عنب بلدي – يامن مغربي
اندفع آلاف السوريين إلى الشوارع في عشرات المدن والقرى والبلدات في سوريا منذ آذار 2011، إذ تحدوا الخوف وجمعهم “الأمل” بإسقاط النظام وبناء مستقبل أفضل، لكن أجهزة النظام اشتغلت على إضعاف إرادة الناس بالاعتقال أو العنف والقصف، وحتى بث النعرات وإثارة الخوف المتبادل بين مختلف مكونات الطيف الاجتماعي في البلاد.
مع اندلاع العنف لجأ آلاف السوريين ممن تعرضت مدنهم للقصف إلى دول الجوار، ولاحقًا إلى أوروبا، وكان الدافع الأساسي للجوء تجنب الموت والاعتقال من قبل قوات النظام السوري.
بعد سنوات، وفي 2024، لم تتوقف الهجرة، مع اختلاف أسبابها ودوافعها، ولم تعد سوريا كما عرفها أهلها، وحل الانقسام حول أبسط التفاصيل، وسط أزمات معيشية واقتصادية وسياسية حادة، وحصل تقسيم جغرافي تحت سلطات الأمر الواقع في أربع مناطق مختلفة.
ووسط هذه الظروف كلها، والانقسام الحاصل، ربما يشترك معظم السوريين داخل البلاد بحلم واحد، وهو الهجرة والسفر إلى بلد آخر يوفر لهم أملًا بمستقبل أفضل، سواء كان ذلك بشكل دائم بالوصول لإحدى الدول الأوروبية، أو إلى البلدان المجاورة لسوريا، وتحديدًا العراق أو الإمارات، بحثًا عن عمل.
وبعد أن كانت الأسباب السياسية والهرب من الحرب والعنف الدافع الأساسي لهجرة مئات الآلاف، أصبحت الظروف المعيشية والاقتصادية والخدمية سببًا رئيسًا كذلك.
الظروف الأمنية والخدمة العسكرية
“هي البلد ما بينعاش فيها، لو معي مصاري سافر ما ضليت”، قالت هدى الحمد، من مدينة القامشلي، شمال شرقي سوريا، لعنب بلدي.
وأضافت أن الهجرة أصبحت حلم كل شخص سوري يعيش داخل سوريا، بسبب الظروف الصعبة التي تحيط بالسوريين.
ليست هدى وحدها من تفكر بنفس الطريقة ممن التقتهم عنب بلدي، الحال نفسها تنطبق على عبد العزيز المطلق (23 عامًا)، طالب كلية العلوم في مدينة الحسكة.
يريد عبد العزيز السفر بمجرد الانتهاء من دراسته وبأي طريقة كانت، معتبرًا أن الهجرة إلى خارج البلاد أصبحت الحل الوحيد للشباب، لتفادي الخدمة العسكرية الإجبارية، سواء في صفوف “قسد” أو النظام، بالإضافة إلى الملاحقات الأمنية والظروف المعيشية الصعبة.
ورغم الظروف الحالية الصعبة، وضع عبد العزيز خطته للهجرة بالفعل، عبر السفر إلى تركيا ثم إلى بلغاريا ثم إلى ألمانيا، وتقدر تكلفة هذه الرحلة بحوالي 15 ألف دولار أمريكي.
وتقف الظروف المادية الحالية عائقًا أمام هجرة عبد العزيز، وقال لعنب بلدي، إن تلك الخطوة ترتب تكاليف مالية كبيرة، ما قد يضطر والديه لبيع محل البقالة الذي يملكانه ليتمكن من تأمين رحلته.
أبدى عبد العزيز استعداده للانتظار حتى انتهاء دراسته في الجامعة قبل الهجرة، مع وجود أخوين له مهاجرين بالفعل في النمسا وألمانيا.
دوافع اقتصادية
محمد الجداع (29 عامًا)، يعمل في المياومة، يتقاضى حوالي 50 ألف ليرة سورية، قال لعنب بلدي، إن ما يتقاضاه “لا يسد رمق عائلته المكونة من خمسة أشخاص”.
أكد محمد رغبته بالهجرة، ولكن توفير المبلغ المطلوب لاتخاذ هذه الخطوة بات أمرًا صعبًا، لعدم امتلاكه ما يمكن بيعه لتغطية تكاليف الرحلة، وليس أمامه سوى الاستدانة بالمؤجل والتي تعني مضاعفة المبلغ عند السداد.
لا يختلف ظرف يوسف (25 عامًا) من محافظة إدلب شمال غربي سوريا كثيرًا، وقال لعنب بلدي، إنه ينتظر فرصة جديدة للدخول إلى تركيا والعبور منها إلى أوروبا، رغم ما ينتظره من مخاطر عبور الحدود، مع الإجراءات المشددة من قبل حرس الحدود التركي.
وفق يوسف، فإن الدافع الأساسي للهجرة هو العامل الاقتصادي في المقام الأول، وعدم وجود أفق واضح للمستقبل.
ولا تتجاوز الأجرة اليومية للعمال في إدلب 100 ليرة تركية (ثلاث دولارات أمريكية تقريبًا).
ويبلغ الحد الأدنى للرواتب في مناطق شمال شرقي سوريا حيث تسيطر “الإدارة الذاتية” مليون ليرة سورية (71.5 دولار)، ويتراوح الحد الأدنى لرواتب الموظفين في مناطق سيطرة “الحكومة السورية المؤقتة” بريفي حلب الشمالي والشرقي وتل أبيض ورأس العين بين 35 و59 دولارًا أمريكيًا.
وتبلغ نسبة الفقر 90% بين السوريين، و70% من السكان، أي نحو 15 مليون سوري بحاجة لمساعدات إنسانية، وفق أرقام الأمم المتحدة.
وتبلغ تكلفة النداء الإنساني 11.1 مليار دولار، وهو الأكبر على مستوى العالم، كما أن الأمن المائي غائب، إذ تعد سوريا من أكثر البلاد عرضة للجفاف.
وشكّل السوريون أكبر مجموعات المتقدمين، وفقًا لبيانات “EUAA”، إذ قدموا 181 ألف طلب لجوء، وسجلوا زيادة بنسبة 38% مقارنة بعام 2022.
واحتل السوريون المرتبة الأولى في طلبات اللجوء المقدمة إلى ألمانيا منذ مطلع عام 2024، بعدد كلي وصل إلى 14456 طلب لجوء، من بينهم 14024 طلب لجوء أوليًا، و432 طلب متابعة.
وارتفعت طلبات اللجوء في الاتحاد الأوروبي بنسبة 18% خلال عام 2023، وفق بيانات نشرتها وكالة اللجوء التابعة للاتحاد الأوروبي (EUAA)، في 28 من شباط الماضي.
أربع جغرافيات متشابهة
ظروف السوريين ضمن مختلف مناطق السيطرة لا تختلف كثيرًا، وتعد السبب الجامع لهم للتفكير بترك البلاد.
يعيش السوريون داخل البلاد اليوم ضمن أربع مناطق جغرافية، إذ يسيطر النظام على المساحة الكبرى، وضمنها محافظات رئيسة كالعاصمة دمشق، وحلب العاصمة الاقتصادية، ومحافظات حمص وحماة ومدن الساحل كلها، مع نفوذ محدود جنوبًا في السويداء ودرعا، وفي الشمال الشرقي بدير الزور.
بينما تسيطر “هيئة تحرير الشام” على محافظة إدلب وبعض قراها وقرى ريف اللاذقية.
وفي شمال شرقي سوريا، تسيطر “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على معظم مناطق شرقي نهر الفرات، بينما تتبع مناطق في ريف حلب لـ”الحكومة المؤقتة” وفصائل “الجيش الوطني” المدعوم تركيًا.
رولا (38 عامًا)، متزوجة ولديها ثلاثة أبناء من سكان حي الصالحية بدمشق، قالت لعنب بلدي، إن فكرة الهجرة تراودها باستمرار منذ سنوات، وحاولت الهجرة منذ أربع سنوات عن طريق طلب “فيزا” سياحية من السفارة الفرنسية ببيروت، لكن السفارة رفضت طلبها.
غامرت رولا بإرسال ابنها الذي لم يتجاوز عمره 15 عامًا إلى هولندا، عبر ليبيا ثم إيطاليا، وبعد وصوله بفترة قصيرة قدّم طلب لم الشمل لعائلته، وما زالت بانتظار الموافقة للحاق به.
وأشارت رولا إلى أن الوضع الأمني والمعيشي لم يعد باستطاعة أحد تحمله، خاصة مع ارتفاع الأسعار بشكل كبير، وازدياد الفساد في كل مكان، وتتخوف رولا من أن يكون القادم أسوأ بكثير، أو أن تصدر قرارات أوروبية لا تسمح لأحد بعدها بالهجرة.
فيما قال سمير (55 عامًا)، من حي القصور في مدينة حمص وسط سوريا، إن ظروفه الصحية لن تمنعه من محاولة السفر.
يعاني سمير من أمراض في القلب، واضطر في 2014 لإجراء عمل جراحي، وبعد عشر سنوات قرر الهجرة عبر ليبيا إلى أوروبا، وباع منزله بالفعل، وهو بانتظار انتهاء فصل الشتاء للسفر.
وأشار سمير إلى أن الانتظار للتخلص من حياة أشبه بالاعتقال مرهق للغاية.
ويبلغ الحد الأدنى للرواتب الحكومية في مناطق سيطرة النظام السوري 279 ألف ليرة سورية (نحو 20 دولارًا)، وتتراوح الرواتب الحكومية في مناطق سيطرة حكومة “الإنقاذ” بإدلب بين 80 و110 دولارات.
يتحدث محمد عن الخوف اليومي والتفكير بما قد يصادفه خلال رحلة الهجرة، لكن بمقارنة صغيرة فإن مخاطر التفكير أرحم بكثير من مخاطر العيش في سوريا، فلم تعد هذه البلاد صالحة لعيش الإنسان، في ظل الفساد والقمع المتزايد والحياة الاقتصادية الصعبة، وفق ما قاله لعنب بلدي.
وشهدت قبرص في الأشهر الأخيرة من 2023 ارتفاعًا في عدد المهاجرين الذين يصلون بالقوارب، مع تسجيل زيادة بنسبة 60% معظمهم سوريون، يصلون عن طريق البحر من سوريا ولبنان.
ويشكل المهاجرون القادمون من تركيا أو سوريا ولبنان، عبر البحر المتوسط، إلى شواطئ قبرص 5% من طالبي اللجوء، والنسبة المتبقية للقادمين من شمال قبرص التركية، حسب دراسة أعدها مكتب الصحافة والإعلام، الذي ترعاه وزارة الداخلية في جمهورية قبرص اليونانية.
مركز “السياسات وبحوث العمليات” (OPC) نشر، في 5 من أيار 2021، دراسة استقصائية حاولت فهم دوافع الهجرة الطوعية لبعض سكان مدينة دمشق إلى خارج سوريا، والعوامل التي تعزز التوجه إلى الهجرة، بالتزامن مع ما تشهده مناطق سورية من التردي الاستثنائي في مستويات المعيشة.
الأغلبية العظمى من المستجيبين عبروا عن رغبتهم في الهجرة من سوريا، إذ بلغت نسبة هؤلاء أكثر من 63%، بينما الذين لا يملكون الدافع نحو الهجرة كانت نسبتهم 36.5%.
وبلغ عدد الموتى والمفقودين في البحر الأبيض المتوسط خلال العام الماضي 3760 شخصًا، بحسب بوابة البيانات التشغيلية التابعة للمفوضية السامية للأمم المتحدة.
في أحدث إحصائية لها، في 29 من كانون الثاني الماضي، قالت منظمة الدولية للهجرة، إن ما يقارب 100 مهاجر توفوا أو فقدوا في وسط وشرق البحر المتوسط في كانون الثاني من عام 2024.
وأضافت المنظمة عبر موقعها الرسمي، أن الرقم كان أعلى من الضعف في نفس الإطار الزمني من العام الماضي.