عنب بلدي – جنى العيسى
في 17 من آذار الحالي، أعلن وزير الصحة في حكومة النظام السوري، حسن الغباش، عن سعي حكومة النظام لرسم خطة تتعلق بفتح الباب أمام الاستثمار في القطاع الصحي.
إعلان الوزير جاء ضمن ندوة حوارية حملت عنوان “الاستثمار في القطاع الصحي.. الإمكانات والغايات”، نوقشت خلالها عدة محاور منها التشاركية بين القطاعين العام والخاص في إدارة المنشآت الطبية.
ولفت الوزير إلى بدء الحكومة بالعمل على تحويل جميع المستشفيات إلى هيئات عامة ومستقلة لها خصوصيتها الإدارية والمالية.
بحجة الارتقاء بالخدمة
توجه حكومة النظام لخصخصة القطاع الطبي يأتي في وقت تتجه فيه لخصخصة معظم القطاعات الإنتاجية والخدمية في مناطق سيطرتها.
تعني الخصخصة تحويل ملكية أو إدارة أو تنظيم قطاع حكومي إلى القطاع الخاص ضمن ثلاثة مستويات:
المستوى الأول: تحويل القطاع الحكومي للقطاع الخاص بشكل كامل مع وجود رقابة حكومية.
المستوى الثاني: الخصخصة الجزئية أو التشاركية، ويتبعها النظام السوري، وهي بيع جزء من القطاع العام فقط مع وجود رقابة حكومية.
المستوى الثالث: إطلاق يد الخصخصة بالمطلق دون أي رقابة حكومية مع حرية للقطاع الخاص بتحديد الأسعار.
تقرر الدول خصخصة بعض القطاعات لرفع ثقل إدارتها عن كاهل الحكومة، ودمج القطاع الخاص في الاقتصاد، ومحاولة رفع جودة القطاعات المستهدفة وتحسين إنتاجية ودخل الفرد.
اقرأ أيضًا: النظام يبيع ما تبقى من موارد الدولة بالخصخصة والتشاركية
وفي القطاع الطبي خصوصًا، عزت حكومة النظام توجهها لفتح باب الاستثمار إلى “الارتقاء بتقديم الخدمة الصحية التي أصبحت شديدة التكلفة، وليس تحويل القطاع الصحي الخدمي إلى قطاع يدر المال”، بحسب ما جاء على لسان معاون وزير الصحة، أحمد ضميرية.
تخفيف دعم
الباحث المساعد في مركز “جسور للدراسات” المختص بالشؤون الاقتصادية عبد العظيم المغربل، قال لعنب بلدي، إن توجه النظام لخصخصة القطاع الطبي يأتي ضمن سلسلة سياسات سابقة للنظام، دلالة على سعيه لتخفيف الأعباء المالية، وتحقيق عائد مادي لتخفيف الديون المتراكمة عليه، من خلال سحب يده جزئيًا من بعض القطاعات.
ويرى المغربل أن دلالات فتح باب الاستثمار في مجال الصحة تتمحور بشكل رئيس حول ضعف قدرة النظام على إدارة هذا القطاع ماليًا وتأمين المستلزمات الطبية بالشكل المناسب، وبالتالي فإن ترك القطاع الصحي للاستثمار يخفف عن كاهل النظام مصاريف والتزامات عديدة، فضلًا عن تحويل الدعم المقدم للقطاع الصحي لقطاعات يراها أكثر فاعلية.
أشارت دراسة صادرة عن مركز “جسور للدراسات” في تموز 2022، إلى أن النظام يتبع سياسة تحويل المؤسسات إلى “هيئات مستقلة” للبحث عن آليات لتنويع مصادر الحكومة “في سبيل رد الدين المتراكم لحلفائه، وتعزيز قدرة الحكومة على الاستمرار في تقديم أعمالها”.
وشهدت مرحلة إنشاء الهيئات العامة انقطاعًا ملحوظًا في سوريا، وهي تقسم إلى مرحلتين، الأولى كانت تتعلق بتحسين كفاءة مؤسسات الحكومة وتحسين قدرتها على الإدارة، والثانية تمثّلت بتحسين موارد الدولة، بحسب الدراسة، مستدلة بذلك على أمرين، الأول طبيعة الهيئات المنشأة قبل 2011 والتي حملت طبيعة إدارية لتحسين واقع القطاع، كما هي الحال في “هيئة التمويل العقاري” و”هيئة تنمية البادية السورية”، وطبيعة الهيئات المنشأة مؤخرًا كهيئة لإدارة كل مدينة جامعية، وهيئة لإدارة مستشفى بحد ذاته، وهيئة لإدارة الثروات السمكية على مستوى فرعي في كل منطقة.
والأمر الثاني هو السياق العام الذي حمله تأسيس الهيئات العامة مؤخرًا، والذي يأتي وسط حملة إصلاح مالي وتنويع مصادر الحكومة من خلال تخفيض الدعم ورفع الضرائب واستحداث رسوم عامة.
“السوق الاجتماعي” يتسارع
مدير البرنامج السوري في “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية”، والدكتور في الاقتصاد، كرم شعار، قال لعنب بلدي، إن هذا التوجه بدأ مع بدء عمل رئيس النظام السوري، بشار الأسد، على خطة “اقتصاد السوق الاجتماعي” مقابل الابتعاد عن الفكر الاشتراكي في عام 2005.
ويرتبط هذا التوجه بتخفيف الدعم عن السلع والخدمات الأساسية في سبيل تخفيض إنفاق الدولة والاعتماد على القطاع الخاص بشكل أكبر، وفق شعار، مشيرًا إلى أن التوجه مر بالعديد من المراحل منذ 2005 وحتى هذا الوقت، إذ بدا هذا الطرح متسارعًا جدًا عقب 2019، العام الذي شهد فيه النظام أزمة اقتصادية غير مسبوقة.
ويحمل هذا التوجه، بحسب ما يراه كرم شعار، دلالات اقتصادية منها محاولة تخفيض مصاريف الدولة للاستجابة للوضع الاقتصادي الحالي، ودلالات سياسية أهمها أن النظام السوري يفكر بعقلية ينفي من خلالها وجود أي تسوية سياسية قد تؤدي إلى انتعاش الاستثمار أو زيادة موارد الدولة.
اقتصاد السوق أو الاقتصاد الحر أو نظام الاقتصاد الرأسمالي، هو نظام يسمح للفرد بالقيام بأي نشاط اقتصادي يريده، وافتتاح أي مشروع بالإضافة إلى حرية التعاقد بين الأفراد والمؤسسات، دون تدخل الدولة أو أجهزتها بذلك، بمعنى أن تترك الدولة السوق يضبط نفسه بنفسه دون أي تدخل في الأنشطة الاقتصادية.
وجود نظام اقتصاد السوق الحر لا يعني غياب الدولة والقطاع العام في تنظيم الحياة الاقتصادية داخل المجتمع، لأن الاقتصاد الحر قد يتسبب في احتكار بعض المؤسسات والأفراد للسوق من خلال احتكار المنتجات، لذلك نشأت فكرة “الاقتصاد الاجتماعي”، وهو بين الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الاشتراكي، وتسعى الدولة من خلاله إلى تحقيق الموازنة والمساواة بين أفراد الوطن، وإعطاء الطبقات المتوسطة والفقيرة حقوقها.
ومن أهم فوائد الاقتصاد الحر زيادة كفاءة السوق، وظهور مجموعة متنوعة من السلع بأسعار منخفضة، نتيجة وجود منافسة تؤدي إلى توفير السلع بأحسن جودة وأفضل الأسعار.
لكن عيوبه تكمن في الهيمنة على بعض القطاعات والتحكم بأسعارها (الاحتكار)، إضافة إلى ازدياد حجم النشاط الاقتصادي في فترة معينة وتقلصه وركوده في فترة أخرى، ما يسبب تقلبًا اقتصاديًا وزيادة البطالة.
الناس متأثرون
خلال الندوة التي عقدتها وزارة الصحة، صرح الوزير، حسن الغباش، أن الخدمة الطبية المجانية بالمطلق بمكان معين واجبة، ولكن أيضًا لها الكثير من المساوئ انطلاقًا من أن الخدمة المجانية يجب أن تذهب لمن يستحقها، وضرورة تعديل بعض التشريعات الأساسية التي لها علاقة بهذا الموضوع.
يعد المقيمون في مناطق سيطرة النظام أبرز المتأثرين بقرار خصخصة القطاع، ممن يعانون بالأساس من أوضاع معيشية صعبة، وحد أدنى للرواتب لا يكفي لمصاريف أساسية من طعام وشراب إلا لعدة أيام في الشهر.
في هذا السياق، اعتبر الدكتور كرم شعار، أن الحكومة تنوي توصيل الخدمات الصحية بشكل مجاني إلى فئة ضيقة جدًا، وفق تعريفها للأشخاص المحتاجين للدعم، بغض النظر عن المعايير الأممية.
وتتطلب البنية التحتية للخدمات الصحية الأساسية، مثل المستشفيات ومراكز الصحة، إعادة صيانة وتأهيل، بحسب تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، وثق فيه أزمة القطاع الصحي في سوريا لعام 2022.
وذكر التقرير أن القطاع الصحي يعاني من أزمة، ونسبة كبيرة من المراكز إما خارج الخدمة وإما متوقفة جزئيًا، في حين بلغ عدد الأشخاص الذين هم بحاجة لرعاية صحية 15 مليونًا، بالإضافة إلى 6.9 مليون نازح داخل سوريا
وخلال عام 2022، وصل عدد المستشفيات إلى 113 في عموم سوريا، 26% منها تعمل بشكل جزئي و27% منها خارج الخدمة، ومن بين 1789 مركزًا صحيًا تعمل نسبة 21% جزئيًا و32% خارج الخدمة تمامًا.
وأوضح التقرير أنه لا يمكن معالجة هذه الفجوات إلا من خلال الاستثمار طويل الأجل.
ويوجد نقص مزمن في طاقم الرعاية الصحية بسبب النزوح والهجمات وتدني الرواتب.
وتشير التقديرات إلى أن ما يصل إلى 50% من القوى العاملة الصحية غادرت سوريا، وفقًا للتقرير.