لم تسلم بعض الأعمال الدرامية خلال الموسم الحالي من الإسهام في ترسيخ صور نمطية كان تجنبها ممكنًا على الأقل في سبيل عدم إغضاب شريحة من الجمهور ترى في تقديم شخصية من منطقة ما أو من مكون اجتماعي معين انتقاصًا من مجتمع بأسره.
يقدّم مسلسل “كسر عضم” في جزئه الثاني، الذي يحمل اسمًا فرعيًا “السراديب”، شابتين تتحدثان بلهجة الساحل السوري، إحداهما دلع، فتاة لعوب، تحصيلها المالي قائم على إجراء بث يومي عبر تطبيقات إلكترونية يغيب عنها المحتوى، وتستعرض عبر كاميرا التطبيق ساقيها مقابل الدعم المالي من المشاهدين.
والشابة الثانية قادمة من الريف، وهي صديقة دلع، تتحدث أيضًا لهجة الساحل التي لا تظهر لدى دلع إلا في حديثها مع صديقتها، وتبدو هذه الشابة بمظهر الإنسان غير المتنوّر، ضيّق المدارك بصورة مبالغ بها، لدرجة أنها تخطئ باسم “الديليفري”، وتسميه “ديفيليري”، إلى جانب جهلها بمعنى الكلمة، واعتقادها أنها اسم وجبة طعام، دون إشارة إلى أسباب عدم المواكبة، والإهمال الخدمي من قبل السلطة، وإبعاد الريف بالمجمل، وأرياف محافظات معينة عن حضارة نامية في المدينة، بما يخلق فجوة بين سكان المدينة والريف على المستوى الثقافي والخدمي.
هذه الفكرة تركت ردود فعل سلبية لدى بعض المشاهدين، ووصفت إحدى الصفحات الحالة بـ”الفجور” في منشور عبر “فيس بوك” حاز إعجاب نحو 34 ألف مستخدم، علّق 12 ألفًا منهم على الموضوع، بينما شارك وتبنى الفكرة أكثر من 750 آخرين.
مروة وتاج
كما تظهر في مسلسل “ولاد بديعة” مروة (أدت شخصيتها لين غرة)، وهي شابة محجبة في النهار، لكنها تعمل في ملهى ليلي أو مقصف، وترقص وتقضي وقتًا مع الزبائن داخل وخارج المقصف، قبل أن تتوب وتتفرغ لخدمة مقام لأحد الأولياء.
في شخصية مروة أيضًا لا يغيب تنميط الفتاة المحجبة وتأطيرها بصورة لا تعبر عن الواقع أو الواقع العام، في الوقت الذي غابت به فكرة التوزان عن معالجة الفكرة، فالعمل لم يقدّم شابة محجبة بصورة بهية بوضوح، مقدار وضوح الانحدار الذي بدت به مروة في البداية “قبل التوبة”، على اعتبار أن حضور المحجبات في العمل محدود أصلًا، ويقتصر تقريبًا على “زهور” (ولاء عزام)، وأمها، “أم جمعة” (نادين خوري)، وهذا كله قبل أن تعود مروة عن “توبتها”، لتخلع حجابها نهائيًا هذه المرة، وتتجه للعمل بالتمثيل.
وفي مسلسل “تاج”، وهو عمل سوري بإنتاج لبناني، من بطولة تيم حسن وبسام كوسا، وتأليف عمر أبو سعدة، وإخراج سامر برقاوي، يبدو البطل متملقًا لأحد الضباط السوريين في الجيش، في زمن الاحتلال الفرنسي، تمريرًا لمصالحه، وهي صورة تتعارض كليًا مع صورة البطل التي أداها الممثل نفسه في عمله الرمضاني السابق “الزند”، الذي بدا أكثر ندية تجاه خصومه، دون أدنى لمسة نفاق.
في العمل نفسه، يظهر شاب يتحدث بلهجة الساحل السوري، قدّم الحالة الندية تجاه “العدو الفرنسي”، بينما ظهر بسام كوسا، وهو شامي أيضًا، كـ”عميل للفرنسيين”.
هذه الفكرة أيضًا تناولتها بالنقد، ردًا على حالة الغضب التي خلقها مسلسل “كسر عضم”، صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، اعتبرت انتقاء هذه الشخصيات وحديثها بلهجات معينة حالة تكافؤ أو توازن بين الأعمال المقدمة، فما بدا إساءة في مكان، جاء إساءة مقلوبة في آخر.
الدراما و”الغرس الثقافي”
أصل كلمة دراما يوناني، مشتق من كلمة “draomai”، بمعنى العمل والتصرف، وهي نوع من الأعمال الفنية التي تصور قصة أو حياة أو حكاية أو ظاهرة مستندة إلى الواقع أو الخيال، ومن مصادره الأدب والرواية والقصة، إلى جانب إمكانية الاعتماد على التاريخ والسيرة الذاتية، واحتمالية تداخل الواقعي أو التاريخي مع الروائي، تحقيقًا لأهداف العمل، ومن النماذج التي تندرج في هذا الإطار مسلسل “تاج” الذي يستمد بعض أحداثه من مرحلة تاريخية بعينها، قبل أن يقدم الكاتب إضافات تخدم الحكاية، كون العمل لا يشكل وثيقة تاريخية أو تأريخًا أمينًا محكمًا بنظر صنّاع العمل.
ولا يقرأ المشاهدون عادة الأعمال بذات الطريقة، لكن تقديم أنماط جاهزة في الدراما يسهم بشكل غير مباشر في تعزيز فكرة ما، بشكل مقصود أو غير مقصود، تماشيًا مع نظرية “الغرس الثقافي”.
ويعتبر الباحث الأمريكي جورج جيربنر أول من وضع النظرية في أواخر ستينيات القرن الماضي، وتنص في أبسط أشكالها على أن التعرض للتلفزيون (مصدر الصورة ما قبل وسائل التواصل الاجتماعي) يزرع بمهارة مع مرور الوقت مفاهيم المشاهدين عن الواقع، ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، ذهب جزء من هذا التأثير لمصلحة هذه الوسائل، ما يعني أن التأثير على المتلقي هو على الثقافة العامة بالضرورة.
وإذا كانت بعض الرسائل المقدمة دراميًا غير بناءة، أو لا تنسجم مع توقيت العرض، أو لا ترقى لطموحات الجمهور وتطلعاته، فإن بحثًا صدر في 2022، بعنوان “صورة المرأة في الدراما السورية من التنميط إلى تكريس العنف“، أوضح أن تغير المزاج العام عربيًا ودوليًا، أسهم في تغيير الدراما السورية في موضوعاتها وأدواتها، ليأخذ إنتاج العمل بالحسبان معايير تسويقية على حساب القيمة والمعايير الفنية، فظهرت أنماط جديدة على مستوى النص، واختيار الموضوع والإخراج والإنتاج، ما أفرز آليات عمل مختلفة قد لا تستند بالضرروة إلى مرجعيات أخلاقية، ولا تضع القيم الإنساني في سلم أولوياتها.
اقرأ المزيد: مسلسل “تاج”.. سوريا الجميلة قبل “التطوير والتحديث”