب والشرق بقوله: في الغرب لا يوجد شيء مقدس، سوى الإنسان، وعندنا كل شيء مقدس، عدا الإنسان!
ولأجل ترسيخ هذه العقلية الجماعية المتخلفة، هب مبدعون عرب كبار، عبر العصور، لمديح الأكثرية الجماهيرية، واحتقار المواطن، الفرد، فكتب إسماعيل الحبروك، ولحن كمال الطويل، وغنى عبد الحليم حافظ “يا جمال يا حبيب الملايين”. إنها أغنية تنطوي على مثلبتين كبيرتين، الأولى، أنها تسيء لكل واحد من أفراد الجماهير، إذ تتجاهل اسمه، والصفات الشخصية التي تميزه عن غيره، والثانية، أنها تتحدث باسمهم، و”تتهمهم” بأنهم يحبون جمال عبد الناصر، كلهم، فهل من المعقول ألا يكون بينهم أشخاص لا يبالون بهذا الرجل، وآخرون يكرهونه ويناصبونه العداء؟
في مقابل هذه الكتلة الصماء، ذات الأسماء والصفات المجهولة، نجد، في الأغنية نفسها، شخصية الحاكم الكبير، البطل، المتورم، وتنسب إليه أعمالًا خارقة، لا يستطيع فعلها أحد من البشر، كالتأثير بالجبال والوديان، مثلًا: صَحّيتْ الشرق بحالُه، وديانُه وَيّا جبالُه!
وبغض النظر عن كل ما ذكرناه، كانت لجمال عبد الناصر شعبية جماهيرية حقيقية، ولكنها، مع الأسف، تقوم على العواطف، وليس على العقل، بمعنى أن هناك أناسًا كثيرين، يرضون بأن يكونوا جماهير بلا ملامح، أو شعبًا مضللًا ينطبق عليه وصف أحمد شوقي في مسرحية كليوبترا: انظر الشعبَ دُيُونُ، كيف يوحون إليه، ملأ الجو هتافًا، بحياة قاتليه.
والمصيبة أن عبد الناصر أصاب حكامًا دكتاتوريين عربًا، جاؤوا بعده، بعدوى الجماهيرية، فقلدوا حقبته في كل شيء، حتى إن الليبيين أنتجوا، أيام معمر القذافي أغنية تقول كلماتها: وين الملايين؟ الشعب العربي وين؟ وهذه الأغنية، مع أنها ليبية المنشأ، أصبحت تبث في تلفزيونات الدول المحكومة بالدكتاتوريات، كسوريا، والعراق، وأدخلوها في خضم الصراع العربي- الإسرائيلي، فأصبحنا، كلما دق الكوز بالجرة، نرى مسؤولًا عربيًا أو فلسطينيًا يصيح: أين أنتم يا عرب؟ أين أموالكم، أين جيوشكم، أين ملايينكم؟ ولا نعدم شاعرًا ديماغوجيًا سكران، كمظفر النواب، يصرخ بالعرب: القدس عروس عروبتكم، فكيف أدخلتم زناة الليل إلى حجرتها؟ ويظل في اللوم، والشتم، حتى يصل إلى القول: أبناء القحبة لا أستثني منكم أحدًا.
إذن، يمكن اعتبار المصريين، أيام عبد الناصر، رواد هذه الديماغوجية، فهم الذين اخترعوا شعار: كل شيء للمعركة، وجاوبهم البعثيون، بشعار أكثر جرأة، وسفاهة، فقالوا: لا شيء يعلو على صوت المعركة، ولخص شاعر فلسطيني مقيم في دمشق، هذه الهمروجة، إذ كتب: كل شيء للوطن، كل شيء للقضية، ليس للروح ثمن، فهي للأرض الأبية. فتخيلوا، يا سادة، مئات الألوف من الموطنين الأنفار، المجهولين، يموتون في سبيل الوطن، وقلة قليلة من أبناء الوطن يتاجرون بأبنائه!