على عكس المسار الذي سلكته روسيا خلال السنوات الماضية، علّقت موسكو مرتين مؤخرًا على ضربات إسرائيلية لمواقع عسكرية في دمشق وحلب داخل سوريا، بعد أن كان تعليقها متباعدًا زمنيًا ومكرورًا.
يفصل بين التعليقين ثمانية أيام، جاء الأول على لسان مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، الذي اعتبر أن الغارات الإسرائيلية على سوريا “تهدد بمواجهة إقليمية شاملة”، وذلك خلال اجتماع لمجلس الأمن الدولي.
بينما جاء الثاني من قبل المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، التي وصفت الضربات الإسرائيلية بأنها “غير مقبولة على الإطلاق واستفزازية ومحفوفة بالمخاطر”.
ويعد تعليق موسكو على الضربات الإسرائيلية مرتين في وقت قصير أمرًا لافتًا، خاصة أنها التزمت الصمت لعشرات الضربات، بينما لم تتوقف هجمات إسرائيل عن مواقع متفرقة ونقاطًا عسكرية في العاصمة دمشق وريفها وحلب وأرياف حماة وطرطوس وحمص.
ومنذ نحو أربع سنوات، تكاد التصريحات الروسية المتعلقة بإدانة الاستهداف الإسرائيلي لمواقع في سوريا تعد على الأصابع، وعلى فترات متباعدة.
“تهدد بمواجهة إقليمية”
في 21 من آذار الحالي، قال فاسيلي نيبينزيا، إن الغارات الإسرائيلية على سوريا “تهدد بمواجهة إقليمية شاملة”، مضيفًا أن موسكو تشعر بالقلق بشكل خاص إزاء تكثيف الهجمات الإسرائيلية.
وذكر نيبينزيا أن مثل هذه الأعمال “غير المسؤولة تحمل خطر جر سوريا وعدد من جيرانها إلى مواجهة إقليمية واسعة النطاق”.
وعقب ضربات إسرائيلية استهدفت أحد المواقع بريف العاصمة دمشق، ومناطق متفرقة في مدينة حلب، أسفرت عن مقتل 40 شخصًا في 29 من آذار الحالي، قالت زاخاروفا، إن الضربات الإسرائيلية على سوريا “غير مقبولة على الإطلاق”، وإن موسكو تدين هذه التصرفات وتعتبرها “استفزازية” ومحفوفة بالمخاطر.
وأضافت زاخاروفا أن مثل هذه “الأعمال العدوانية” تشكل انتهاكًا صارخًا لسيادة سوريا وللقواعد الأساسية للقانون الدولي، وتحمل عواقب خطيرة للغاية في سياق تدهور وضع المنطقة.
وبحسب رصد عنب بلدي فإن أحدث تعليق لموسكو على الغارات الإسرائيلية في سوريا يعود إلى كانون الثاني الماضي، حين استهدفت ” إسرائيل مركزًا استشاريًا عسكريًا إيرانيًا في منطقة السيدة زينب بريف دمشق، وقالت زاخاروفا حينها، إن الضربات “انتهاك صارخ” لسيادة سوريا وللقانون الدولي.
سبق ذلك التعليق، تنديد روسيا بالضربات على مطار “دمشق” الدولي، في تشرين الثاني 2023، حين وصفتها بأنها استفزازية وخطيرة، وذكرت أنها قد تؤدي إلى تفاقم التوتر في “المنطقة المشتعلة بسبب الحرب في غزة”.
وقالت زاخاروفا حينها، “نحن على قناعة بأن مثل هذه الممارسة البغيضة محفوفة بعواقب خطيرة للغاية، لا سيما في سياق التفاقم الحاد للوضع في منطقة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وما ينتج عنه من زيادة في التوتر بالمنطقة”.
“تنديد علني وقبول ضمني”
تندد موسكو بتلك الضربات وتبدي عدم الرضا عنها، وتشير التصريحات الرسمية الروسية العلنية إلى عدم وجود اتفاق مع إسرائيل على السماح لها باستهداف مواقع في سوريا، لكن التفاهمات الروسية- الإسرائيلية لم تعد خفية أو حبيسة الغرف المغلقة، إنما كانت واضحة ومنذ سنوات.
في 24 من تشرين الأول 2021، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، نفتالي بينيت، عقب لقائه بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إن روسيا أبدت اهتمامًا واضحًا باحتياجات إسرائيل الأمنية فيما يتعلق بالوضع في سوريا.
وأوضح بينيت أن الاجتماع مع بوتين شهد اتفاقات جديدة ومستقرة (لم يذكر تفاصيلها)، مضيفًا أنه وجد لدى الرئيس الروسي “أذنًا مصغية بشأن احتياجات إسرائيل الأمنية”.
وفي 2 من تشرين الثاني 2021، تحدثت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية عن توافق روسي- إسرائيلي على إخراج إيران من المشهد السوري، جرى خلال لقاء بينيت وبوتين (في 22 من تشرين الأول 2021).
وذكرت الصحيفة أن إسرائيل تعمل على “المهمة الصعبة المتمثلة بتدمير أحلام إيران بالهيمنة الإقليمية”، عبر شنّ مئات الضربات الجوية ضد مواقعها في سوريا.
ونقلت الصحيفة عن وزير البناء والإسكان الإسرائيلي، زئيف إلكين، الذي كان مترجمًا للقاء بوتين وبينيت، إن الجانبين اتفقا على استمرار سياسة إسرائيل تجاه سوريا، بما في ذلك الضربات الجوية.
تصعيد دبلوماسي لا عسكري
مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز “الدراسات العربية الأوراسية”، الباحث ديمتري بريجع، قال لعنب بلدي إن روسيا مع أنها تدين إسرائيل، لكن هناك تفاهمات روسية- إسرائيلية حيال الملف السوري، وهذا التفاهم ليس بجديد بل منذ عام 2016، لذلك روسيا تدين الضربات، مستبعدًا أن يصل الأمر لرد عسكري روسي في الوقت الحالي، لأن ذلك يعني اصطدامًا مباشرًا بين روسيا وبين إسرائيل وحلفائها.
ويرى بريجع أن تعليق موسكو على الضربات الإسرائيلية يظهر استنكارًا شديدًا، وتبدي روسيا قلقها من تصاعد التوترات وتأثيرها على الوضع الإقليمي، ويبدو أن الهدف من هذا التصريح، التأكيد على أن الأعمال العسكرية الإسرائيلية تشكل تهديدًا للاستقرار الإقليمي، وتزيد من توتر الوضع في سوريا.
ويعتقد الباحث بريجع بإمكانية أن يحمل توقيت التعليق دلالات على تفاهمات محتملة مستقبلية بين روسيا وإسرائيل فيما يتعلق بالوضع في سوريا، وقد يكون التعليق إشارة إلى ضرورة التصعيد الدبلوماسي بدلًا من التصعيد العسكري.
وقد يكون وفق بريجع، محاولة لتخفيف التوترات وإيجاد حلول سلمية للنزاعات القائمة في سوريا، بالإضافة إلى ذلك، قد تكون هناك رغبة في الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين رغم الاختلافات في النهج تجاه الأزمة السورية.
“لدى موسكو وإسرائيل تفاهات وعلاقات فريدة، رغم وجود ملفات معقدة وصعبة كفلسطين وحرب أوكرانيا، وهناك تنافس بين روسيا والغرب، لكن إسرائيل جزء من الغرب، لذلك لم تكن موسكو صديقة لها من جهة، ولا عدوة من جهة أخرى، ولن تصل هذه المناوشات إلى صدام مباشر”.
ديمتري بريجع – باحث ومدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية |
قصف مستمر يقابله وعود بالرد
بعد ساعات من الغارات، لوّح وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، بتوسيع عمليات الاغتيال والاستهدافات الإسرائيلية في سوريا ولبنان، وذلك خلال زيارة أجراها إلى مقر “القيادة الشمالية” للجيش الإسرائيلي، قريبًا من الحدود مع لبنان.
وأكد غالانت على مواصلة ملاحقة “حزب الله” أينما كان يعمل، وزيادة الضغط ومعدل الهجمات حتى تحقيق الأهداف الإسرائيلية، وإحداث تغيير في الواقع الأمني في الشمال (قرب الحدود مع الجنوب اللبناني)، وعودة “السكان” (في إشارة إلى المستوطنين)، إلى ما قال إنها “منازلهم” سالمين.
في المقابل، تبقى تصريحات النظام السوري بخصوص الرد على ضربات إسرائيل في سوريا حبيسة البيانات والمؤتمرات الصحفية، ويكتفي بالتهديد بالرد والتنديد بأي استهداف.
وفي 11 من شباط الماضي، قال وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، إن سوريا خاضت حروبًا عديدة ضد إسرائيل، ولا تزال على استعداد تام لخوض حروب أخرى تقرر فيها متى وأين وكيف، مشيرًا إلى أن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري “أولوية ومهمة مقدسة للشعب السوري”.
واعتبر المقداد أن سبب الهجمات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية التي تنتهك القانون الدولي، هو “مقاومة سورية لهذا الكيان ومخططاته منذ إقامته على أرض فلسطين واحتلاله للأراضي العربية”.
وأشار إلى أن المقاومة تأخذ أشكالًا مختلفة، مبديًا استعداد سوريا لخوض “حرب جديدة” ضد إسرائيل، على حد قوله.