لمى قنوت
حين تخبو الانتفاضات والثورات تحت وطأة القمع والعنف والعسكرة، ثمة فاعل سياسي يرفض التكيف والتعايش مع الاستبداد والطغيان والاستغلال، يشتبك فكريًا مع هياكل السلطة المتكالبة على المقهورين والمهمشين، رجالًا ونساء بتنوعاتهن، فيحضّهم على التمرد، ويدعم مقاومتهم ويعزز شرعيتها، ويفتح ثغورًا للنقاش في مساحات القمع، إنه فن الاحتجاج أو الفن الثوري. وباعتباره فنًا، فهو قادر على الوصول والانتشار وتحدي السرديات المهيمنة، وبضمنها، المساحات التي تدعمها سلطات القمع وتسمح بها لفناني السلطة ومثقفي البلاط بتدجين الشعب وإخضاعه، والتنفيس عن احتقانه واستيائه وغضبه.
تسمح مروحة الفن الاحتجاجي الثوري الواسعة، التي تشمل جميع أنواع الفنون، بالتعبير عن انتفاضات الشعوب وثوراتهم واحتجاجاتهم، ويسهم الفن في توحيد المتظاهرين والمتظاهرات، وتضخيم أصواتهم ضد الاحتلال الصهيوني والاستبداد والتمييز العنصري والنظام الأبوي والحروب والسياسات النيوليبرالية التي كرست تفشي اللامساواة واللاعدالة، وأفقرت الناس، فاستحوذ 1% من أغنياء العالم على %45.6 من الثروة العالمية، بالمقابل، فإن النصف الأفقر من البشر لا يمتلكون سوى %0.75.
المقاومة من خلال الفن
كان وما زال للأغنية المقاومة دور مؤثر في كفاح الشعوب للتحرر، وفي التركيز على حيوات المقهورين من العمال والفلاحين، وحفر بعضها عميقًا في الوعي الجمعي كأغاني سيد درويش والشيخ إمام وأشعار أحمد فؤاد نجم، وبقي أثرها مصدر إلهام عابرًا للأجيال والحدود. وقد ردد ثوار وثائرات مصر في ثورة 25 يناير 2011 أغنية “شيد قصورك”، التي تم تأليفها في السبعينيات اعتراضًا على سياسات نظام السادات، وأغنية “يا مصر قومي وشدي الحيل”.
يتحايل كتاب وشعراء أغاني المقاومة على قمع سلطة الاحتلال، ففي الثورة المصرية عام 1919، نفى الاحتلال البريطاني سعد زغلول ورفاقه، ومنع الشعب من الهتاف باسمه خلال المظاهرات، فألف الشاعر بديع خيري أغنية “يا بلح زغلولي” ولحنها سيد درويش.
في سوريا، ألهبت أغاني عبد الباسط ساروت المظاهرات التي انطلقت في عام 2011 ضد النظام الحاكم، والتي استقاها من الأغاني الشعبية وغير بعض كلماتها، مثل أغنية “جنة يا وطنا”، وشكلت كلمات أغنية الفنان سميح شقير “يا حيف” تعرية لادعاءات النظام بـ”المقاومة والممانعة” ضد الكيان الصهيوني، وهو الذي يدير له ظهره، ويقتل المتظاهرين السلميين ويعتقل الأطفال: “وظهرك للعادي وهاجم عليَّ بالسيف”.
الفن النسوي
أضاف الفكر النسوي جوانب مهمة على النقد الفني، وسعت الناقدات ومؤرخات الفن والفنانات النسويات إلى إبراز أثر النظام الأبوي على الفن الذي كرس التمييز المؤسسي على أساس الجندر في تاريخه وفي المتاحف والمعارض الفنية، والذي رسخه ذكور بيض أغنياء، وقد عبرت عن هذا التمييز مؤرخة الفن ليندا نوتشلين في مقالها المعنون بـ”لماذا لم يكن هناك فنانات عظيمات” في عام 1971، كما سعت الفنانات النسويات إلى تسليط الضوء على القضايا التي يتم تجاهلها والتعبير عن أصوات المضطهدين والمضطهدات، وتغيير الصورة التي كرسها الفنانون في تاريخ الفن عن معايير الجمال النمطية، واستخدمن مواد وخامات ووسائط متعددة، وفتحن مساحات للتفاعل مع الجمهور والاشتباك مع هياكل السلطة القمعية. لقد كرست الفنانات النسويات تلاقحًا بين الفن وقيمهن وتجاربهن، وبتعبير آخر، فإن الفن النسوي هو مكان تتقاطع فيه السياسات النسوية مع العمل الإبداعي.
وكما في الفن التشكيلي النسوي، دمجت نسويات بين ناشطيتهن والأداء الغنائي، كالنشيد الاحتجاجي الغاضب، “المغتصب هو أنتَ”، الذي ألفته المجموعة النسوية في تشيلي “LasTesis” وأدته حوالي 10000 امرأة في ساحة الملعب الوطني بسانتياغو في 20 من تشرين الثاني 2019، بعد العنف الذي ارتكبته قوات الأمن ضد مناهضي الحكومة، وتحول إلى نشيد عالمي رددته النساء في العديد من دول العام، تقول كلماته: “الخطأ ليس معي، ولا أين كنت، ولا كيف كنت أرتدي ملابسي.. المغتصب هو أنتَ. البطريركية هي القاضي الذي يعاقبنا على ولادتنا، وعقابنا هو العنف الذي لا تراه”.
في إيران، بعد أن قتل النظام الإيراني مهسا أميني على يد “شرطة الأخلاق” في 16 من أيلول 2022، وهي جهاز أمني مخصص لإخضاع أجساد النساء والتحكم بلباسهن، اجتاحت المظاهرات شوارع إيران، وقادت الإيرانيات احتجاجات واسعة ضد النظام الثيوقراطي الحاكم، واستخدمن الفن كإحدى أدوات تحدي السلطة، وتم تسمية أغنية لشرفين حاج بور باسم “نشيد الاحتجاجات” بسبب كلماتها، وأصبح هتاف النساء “زان – زينداجي – آزادي/ المرأة، الحياة، الحرية” رمزًا مع خروج آلاف النساء إلى الشوارع، وتضامنت العديد من الناشطات حول العالم مع كفاح الإيرانيات، واستخدمن الرمز السياسي المعبر عن الحداد، بقص شعرهن.
واحتفت النساء بالأرض وبكد الفلاحين والفلاحات عبر الغناء، ففي فلسطين مثلًا، غنت النساء في مواسم الحصاد كأغنية “منجلي يا منجلاه”، واليوم نتلمس الجهود الحثيثة لإحياء مثل هذا التراث الذي تعتنقه النسوية البيئية كسلوك سياسي مقاوم، في محاولة لإعادة مركزية الأرض وحيوية الطبيعة والتنوع البيئي في علاقة الإنسان مع محيطه بعد أن بترت المنظومة الاقتصادية والسياسية صلتنا بها، فالإنسان جزء من هذه الكينونة والصيرورة، وليس كائنًا منفصلًا عنهما، وأغاني الحصاد هي خيط جامع لطقوس اجتماعية وثقافية ومعارف قديمة أصيلة مرتبطة بالطبيعة والسيادة الغذائية والاستشفاء بعيدًا عن الاستهلاكية ونماذج الاستغلال الرأسمالي للأرض.
ومنذ الاحتلال العثماني، كان للفلسطينيات دور سياسي في دعم المقاومة، وابتكرن آلية تورية في غناء قديم يُعرف باسم “الترويدة”، وذلك عبر غنائهن، وبشكل جماعي “المولالاه”، فقد كن صلات وصل بين المقاومين في أماكن اختبائهم وبين المعتقلين في السجون، وأوصلن خلال زيارتهن للطرفين رسائل سياسية سرية، بطريقة لا تسمح للعدو بفهمها، وذلك عبر إضافة حرف “اللام” على جميع الكلمات، كأغنية “يا طالعين الجبل” و”ترويدة الشمالي”، وحافظن على إيقاع النغم وجماليته بشكل لا تزال تلك الأغاني حية حتى يومنا هذا.
لا يقتصر دور الفن الاحتجاجي الثوري على التعبير عن المقاومة وتضخيم الأصوات واستنهاض الهمم ضد هياكل القمع وتقاطعيتها، بل إنه فن يوثق التاريخ الشفوي والبصري للشعوب ويترك أثرًا ملهمًا للأجيال لتواصل النضال.